للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأحكام الشرعية
المتعلقة بالخلافة الإسلامية
لقد كانت الخلافة والسلطنة فتنة للناس في المسلمين كما كانت حكومة الملوك
فتنة لهم في سائر الأمم والملل، وكانت هذه المسألة نائمة، فأيقظتها الأحداث
الطارئة في هذه الأيام، إذ أسقط الترك دولة آل عثمان، وأسسوا من أنقاضها فيهم
دولة جمهورية بشكلٍ جديدٍ، من أصوله أنهم لا يقبلون أن يكون في حكومتهم
الجديدة سلطة لفردٍ من الأفراد لا باسم خليفة، ولا باسم سلطان، وأنهم قد فصلوا
بين الدين والسياسة فصلاً تامًّا، ولكنهم سموا أحد أفراد أسرة السلاطين السابقين،
خليفة روحيًّا لجميع المسلمين وحصروا هذه الخلافة في هذه الأسرة كما بينَّا ذلك
بالتفصيل في هذا الجزء وما قبله من المنار، لذلك كثر خوض الجرائد في مسألة
الخلافة وأحكامها، فكثر الخلط والخبط فيها، ولبس الحق بالباطل، فرأينا من
الواجب علينا أن نبين أحكام شريعتنا فيها بالتفصيل الذي يقتضيه المقام؛ ليعرف
الحق من الباطل، وأن نُقَفِّي على ذلك بمقال آخر في مكان نظام الخلافة من نظم
الحكومات الأخرى، وسيرة المسلمين فيه، وما ينبغي لهم في هذا الزمان، وأن
تأييدنا للحكومة التركية الجديدة لمما يوجب علينا هذا البيان والنصيحة، ونحن إنما
نؤيدها لمكان الدين، ومصلحة المسلمين، وما أضعف ديننا وأهله إلا محاباتهم
للأقوياء، فيه فكانت محاباة العلماء للملوك والخلفاء وبالاً عليهم وعلى الناس، وقد
أخذ الله الميثاق على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: ١٨٧) ،
{وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٤٢) ومن الله
نستمد الصواب، ونسأله الحكمة وفصل الخطاب:
(١) التعريف بالخلافة:
الخلافة، والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين ثلاث كلمات معناها واحد وهو
رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.
١- قال العلامة الأصولي المحقق السعد التفتازاني في متن مقاصد الطالبين،
في علم أصول عقائد الدين [١] : (الفصل الرابع أي من العقائد السمعية في الإمامة
وهي رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
٢- وقال العلامة الفقيه أبو الحسن علي بن محمد الماوردي في كتابه الأحكام
السلطانية [٢] : الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وكلام سائر علماء العقائد والفقهاء من جميع مذاهب أهل السنة لا يخرج عن
هذا المعنى، إلا أن الإمام الرازي زاد قيدًا في التعريف فقال: هي رئاسة عامة في
الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا
عزلوا الإمام لفسقه، قال السعد في شرح المقاصد بعد ذكر هذا القيد في التعريف
وما علله به: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد، واعتبر رئاستهم على من
عداهم أو على كل من آحاد الأمة اهـ.
(٢) حكم الإمامة أو نصب الخليفة:
أجمع سلف الأمة وأهل السنة وجمهور الطوائف الأخرى على أن نصب
الإمام أي توليته على الأمة واجبة على المسلمين شرعًا لا عقلاً فقط كما قال بعض
المعتزلة، واستدلوا بأمور لخصها السعد في متن المقاصد بقوله: لنا وجوه (الأول)
الإجماع، وبيّن في الشرح أن المراد إجماع الصحابة قال: وهو العمدة حتى
قدموه على دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الثاني) أنه لا يتم إلا به ما وجب
من إقامة الحدود وسد الثغور ونحو ذلك مما يتعلق بحفظ النظام (الثالث) أن فيه
جلب منافع ودفع مضار لا تحصى وذلك واجب إجماعًا (الرابع) وجوب طاعته
ومعرفته بالكتاب والسنة، وهو يقتضي وجوب حصوله وذلك بنصبه. اهـ،
ومعنى الأخير أن ما أجمعوا عليه من وجوب طاعته في المعروف شرعًا ووجوب
معرفته بالكتاب والسنة وكونها من أهم شروطه يقتضي أن نصبه واجب شرعًا،
وقد أطال السعد في شرح المقاصد في بيان هذه الوجوه وما اعترض به بعض
المبتدعة المخالفون عليها والجواب عنها.
وقد غفل هو وأمثاله عن الاستدلال على نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة
الواردة في التزام جماعة المسلمين وإمامهم، وفي بعضها التصريح بأن (من مات
وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم من حديث لابن عمر مرفوعًا،
وسيأتي حديث حذيفة المتفق عليه، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - له: (تلزم
جماعة المسلمين وإمامهم) .
(٣) مَن يُنَصِّب الخليفة ويَعزله:
اتفق أهل السنة على أن نصب الخليفة فرض كفاية، وأن المطالب به أهل
الحِل والعقد في الأمة، ووافقهم المعتزلة، والخوارج على أن الإمامة تنعقد ببيعة
أهل الحل والعقد. ولكن اضطرب كلام بعض العلماء في أهل الحل والعقد من هم؟
وهل تشترط مبايعتهم كلهم أم يكتفى بعدد معين منهم؟ أم لا يشترط العدد؟ وكان
ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم، إذ المتبادر منه
أنهم زعماء الأمة، وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم بحيث تتبعهم في
طاعة من يولونه عليها فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها
عليه، قال السعد في شرح المقاصد كغيره من المتكلمين والفقهاء: هم العلماء
والرؤساء ووجوه الناس [٣] ، زاد في المنهاج للنووي الذين يتيسر اجتماعهم، وعلله
شارحه الرملي بقوله: لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس. وهذا التعليل هو
غاية التحقيق منطوقًا ومفهومًا، فإذا لم يكن المبايعون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد
الإمامة بمبايعتهم.
