أيقظت المدنية الأوربية العالم كله، ووجهته إلى حياة جديدة من العزة والقوة فمن الشعوب الشرقية من سار إلى هذه الحياة من طريقها فأدركها، و (كل من سار على الدرب وصل) وكل قارئ يعلم أن هذا هو الشعب الياباني، وهناك قوم آخرون من الوثنيين في الهند يسيرون على هذه الطريق، ولو كان لهم استقلال في الحكم لصاروا دولة عظيمة. وأما الشعوب الإسلامية فقد وقفت أمام هذه المدنية موقف الحائر لا تدري كيف تستفيد منه وأول شعب إسلامي ولَّى شَطرها هو الشعب المصري، فإن حكامه حاولوا اقتباس هذه المدنية منذ مائة سنة ولكنهم لم يسيروا إليها من طريقها؛ فكانت العاقبة أن احتلت بلادهم دولة أوربية في الربع الأخير من القرن. لم يوجد للمسلمين حكومة تقودهم في الطريق الموصلة إلى النافع من هذه المدنية مع الترقي من مضارها، ولم يكن لهم زعماء في الدين والعلم؛ إذا قالوا يسمعون؛ وإذا هدوا يتبعون، بل ظهر في شعوبهم المتمتعة بشيء من وشل الحرية أو غمرها (كمسلمي روسيا والهند ومصر) كتاب ومؤلفون يدعون إلى شيء من الإصلاح الاجتماعي الذي حولت العالم إليه مدنية أوربا، ولكن صوت العارف الناصح من هؤلاء الكتاب يكاد يخفى بين ضوضاء الغوغاء من المتطفلين والمقلدين والمتَّجرين بالكتابة والصحافة، ولا غرض لهم منها إلا إرضاء عامة الدهماء، أو التزلف إلى بعض الحكومات أو الرؤساء، ولو من الأجانب والغرباء، والدهماء في جهل مبين، لا تميز بين الغث والسمين. لا يكاد يوجد أصل من أصول الإصلاح الذي يحتاج إليه المسلمون إلا وله في دينهم دليل يرشد إليه، أو سبق عمل يعول عليه، وقد حكموا التقاليد والعادات في أعمالهم فلا إلى هدي الدين يرجعون، ولا بما تقضي به حال العصر يعتبرون، وإنما تتدافعهم التقاليد القديمة والحديثة فيندفعون، ولا يدرون في أي طريق يسيرون ولا إلى أي غاية يصيرون. أمامك مسألة تربية النساء وتعليمهن وهي من أعظم مسائل الاجتماع في هذا العصر والمسلمون في حيرة لا يدرون الصواب فيها، وقد كثر اختلاف الكتاب والمصنفين فيها، حتى كأنهم في مجموعهم خيال ذلك الشاعر الذي أوردنا كلامه المتناقض في النساء آنفًا. صاح بعض الكتاب في الهند ومصر أن علموا النساء وربوهن، فلا ارتقاء لكم مع جهلهن، فصاح بهم آخرون إنكم مخطئون، تفسدون في الأرض ولا تصلحون، وقد سمعنا في هذه الأيام صيحة جديدة من مسلمي روسيا فإن أحمد بك آجايف أحد كتابهم المشهورين ألف كتابًا باللغة الروسية سماه حقوق المرأة في الإسلام، ونقله إلى اللغة العربية سليم أفندي قبعين وطبعه وقدمه إلى قاسم بك أمين الذي فتح بمصر باب الفتح في (مسألة النساء) بكتابه (تحرير المرأة) ثم كتابه (المرأة الجديدة) . ليتني كنت أدري ماذا كان لكتابه من التأثير في بلاده، ولعله كان أقرب إلى قلوب الجمهور هناك من كتاب تحرير المرأة إلى قلوب الجمهور هنا؛ لأن الناس هناك أكثر اعتدالاً، وأشد استعدادًا فيما أظن، ولأن أسلوب الكتاب يوافق المسلمين عامة إذ برز في صورة الدفاع عن الإسلام والرد على الأجانب الذين يسيئون به الظن، ويكثرون فيه الطعن، فقد ذكر الكاتب شيئًا من إفك الإفرنج واختلاقهم في الإسلام، وطعنهم في النبي، عليه الصلاة والسلام. ثم ذكر إنصاف أفراد منهم عرفوا شيئًا من الحق؛ فنطقوا ببعض ما عرفوا. ومن هنا انتقل إلى الكلام في حقوق النساء في الإسلام؛ لأن الإفرنج يبالغون في الطعن بأحكام الإسلام في النساء، ويعدونها من أكبر علل الشقاء: ذكر ما كان عليه النساء في الأمة العربية وغيرها قبل الإصلاح الإسلامي ثم إنه ذكر الأحكام التي انفرد بها الإسلام في ذلك مستشهدًا بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأحكام الفقهية على بعض المذاهب وقد انتقل بعد ذلك إلى التاريخ فتناول منه شيئًا من سيرة المسلمات اللواتي اشتهرن بالعلم والأدب. ويقول المؤلف في الحجاب: إنه ليس من الإسلام في شيء. وجملة القول أن الكتاب نافع لا يخلو من أفكار جديدة ويقل فيه ما يتناوله النقد، فنشره مما يزيد المسلمين بصيرة في هذه المسألة إن كانوا يطلبون البصيرة ليعملوا بها، وأنى لنا العمل ومن ذا الذي يعمل، وهذه مصر التي يذكرها المؤلف ويظن أنها عاملة قد كثرت فيها الكتب المؤلفة في تربية المرأة وتعليمها لم تتغير الحال بها، بل لا تزال الأمة تتدحرج في التيار الذي قذفتها فيه الحرية الشخصية والتقليد الصوري فيزداد النساء تبرجًا وتهتكًا، وزمام تعليم البنات في أيدي الأوربيين، واللورد كرومر ينادي في تقريره الأخير بما علمه القراء في مقالات (الحياة الزوجية) فنحن في حاجة شديدة إلى مدرسة إسلامية للبنات كالمدرسة التي كان الأستاذ الإمام عازمًا على إنشائها للجمعية الخيرية وسترى ذكرها في ترجمته رحمه الله تعالى.