وهذا هو المأخوذ من عمل الصحابة - رضي الله عنهم - في تولية الخلفاء
الراشدين فإن عمر عدَّ البدء في بيعة أبي بكر فلتة؛ لأنه وقع قبل أن يتم التشاور بين
جميع أهل الحِل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد من بني هاشم وهم في
ذروتهم، وتضافرت الروايات بأن أبا بكر رضي الله عنه أطال التشاور مع
كبراء الصحابة في ترشيح عمر، فلم يُعبه أحد له بشيء إلا شدته، وإن كانوا
يعترفون أنها في الحق، فكان يجيبهم بأنه يراه يلين فيشتد هو وهو وزيره
ليعتدل الأمر، وإن الأمر إذا آل إليه يلين في موضع اللين ويشتد في موضع الشدة -
حتى إذا رأى أنه أقنع جمهور الزعماء - وفي مقدمتهم علي كرَّم الله وجهه -
صرَّح باستخلافه فقبلوا ولم يشذ منهم أحد، ولمَّا طعن عمر رأى حصر الشورى
الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم
راضٍ؛ لعلمه أنه لا يتقدم عليهم أحد ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد؛ لأنهم هم
المرشحون للإمامة دون سواهم (وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد ابن أبي
وقاص، وعبد الرحمن بن عوف) ، ولما أخرج نفسه عبد الرحمن بن عوف منهم
وجعلوا له الاختيار بقي ثلاثًا لا تكتحل عينه بكثير نوم وهو يشاور كبراء
المهاجرين والأنصار، ولما رجّح عثمان دعا المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد،
فلما اجتمعوا عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر
صرّح لهم باختياره وبايعه هؤلاء كلهم، رواه البخاري في صحيحه وغيره.
والمراد بأمراء الأجناد ولاة الأقطار الكبرى مصر، والشام وحمص والكوفة
والبصرة، وكانوا قد حجّوا مع عمر في ذلك العام وحضروا معه المدينة، ولما
شذّ أحد هؤلاء الولاة وهو معاوية فلم يبايع عليًّا كرَّم الله وجهه - مع إجماع
سائر المسلمين على مبايعته كان من الفتنة وتفرُّق الكلمة ما كان، وإنما تصح
المبايعة باتفاقهم، أو اتفاق الأكثرين الذين يتبعهم غيرهم، ومن لم يتبعهم بالاختيار،
سهل عليهم إكراهه بقوة الأمة على الطاعة والانقياد، ومن رؤسائهم في هذا
العصر قوّاد الجيش، كوزير الحربية وأركان الحرب، ومتى تمت البيعة في
العاصمة وجب أن تتبعها الولايات بمبايعة ولاتها إذا كانوا يتبعون فيها، وإلا وجب
أن ينضم إليهم زعماء أهلها من العلماء والقوّاد وغيرهم.
وغلط بعض المعتزلة والفقهاء فقالوا: إن البيعة تنعقد دائمًا بخمسة ممن
يصلح للإمامة، بدليل ما أشار به عمر؛ إذ حصر الشورى في الستة المرشحين،
وقبل جميع الصحابة منه ذلك فكان إجماعًا، نعم كان إجماعًا في تلك الواقعة، لا
إجماعًا على ذلك العدد في كل مبايعة، وقالوا: إن مذهب الأشعري أنها تنعقد بعقد
واحد منهم إذا كان بمشهد من الشهود وهو غلط أوضح. وقد ذكر هذا القول الفقهاء
مقيدًا بما إذا انحصر الحل والعقد فيه [٤] بأن وثق زعماء الأمة به وفوَّضوا أمرهم
إليه، وهذا لم يقع ويندر أن يقع.
وإمامة عثمان لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة
لا خاصة به، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر، فإن الإمامة لم تنعقد بمبايعته وحده بل
بمتابعة الجماعة له، وقد صحَّ أن عمر أنكر على من زعم أن البيعة تنعقد بواحد من
غير مشاورة الجماعة وكان بلغه هذا القول في أثناء حجِّه فعزم على بيان حقيقة أمر
المبايعة وما يشترط فيها من الشورى على جماهير الحجاج، فذكره بعضهم بأن
الموسم يجمع أخلاط الناس ومن لا يفهمون المقال، فيطيرون به كل مطار، وأنه
يجب أن يرجئ هذا البيان إلى أن يعود إلى المدينة فيلقيه على أهل العلم والرأي
ففعل.
قال على منبر رسول - صلى الله عليه وسلم -: بلغني أن قائلاً منكم يقول:
والله لو مات عمر لبايعتُ فلانًا فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة
فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع إليه
الأعناق [٥] مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع
هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. ثم ساق خبر بيعة أبي بكر وما كان يخشى من
وقوع الفتنة بين المهاجرين والأنصار لولا تلك المبادرة بمبايعته للثقة بقبول سائر
المسلمين. رواه البخاري وقد أقرت جماعة الصحابة عمر على ذلك فكان إجماعًا.
فتحرر بهذا أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين
واختيار أهل الحِل والعقد ولا تعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وأن عمل
عمر (رضي الله عنه) خالف هذا الأصل القطعي فكان فلتة لمقتضيات خاصة لا
أصلاً شرعيًّا يعمل به، ومَن تصدّى لمثله فبايع أحدًا فلا يصح أن يكون هو ولا من
بايعه أهلاً للمبايعة، بل يكون ذلك تغريرًا قد يفضي إلى قتلهما إذا أحدث في الأمة
شقاقًَا يوجبه.
(٤) سلطة الأمة ومعنى الجماعة:
قال الله تعالى في وصف المؤمنين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى:
٣٨) ، والقرآن يخاطب جماعة المؤمنين بالأحكام التي يشرعها حتى أحكام القتال
ونحوها من الأمور العامة التي لا تتعلق بالأفراد كما بيَّناه في التفسير، وقد أمر
بطاعة أولي الأمر وهم جماعة لأولي الأمر، وذلك أن ولي الأمر إنما يُطاع بتأييد
جماعة المسلمين الذين بايعوه له وثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد من
الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة وكون طاعة الأمير تابعة لطاعتهم واجتماع
الكلمة بسلطتهم كحديث ابن عباس في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم-
قال: (مَن رأى من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبرًا
فمات مات ميتة جاهلية) ولما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن
اليمان بما يكون في الأمة من الفتن في الحديث الصحيح المشهور: قال: (فما
تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: تلزم جماعة المسلمين
وإمامهم، قال: قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق
كلها) إلخ.
قال الطبري بعد ذكر الخلاف في الجماعة، ومنه حصر بعضهم إياه في
الصحابة: والصواب لزوم الجماعة الذين في طاعة مَن اجتمعوا على تأميره، فمن
نكث بيعته خرج عن الجماعة (قال) وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام
فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك
خشية من الوقوع في الشر. اهـ نقله عنه الحافظ في شرح البخاري وأقره.
هؤلاء الجماعة هم أولو الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد ومنهم أولو
الشورى لدى الإمام، ومتى خوطب المؤمنون في الكتاب والسنة وآثار الصحابة في
أمر من الأمور العامة، فهم المعنيون المطالبون بتنفيذ الأمر، ومن الآثار الدالة
على الإجماع في ذلك قول أبي بكر - رضي الله عنه - في خطبته الأولى بعد
المبايعة: أما بعد فقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا
زغت فقوموني وروي نحوه عن عمر وعثمان: وهم الذين فرضوا له راتب الخلافة
كرجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ولا أدناهم.
وقد تقدم في التعريف بالخلافة قول الرازي أن الرئاسة العامة هي حق الأمة
التي لها أن تعزل الإمام (الخليفة) إذا رأت موجبًا لعزله، وقد فسّر السعد معنى
هذه الرئاسة لئلا تستشكل فيقال: إذا كانت الرئاسة للأمة فمَن المرؤوس؟ فقال إنه
يريد بالأمة أهل الحل والعقد، أي الذين يمثلون الأمة بما لهم فيها من الزعامة
والمكانة، ورئاستهم تكون على من عداهم أو على جميع أفراد الأمة، والثاني هو
الصحيح ويؤيد هذا تفسير الرازي لأولي الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) فقد حقق
أن المراد بأولي الأمر أهل الحِل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة. وقد تابعه على
هذا النيسابوري، واختاره الأستاذ الإمام، ووضحناه في التفسير مستدلين عليه بقوله
تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) ومن المعلوم
بالضرورة أن أولي الأمر الذين كانوا مع الرسول يرد إليهم معه أمر الأمن والخوف
وما أشبههما من المصالح العامة ليسوا علماء الفقه، ولا الأمراء والحكام بل أهل
الشورى من زعماء المسلمين [٦] .
(٥) شروط أهل الاختيار للخليفة:
اشترط العلماء في جماعة المسلمين أهل الحل والعقد شروطًا بيَّنها الماوردي
في الأحكام السلطانية بقوله:
(فصل) فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب
العلم [٧] ، ??فإذا قام بها مَن هو أهلها سقط فرضها عن الكافة وإن لم يقم بها أحد
خرج من الناس فريقان: (أحدهما) أهل الاختيار حتى يختاروا إمامًا للأمة.
(والثاني) أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة.
فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: (أحدهما) العدالة الجامعة
لشروطها (والثاني) العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على
الشروط المعتبرة فيها (والثالث) الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو
للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف. وليس لمن كان في بلد الإمام على
غيره من أهل البلاد فضل مزية يقدم بها عليه، وإنما صار من يحضر ببلد الإمام
متولِّيًا لعقد الإمامة عرفًا وشرعًا، لسبوق علمهم بموته؛ ولأن من يصلح للإمامة في
الأغلب موجودون في بلده اهـ (فتح الباري) .
أقول: لهذه الشروط مأخذ من هدي السلف، فقد قال الطبري: لم يكن في أهل
الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة
بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم اهـ.
أما العدالة التي هي الشرط الأول فهي عند الفقهاء عبارة عن التحلي
بالفرائض والفضائل، والتخلي عن المعاصي والرذائل، وعما يُخل بالمروءة أيضًا،
واشترط بعضهم فيها أن تكون ملكة لا تكلفًا، ولكن التكلف إذا الْتُزِمَ صار خُلُقًا.
وأما العلم فيعنون به علم الدين، وإذا أطلقوه كان المراد به العلم الاستقلالي
المعبّر عنه بالاجتهاد، ويفهم من كلام بعضهم أن الاجتهاد في الشرع شرط في
مجموعهم لا في كل فرد منهم، فقد قال في الروضة وأصلها أنه يشترط أن يكون
فيهم مجتهد.
وتقييده شرط العلم بما قيده به يدل على أنه يختلف باختلاف الزمان، فإن
استحقاق الإمامة في هذا العصر يتوقف على علوم لم يكن يتوقف عليها في العصور
القديمة، وقد ذكر بعض العلماء أن من مرجحات اختيار الصحابة لأبي بكر -
رضي الله عنه - أنه كان أعلمهم بأنساب العرب وبأحوالهم وقواتهم، ولأجل هذا لم
يهب من قتال أهل الردة ما هابه عمر، ولا بد الآن للإمام وجماعة الشورى (أهل
الحِل والعقد) الذين هم قوام إمامته وأركان حكومته من العلم بالقوانين الدولية
والمعاهدات العامة، وبأحوال الأمم والدول المجاورة لبلاد الإسلام وذات العلاقات
السياسية والتجارية بها من حيث سياستها وقوتها وما يخاف ويُرجى منها وما يحتاج
إليه لاتقاء ضرها والانتفاع بها..
ومن الآثار في ذلك قول الحافظ في الكلام على مبايعة عثمان من (الفتح) :
والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد أنه كان لا
يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما
يخالف الشرع فيها، فلأجل ذلك استخلف (أي أمَّر) معاوية، والمغيرة بن شعبة
وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم كأبي الدرداء
في الشام، وابن مسعود في الكوفة اهـ.
وسيرة أبي بكر وعمر في الخلافة يُقتدى بها، ولا سيما في الأمور العامة
الكلية التي تسمى سنة، بدليل اشتراط عبد الرحمن إياها مع سنة الرسول على علي
وامتناعه عن ترجيحه لعدم جزمه في الجواب أو تقييده بالاستطاعة وترجيحه لعثمان
لجزمه بغير قيد؛ لأن سنتهما نالت الإجماع ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:
(اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة
وصححوه، وبالغ فقهاء المذاهب المدونة فعدوا أعمالها قواعد في الجزئيات كالخراج
ومعاملة أهل الذمة، وهي أعمال اجتهادية تتبع المصلحة.
وهذا العلم هو المادة لما ذكر في الشرط الثالث من الحكمة وجودة الرأي. ولم
يشترط قوة العصبية فيهم؛ لأن المفروض أنهم أهل الحل والعقد الذين تعتمد عليهم
الأمة في أمورها العامة، وأن أحكام الشرع فيها هي الحاكمة والنافذة، وأن
المسلمين لا يدينون إلا بها، ولا يخضعون إلا لمن ينفذها، وأما التغلب بعصبية
الجنس فليس من هدي الإسلام في شيءٍ، بل هو خروج عن هدايته، وحكمه فيه
سيُذكر بعد.
فعلم مما تقدم أن لقب أهل الحِل والعقد مراد به معنى المصدرين فيه بالقوة
وبالفعل، وهم الرؤساء الذين تتبعهم الأمة في أمورها العامة، وأهمها نصب الإمام
الأعظم، وكذا عزله إذا ثبت عندهم وجوب ذلك، ومن يملك التولية يملك العزل،
كما تقدم بيانه في مسألة سلطة الأمة، قال إمام الحرمين في الإمام الذي (جار
وظهر ظلمه وغشمه، ولَمْ يَرْعَوِ لزاجر عن سوء صنيعه: فلأهل الحل والعقد
التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب) [٨] ومن ظن أن كل من
يوصف بالعلم والوجاهة تنعقد ببيعتهم الإمامة ويجب على الأمة اتباعهم فيها فقد
جهل معنى الحل والعقد ومعنى الجماعة والإجماع، وما تقدم من الأخبار والآثار،
ومن كلام المحققين في المسألة ولا سيما شروط أهل الاختيار:
(٦) الشروط المعتبرة في الخليفة:
قال السعد: وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين،
ويقيم السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها. ويشترط
أن يكون مكلفًا مسلمًا عدلاً حرًّا ذكرًا مجتهدًا شجاعًا ذا رأي، وكفاية سمعيًا بصيرًا
ناطقًا قريشيًّا، فإن لم يوجد في قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ولي كناني،
فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يوجد فرجل من العجم اهـ[٩] .
والمراد بقوله: مجتهدًا: الاجتهاد في الأحكام الشرعية بالعلم بأدلتها
التفصيلية والتفصيل الأخير في حال فقد القرشي للشافعية وقيل: إنه من فرض ما
لا يقع، وكل ما قبله متفق عليه عند أهل السنة إلا الحنفية فقد أجاز بعضهم تولية
غير العالم المجتهد؛ لأنه يستعين بالمفتين المجتهدين كالقضاء، وقد قال الشيخ قاسم
بن قلطوبغا في حاشيته على المسايرة لشيخه الكمال بن الهمام [١٠] : إن الشروط التي لا تنعقد الخلافة بدونها عند الحنفية هي الإسلام والذكورة والحرية والعقل وأصل الشجاعة وأن يكون قرشيًّا اهـ , أي: وما عدا هذه فشروط تقديم في
الاختيار لا شروط انعقاد، ووضح الماوردي هذه الشروط بقوله [١١] :
وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة:
(أحدها) العدالة على شروطها الجامعة.
(والثاني) العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
(والثالث) سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة
ما يدرك بها.
(والرابع) سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة
النهوض.
(والخامس) الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
(والسادس) الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
(والسابع) النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه، وانعقاد
الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ , فجوزها في جميع الناس؛ لأن أبا
بكر الصديق - رضي الله عنه - احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن
الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها (أي أرادوا مبايعته) بقول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: (الأئمة من قريش) فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن
المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير، ومنكم أمير؛ تسليمًا لروايته؛ وتصديقًا لخبره،
ورضوا بقوله: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وقال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (قدموا قريشًا ولا تقدموها) أي: لا تتقدموها - وليس مع هذا النص
المسلم شبهة لمنازع فيه، ولا قول لمخالف له اهـ.
أقول: قد تقدم الكلام في العدالة والعلم المشترطين في أهل الاختيار، ويأتي
مثله هنا بالأولى، أما الإجماع على اشتراط القرشية فقد ثبت بالنقل والفعل، رواه
ثقاة المحدثين، واستدل به المتكلمون وفقهاء مذاهب السنة كلهم، وجرى عليه العمل
بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش، ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون
حتى إن الترك الذين تغلَّبوا على العباسيين، وسلبوهم السلطة بالفعل لم يتجرأ أحد
منهم على ادعاء الخلافة ولا التصدي لانتحالها حتى بالتغلب الذي يجيء الكلام فيه
بعد، وما ذلك إلا لأن الأمة كلها مجمعة على ما ذكر معتقدة له دينًا بل كانوا يدعون
النيابة عنهم.
وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة مستفيضة في جميع كتب السنة وقد أخرجوها
في كتب الأحكام وأبواب الخلافة أو الإمارة والمناقب وغيرها، ولم يقع خلاف في
مضمون مجموعها بين أهل السنة من عرب ولا عجم، ولم يتصد أحد من علماء
الترك لتأويلها، وقد طبع بعض الكتب المثبتة لها في الآستانة بإذن نظارة المعارف
حتى في زمن السلطان عبد الحميد الذي لم يهتم بلقب الخليفة أحد مثله، ومنها شرح
المقاصد الذي نقلنا عنه ما نقلنا، وكذا المواقف مع شرحه وحواشيه، وحديث:
(قدموا قريشًا ولا تقدموها) الذي ذكره الماوردي رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة
بلاغًا، وابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة والبزار في مسنده من حديث
علي كرم الله وجهه والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن السائب بأسانيدها
صحيحة، وفي معناه حديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين: (الناس تبع
لقريش في هذا الشأن) ، ولا نريد ذكر بقية الأحاديث وإنما خرجنا الحديث الذي
اعتمده الماوردي وذكرنا ما يقرب منه في لفظه؛ لأنه لم يخرجه.
وحسبنا من قوة حديث: (الأئمة من قريش) من حيث الرواية قول الحافظ
ابن حجر في فتح الباري عند ذكره في المناقب من صحيح البخاري ما نصه: قد
جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابيًّا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه
لم يرو إلا عن أبي بكر الصديق اهـ , وذكر الحافظ أن لفظ أبي بكر لسعد بن
عبادة في السقيفة في مسند أحمد: والله لقد علمت يا سعد أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -قال وأنت قاعد: (قريش ولاة هذا الأمر) فقال له سعد: صدقت.
فمن علم هذا لا يلتفت إلى ما يذكره بعض أهل هذا العصر من تأويل تلك
الأحاديث والبحث في أسانيد بعض، أو من أن شرط القرشية من الشروط الخلافية
وإن قال هذا بعض كبار المتكلمين فإن هؤلاء يذكرون أمثال هذه الخلافات الشاذة
عن بعض المبتدعة لأجل الرد عليها لا لأنها كالخلاف بين أئمة الحق في المسائل
الاجتهادية، وغرض من يماري أو يكتم شرط القرشية في هذا العصر تصحيح خلافة
سلاطين بني عثمان، وهذا ما لا سبيل إليه عند أهل السنة المشترطين للقرشية
بإجماع مذاهبهم إلا بقاعدة التغلب؛ وأما عند الخوارج فلا سبيل إليه ألبتة؛ لأنهم
إنما أنكروا شرط القرشية منعًا لحصر الإمامة في بيت معين، وماذا يضر العثمانيين
أن تكون خلافتهم بالتغلب، وقد قال بعض الفقهاء في بني أمية وبني العباس كلهم
أو جلهم مثل ذلك.
وأما حكمة حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلافة الشرعية فيهم أو
سببه فقد ذكر المتكلمون والفقهاء فيه ما روي من قول أبي بكر الصديق فيه
للأنصار في سقيفة بني ساعدة: من أنهم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وأعزهم أحسابًا،
وزاد بعضهم ما كان الصديق في غنى عنه في ذلك الوقت , وأجمع كلام لهم في
هذا ما ذكره الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) [١٢] وفي
بعضه نظر قال:
(والسبب المفضي لهذا أن الحق الذي أظهره الله على لسان نبيه - صلى الله
عليه وسلم - إنما جاء بلسان قريش وفي عاداتهم، وكان أكثر ما تعين من المقادير
والحدود ما هو عندهم، وكان المعد لكثير من الأحكام ما هو فيهم، فهم أقوم به،
وأكثر الناس تمسكًا بذلك، وأيضا فإن قريشًا قوم النبي - صلى الله عليه وسلم -
وحزبه ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم - وقد اجتمع فيهم
حمية دينية، وحمية نسبية، فكانوا مظنة القيام بالشرائع والتمسك بها، وأيضًا فإنه
يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس من طاعته لجلالة نسبه وحسبه، فإن
من لا نسب له يراه الناس حقيرًا ذليلاً، وأن يكون ممن عرف منهم الرئاسات
والشرف، ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال، وأن يكون قومه أقوياء
يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الأنفس، ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش ولا
سيما بعدما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبُه به أمر قريش، وقد أشار أبو
بكر الصديق رضي الله عنه - إلى هذه فقال: ولن يعرف هذا الأمر إلا لقريش هم
أوسط العرب دارً إلخ) .
وإنما لم يشترط كونه هاشميًّا مثلاً لوجهين:
(أحدهما) أن لا يقع الناس في الشك فيقولوا: إنما أراد ملك أهل بيته
كسائر الملوك فيكون سببًا للارتداد ولهذه العلة لم يُعطِ النبي - صلى الله عليه وسلم-
المفتاح , أي: مفتاح الكعبة للعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -.
(والثاني) أن المهم في الخلافة رضاء الناس به واجتماعهم عليه وتوقيرهم
إياه وأن يقيم الحدود ويناضل دون الملة وينفذ الأحكام، واجتماع هذه الأمور لا
يكون إلا في واحد بعد واحد، وفي اشتراط أن يكون من قبيلة خاصة تضييق
وحرج فربما لم يكن في هذه القبيلة من تجتمع فيه الشروط وكان في غيرها اهـ.
وأقول: إن الله تعالى ختم دينه وأتمه وأكمله بكتابه الحكيم الذي أنزله {قُرْآناً
عَرَبِيًّا} (يوسف: ٢) [١٣] , و {حُكْماً عَرَبِياّ} (الرعد: ٣٧) على خاتم
رسله العربي القرشي، واقتضت حكمته أن يكون نشره في مشارق الأرض
ومغاربها بدعوة قريش وزعامتهم، وقوة العرب وحماية هذه الدعوة بسيوفهم، وكل
من دخل في الإسلام من الأعاجم، وكان له عمل صالح فيه كان تابعًا لهم متلقيًا
عنهم، على مساواة الشرع في أحكامه بينهم، ونبوغ كثير من مواليهم الذين
استعربوا بالتبع لهم، وكانت قريش في جملة بطونها أكمل العرب خلقًا وأخلاقًا
وفصاحةً وذكاءً وفهمًا وقوة عارضة كما كانت أصرح نسبًا في سلالة إسماعيل
وأشرف تاريخًا في العرب بفضائلها وفواضلها، وخدمتها لبيت الله - تعالى - فكان
مجموع هذه المزايا التي كملت بالإسلام مؤهلاً لها لاجتماع كلمة العرب عليها، ثم
كلمة من يدخل في الإسلام من شعوب العجم بالأولى، ولا سيما بعد النص من
الرسول - صلى الله عليه وسلم -بذلك وإجماع أصحابه عليه فحكمة جعله - صلوات
الله عليه وسلامه عليه - خلافة نبوته فيها وسببه أمران:
(الأول) كثرة المزايا التي تنتشر بها الدعوة، وتكون بحسب طباع البشر
سببًا لجمع الكلمة، ومنع المعارضة والمزاحمة أو ضعفها - وكذلك كان، فإن
الناس أذعنوا لهم على تنازعهم، وكثرة من لم يقم بأعباء الخلافة منهم ولا أخذها
بحقها، فلم يكونوا يبتغون بديلاً من فرد أو بيت منهم إلا إلى آخر منهم، وكان
افتئات بعض الأعاجم على بعض العباسيين فسقًا عن الشرع كسائر أنواع التعدي
على الأموال والأعراض.
(والثاني) أن تكون إقامة الإسلام متسلسلة في سلائل أول من تلقاها ودعا
إليها ونشرها حتى لا ينقطع اتصال سيرها المعنوي والتاريخي فإن الملل والأمم
وليدة التاريخ وربيبته.
ألم تروا أن سيرة الخلفاء الراشدين تعد هي المثل الأعلى لأحكام الكتاب
والسنة النبوية وهديهما، وأن سيرة الخلفاء المدنيين من الأمويين والعباسيين الذين
نشروا العلوم والفنون ورقوا الحضارة في الشرق والغرب تعد أصل المدنية
الإسلامية وسندها , أو لم تروا أن صلة العالم الإسلامي بمهد الإسلام الموضعي
(الحجاز) تعد في الدرجة الثانية لصلته بكتابه وسنته، حتى أن الخليفة الذي نصبته
الدولة التركية الجديدة في الآستانة قد لقّب نفسه بخادم الحرمين الشريفين كالسلاطين
الذين كان الحجاز خاضعًا لهم.
ألم تعلموا أن الإسلام على حريته وسماحته قد خصّ الحجاز أو جزيرة العرب
بأن لا يبقى فيها دينان، وأوصى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر
حياته.
ألم يبلغكم أن بعض المؤرخين من غير المسلمين قال: لو أن الجيش الذي
فتح جنوب فرنسة بعد فتح الأندلس كان كله أو أكثره عربيًا لملَك أوروبا كلها ودان
له أهلها، وإنما انتقض الإفرنج عليه؛ لأن أكثره كان من البربر الذين لم يفهموا
الإسلام ولم يلتزموا أحكامه في حفظ العهود والعدل وعدم الاعتداء على الأموال
والأعراض كالعرب، أفرأيتم لو جعل الإسلام خلافة النبوة مشاعًا وتغلب عليها
العجم من القرون الأولى أكان يُحْفَظُ الإسلامُ ولُغَتُهُ كما حُفِظَ بنشر خلفاء قريش له
من بَرِّهم وفاجرهم؟ ! وهذا بحث يتسع المجال لشرحه ولكن في غير هذا المقال
الذي نريد أن يكون بقدر الحاجة الطارئة.
وقد أورد بعض فضلاء العصر شبهة على جعل الخلافة في قريش بأنها
تعارض ما جاء به الإسلام من المساواة ومن نزع العصبية، وتسوُّد طائفة معينة على
سائر المسلمين بل جعلها كالشبهة التي أوردها بعض العلماء على الشيعة الذين
يحصرونها في العلويين من أنها تفتح باب الطعن في الإسلام لغير المؤمنين بزعمهم
أن النبي - صلى الله عليه وسلم -إنما أسس ملكًا لأهل بيته، وكل ذلك ظاهر
البطلان كما بيّناه في موضع آخر من المنار، فإن قريشًا بطون كثيرة متفرقة وكان
بينها من التعادي في الجاهلية ما بين غيرها من قبائل العرب وبطونها ومنه عداوة
بني عبد شمس لبني هاشم التي خفيت بعد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة
وتأليفه لأبي سفيان كبير بني أمية، وفي خلافة أبي بكر وعمر، وبدأ الاستعداد
لإظهارها في خلافة عثمان وأظهرها معاوية بعده، ولم يتجدد لقريش شأن في زمن
الراشدين لم يكن لها ولا في زمن الأمويين والعباسيين إلا أن الأمويين كانت عندهم
عصبية لأهل بيتهم ثم للعربية؛ فمقتهم العالم الإسلامي وقلبهم قبل أن يستكمل
ملكهم قرنًا واحدًا.
ولم يكن لبني تيم في خلافة أبي بكر ولا لبني عدي في خلافة عمر أدنى
امتياز على أحد من أقرانهم، ونزوان بني أمية على مصالح الأمة في زمان عثمان
كان بسبب ضعفه، لا بنعرة عصبية منه، ولم يغفر له الرأي الإسلامي العام هذا،
بل هاج الناس عليه حتى كان ذلك تمهيدًا لتمكن أصحاب الدسائس الخفية في
الإسلام من قتله، أعني دسائس حزب عبد الله بن سبأ اليهودي، والمجوس مثيري
الفتن في الإسلام.
وقد روي أن الإمام العادل العاقل عمر حذّر عثمان وعليًّا وعبد الرحمن من
مثل هذا الإيثار للأقارب المنافي لهدي الإسلام والمفضي إلى فساد الأمر، فقال لهم
لمّا جعل الأمر في الستة: إن الناس لن يعدوكم أيها الثلاثة، فإن كنت يا عثمان في
شيء من أمر الناس فاتق الله ولا تحملنّ بني أمية وبني أبي معيط على رقاب
الناس، وإن كنت ياعلي فاتق الله ولا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، وقال
لعبد الرحمن مثل ذلك، ذكره الحافظ في شرح البخاري، وقوله: (إن الناس لن
يعدوكم) مبني على القاعدة التي قررناها وهي أن أمر الخلافة للأمة لا للستة
الزعماء الذين أراد عمر جمع كلمة الأمة بجمع كلمتهم لعلوّ مكانتهم فيها بمناقبهم.
على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوعد قريشًا في بعض الأحاديث
بانتقام الله منهم إذا لم يقيموا الحق والعدل والرحمة كما شرعها، والأحاديث في ذلك
متعددة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر
ما لم تحدثوا، فإذا غيّرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب) رواه أحمد
وأبو يعلى عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات وله طريق آخر بلفظ آخر وشواهد،
ومنها: (الأمراء من قريش ما عملوا فيكم بثلاث: ما رحموا إذا اسْتُرْحِمُوا،
وأقسطوا إذا قسموا، وعدلوا إذا حكموا) رواه الحاكم عن أنس بسند حسن.
هذا وإن العباسيين لم يحملوا بني هاشم على رقاب الناس، بل كانوا أشد من
بني أمية وطأة على العلويين الذين هم خيارهم وفضّلوا الفرس ثم الترك على العرب،
وأما العلويون فكانوا أزهد الناس في الدنيا وملكها، ولولا ذلك لسعوا لها سعيها،
ومن صحّ منه الهوى أُرْشِدَ للحيل، ولم يتولّ أحد منهم الإمامة بعد أن نزل عنها
الإمام الحسن السبط عليه السلام إلا أئمة الزيدية في اليمن، فكانوا وما زالوا أفضل
وأعدل أهل بيت تولّوها بعد الراشدين، وأما أدارسة المغرب فيلقبون بالسلاطين،
وأما العُبيديون فكانوا أدعياء في النسب وفي الإسلام أيضًا.
وجملة القول أن الشعوبية أوردوا شبهات كثيرة على العرب وعلى قريش
وأجاب عنها العلماء كابن قتيبة وغيره، ولكل قوم محامد ومساوئ، ودين الله فوق
كل شيء وما صحّ دليله وأجمعت عليه الأمة أو سوادها الأعظم في خير القرون لا
نقبل رأيًا ولا بحثًا في نقضه وإلا لم يبق لنا شيء من ديننا، وما كانت أهواء
العصبية والمحاباة في الدين إلا فتنة لنا، وضارة بعربنا وعجمنا، وإن جهل ذلك
الكثيرون منّا، وأن حكمة الشارع - صلى الله عليه وسلم - في جعل خلافة نبوته
في قريش منزهة عن العصبية الجاهلية التي حرمها، ولبابها مكان قريش من هذا
الدين ولغته وأهلها؛ إذ لم تقم له قائمة إلا بهم وبها، ثم لم يخدمه أحد من الأعاجم
إلا من أتقنها، فخدمه أولاً مَن استعرب من الفرس، ثم جدد قوة دولته العثمانيون
من الترك بعد أن مزّق شمله وأضعفه سلفهم، وسنبين بعد ما يجب له علينا وعليهم.
(٧) صيغة المبايعة:
الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحِل والعقد لمن اختاروه إمامًا للأمة بعد
التشاور بينهم، والأصل في البيعة أن تكون على الكتاب والسنة وإقامة الحق
والعدل من قِبله، وعلى السمع والطاعة في المعروف من قِبلهم، ففي الصحيح: أن
عبد الرحمن بن عوف قال في مبايعته لعثمان: أبايعك على سنة الله ورسوله
والخليفتين من بعده، وبايعه الناس على ذلك، وأن الناس لما اجتمعوا على عبد
الملك بن مروان بعد قتل عبد الله بن الزبير بايعه عبد الله بن عمر - رضي الله
عنه - بعد أن كان امتنع عن مبايعتهما معًا؛ لأجل الخلاف والتفرقة، فكتب إليه:
إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة
رسوله فيما استطعت وأن بنيّ قد أقروا بذلك.
وكان الصحابة يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة
في المنشط والمكره وقول الحق والقيام به فيما استطاعوا وعدم عصيانه في معروف
كما قال تعالى في مبايعة النساء له: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة:
١٢) ، وقد صحّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يلقنهم قيد
الاستطاعة عند المبايعة [١٤] وقد بايعوه أيضًا على الإسلام وعلى الهجرة وعلى
الجهاد والصبر وعدم الفرار من القتال، وعلى بيعة النساء المنصوصة في القرآن،
والأحاديث في هذا معروفة في الصحيحين والسنن، نخص بالذكر منها حديث عبادة
بن الصامت المتفق عليه ولفظه كما في كتاب الفتن من البخاري: (دعانا النبي -
صلى الله عليه وسلم -، فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة
في مَنشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا
أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) ، ولفظه في باب المبايعة من كتاب
الأحكام: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة في
المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا
لا نخاف في الله لومة لائم) ، قال الحافظ في شرح حديث البخاري في المبايعة على
السمع والطاعة الذي تقدم في الأصل عند قوله فيه من كتاب الفتن: (وأن لا ننازع
الأمر أهله) أي: الملك والإمارة.
وجملة القول أن العلماء اتفقوا على وجوب الخروج على الإمام بالكفر،
واختلفوا في الظلم والفسق لتعارض الأدلة ومنها سد ذريعة الفتنة، والتحقيق
المختار أن على الأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما دون الخروج
على ولي الأمر بالقوة، وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم ما يرون فيه المصلحة
الراجحة حتى القتال، وقد تقدم النقل في هذا في مسألة سلطة الأمة وسنعود إليه في
بحث ما يخرج به الإمام من الخلافة.
(٨) ما يجب على الأمة بالمبايعة:
ومتى تمت المبايعة وجب بها على المبايعين وسائر الأمة بالتبع لهم الطاعة
للإمام في غير معصية الله والنصرة له، وقتال مَن بغى عليه أو استبد بالأمر دونه،
وسيأتي الكلام على دار العدل والجماعة، وما يتعلق بها كحكم الهجرة.
وأهم ما يجب التذكير به من طاعة الإمام الحق على كل مسلم، وكذا إمام
الضرورة أو التغلب على كل من بايعه بالذات، ومن لزمته بيعة أهل الحل والعقد
أداء زكاة المال والأنعام والزرع والتجارة - والجهاد الواجب وجوبًا كفائيًّا على
مجموع الأمة، والواجب وجوبًا عينيًّا على أفرادها رجالاً ونساءً على ما هو مبين
في كتب الفقه، كما يجب عليهم طاعة من ولاهم أمر البلاد من الولاة السياسيين
والقضاة وقواد الجيوش دون غيرهم، ويجب على هؤلاء الخضوع له فيما يقيد به
سلطتهم وفي عزله إياهم إذا عزلهم، والشرط العام في الطاعة أن لا تكون في
معصية الله تعالى والأحاديث الصحيحة في هذا معروفة ومُجمع على معناها.
ومن الأخبار والآثار التي يحسن إيرادها هنا ما رواه مسلم في صحيحه عن
عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: (دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن
العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال:
كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح
حباءه ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشره [١٥] إذ نادى منادي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: (الصلاة جامعة) فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقال: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير
ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها
وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضًا [١٦]
وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه
هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله
واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه
صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق
الآخر، فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله أأنت سمعت هذا من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي،
فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا
والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً
عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: ٢٩) ، قال
فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله اهـ.
وقد أعز الله البشر بالإسلام ومقتضى الكتاب والسنة أنه لا طاعة ولا خضوع
فيه إلا لله تعالى، وطاعة الرسول من طاعته لقوله: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ} (النساء: ٨٠) ، وطاعة أولي الأمر كذلك لقوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) ، ولذلك اشترط فيها أن تكون في تنفيذ أصول شرعه أو فروعه.
وقد قال بعض أمراء بني أمية لبعض علماء التابعين: أليس الله قد أمركم بأن
تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) فقال له: أليست قد
نزعت عنكم يعني الطاعة إذ خالفتم الحق بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩) نقله
الحافظ في الفتح، قال: ومن بديع الجواب وذكره، على أن أولي الأمر هنا الجماعة
أي: الأمة كما تقدم.
(٩) ما يجب على الإمام للملة والأمة:
يجب على الإمام نشر دعوة الحق وإقامة ميزان العدل، وحماية الدين من
الاعتداء والبدع، والمشاورة في كل ما ليس فيه نص، وهو مسؤول عن عمله
يراجعه كل أحد من الأمة فيما يراه أخطأ فيه، ويحاسبه عليه أهل الحِل والعقد،
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن
رعيته) رواه الشيخان من حديث لابن عمر وغيرهما. وقد بيّن المارودي ما يجب
عليه في عشر قواعد كلية لم يذكر منها مسألة المشاورة على كثرة النصوص
فيها، واستفاضة آثار الراشدين في الجري عليها، اتباعًا لما صحّ من عمل النبي -
صلى الله عليه وسلم - بها، قال:
والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
(أحدها) حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن
نَجَمَ مبتدع أو زَاغَ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبيّن له الصواب، وأخذه بما
يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من
زلل. (الثاني) تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين،
حتى تعم النَّصَفَة فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. (الثالث) حماية
البيضة [١٧] والذبّ عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار
آمنين من تغرير بنفس أو مال. (والرابع) إقامة الحدود لتُصان محارم الله تعالى
عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. (والخامس) تحصين
الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا
أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد [١٨] دمًا. (والسادس) جهاد من عاند الإسلام
بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على
الدين كله. (والسابع) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا
من غير خوف ولا عسف. (والثامن) تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال
من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. (التاسع)
استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من أعمال ويكله إليهم من الأموال
لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة. (العاشر) أن
يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة
ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح،
وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: ٢٦) ، فلم يقتصر الله
سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عذره في اتباع الهوى حتى وصفه
بالضلال. وهذا وإن كان مستحقًا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق
السياسة لكل مسترع، قال النبي عليه السلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن
رعيته) ولقد أصاب الشاعر فيما وصف به الزعيم المدبر حيث يقول (البسيط) :
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفًا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خسعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا [١٩]
مازال يحلب در الدهر أشطره ... يكون متبعًا يومًا ومتبعا
حتى استمر على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا فخما ولا ضرعا [٢٠]
(أقول) عبارته في الواجب الأول في منتهى التحقيق وهو المحافظة على
ما أجمع عليه السلف الصالح من الدين وإطلاق الحرية للأمة فيما سواه من المسائل
الاجتهادية من حيث العلم وعمل الأفراد في العبادات، وأما ما يتعلق بالسياسة
والقضاء المنوط بالحكومة فله أن يرجح بعض الأحكام الاجتهادية على بعض
باستشارة العلماء من أهل الحل والعقد، ولا سيما إذا لم يكن هو من أهل الاجتهاد
في الشرع، ولقد كان أئمة الدين يطيعون الخلفاء فيما يخالف اجتهادهم من أمور
الحكومة إذا لم يخالف النص القطعي من الكتاب والسنة، ولكنهم لم يطيعوهم في
القول بخلق القرآن؛ لأنه من أمور العقائد التي خالفوا فيها السلف.
والجهاد الذي ذكره في الواجب السادس أراد به القتال العيني والكفائي وإنما
يجب على كل مكلف إذا استولى العدو على بعض بلاد المسلمين وتوقف دفعه على
ذلك وإلا اكتفى بمن يستنفرهم الإمام بحسب الحاجة، والجهاد قد يكون بالمال
واللسان ومنه الدعوة إلى الإسلام بالبرهان، وتجب طاعة الإمام في التعليم
العسكري بنظام القرعة وغيره، وعليه أن يعد للأعداء ما يستطيع من قوة ليقاتلهم
بما يقاتلوننا به أو يفوقهم، ومنه إنشاء البوارج والغواصات والطيارات الحربية
وأنواع الأسلحة إلخ وتجب طاعته في ذلك كله بالمال والنفس بنص قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) ، والخطاب للأمة وإنما
الرئيس هو الذي يوحد النظام فيها، وعلى هذا تكون العلوم والفنون الطبيعية
والكيماوية والآلية كلها من الواجبات الكفائية، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو
واجب، وليس في الإسلام جهاد يجب به قتال كل مخالف وإن كان معاهدًا أو ذميًّا.
(١٠) الشورى في الإسلام:
(أقول) : وأهم ما يجب على الإمام المشاورة في كل ما لا نص فيه عن الله
ورسوله، ولا إجماع صحيحًا يحتج به، أو ما فيه نص اجتهادي غير قطعي، ولا
سيما أمور السياسة والحرب المبنية على أساس المصلحة العامة، وكذا طرق تنفيذ
النصوص في هذه الأمور إذ هي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهو ليس حاكمًا
مطلقًا كما يتوهم الكثيرون بل مقيد بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين
العامة وبالمشاورة، ولو لم يرد فيها إلا وصف المؤمنين بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) وقوله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: ١٥٩) لكفى، فكيف وقد ثبتت في الأخبار والآثار قولاً وعملاً، وسبب
هذا الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم -بالمشاورة في أمر الأمة، جعله قاعدةً
شرعيةً لمصالحها العامة، فإن هذه المصالح كثيرة الشعب والفروع لا يمكن تحديدها،
وتختلف باختلاف الزمان والمكان فلا يمكن تقييدها وقد ذهب بعض علماء السلف
إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان غنيًّا عن المشاورة فلولا إرادة جعلها
قاعدةً شرعيةً لما أمره الله بها. روي عن الحسن البصري في تفسير قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) أنه قال: قد علم الله أنه ما به إليهم
من حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده , وروي في المرفوع ما يؤيده فقد خَرَّجَ
ابن عدي والبيهقي بسند حسن عن ابن عباس أن الآية لما نزلت قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمةً
لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غيًّا) , أي: شرعها الله
تعالى لتحقيق الرشد في المصالح ومنع المفاسد فإن الغي هو الفساد والضلال.
ولكن الأحاديث الصحيحة ناطقة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن
مستغنيًا عن غيره من الناس إلا فيما ينزل عليه فيه الوحي وقال: (أنتم أعلم بأمر
دنياكم) رواه مسلم عن عائشة وأنس وقال: (ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان
من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد وفي حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم
أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم -قال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من
أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وهذا هو الموافق لقوله
تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: ١١٠) فهو ممتاز على
البشر بالوحي إليه ولكنه فيما عداه وعدا ما يستلزمه بشر تجوز عليه الأعراض
البشرية، ويحتاج إلى غيره في الأمور الكسبية، وكونه أكمل البشر لا يقتضي أن
يحيط بكل شيء علمًا ويقدر على كل عمل فإن هذا لله وحده {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ
عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: ٥٠) ولذلك
كانوا إذا راجعوه في أمر أمر به ورأوا المصلحة في غيره سألوه: أقاله أو
فعله بوحي من الله أم من رأيه؟ فإذا قال: إنه من رأيه ذكروا رأيهم وقد يعمل به
ويرجحه على رأيه كما فعل في يوم بدر فقد جاء - صلى الله عليه وسلم -أدنى
ماء فنزل عنده فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلاً
أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أما هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال يا رسول الله: ليس هذا بمنزل
فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه إلخ , فقال له
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد أشرت بالرأي، وعمل برأيه) , وفي
رواية ابن عباس عند ابن سعد أن جبريل نزل فقال للنبي - صلى الله عليه
وسلم -: الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر.
وقد استشار - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -
في أسرى بدر فاختلف رأيهما فقال (لو اجتمعتما ما عصيتكما وكان رأيه موافقًا
لرأي أبي بكر فأنفذه ثم نزل الوحي بما يؤيد رأي عمر وهو قوله تعالى {مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: ٦٧) الآيتين فقال -
صلى الله عليه وسلم -لعمر (كاد يصيبنا في خلافك شر) , والروايات في هذه
المسألة كثيرة، وكل هذا كان قبل أمر الله تعالى إياه بمشاورتهم فإنه نزل في غزوة
أحد وفيها رجح رأي الأكثرين على رأيه - صلى الله عليه وسلم -ورأي كثير
من كبراء الصحابة رضي الله عنهم وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه
قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العزم، أي قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: ١٥٩) :
فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) .
وقد حقننا مسألة الشورى في الحكومة الإسلامية بالتفصيل في تفسير هذه
الآية من سورة آل عمران وتفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) من سورة النساء , وبينا في الأول الحكمة في ترك
الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظام الشورى للأمة وعدم وضع أحكام لها،
وملخصه أن النظام يختلف باختلاف أحوال الأمة في كثرتها وقلتها وشؤونها
الاجتماعية ومصالحها العامة في الأزمنة المختلفة فلا يمكن أن تكون له أحكام معينة
توافق جميع الأحوال في كل زمان ومكان، ولو وضع لها أحكامًا مؤقتةً لخشي أن
يتخذ الناس ما يضعه لذلك العصر وحده دينًا متَّبَعًا في كل حال وزمان وإن خالف
المصلحة، كما فعلوا في الأخذ بظواهر مبايعة أبي بكر وعثمان واستخلاف عمر،
فاكتفى بشرع الله للمشاورة، وتربيته - صلى الله عليه وسلم -الأمة عليها بالعمل.
على أن أولي العصبية خالفوا ما شرعه الله باتباع أهوائهم ومطامعهم لتقصير أولي
الأمر في وضع هذا النظام لكل زمان بما يناسبه، كما ضبط عمر رضي الله عنه
الأمر في زمنه بما يناسبه، بل عني علماؤنا بمسائل النجاسة والحيض والبيوع أشد
من عنايتهم بهذه المسألة حتى قال إمام كبير مثل الأشعري: إن بيعة رجل واحد من
أهل الحل والعقد تلزم الأمة إذا أشهد عليها، فأَنَّى يستقيم أمر أمة تعمل بهذا القول
في رياستها العامة؟
وأما الآثار عن الراشدين في المشاورة فكثيرة (منها) ما رواه الدارمي
والبيهقي عن ميمون بن مهران أن أبا بكر كان يسأل عامة المسلمين عما لا يجد
فيه نصًّا من الكتاب ولا سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -هل يعلمون عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا نعم قضى
فيه بكذا فيأخذ به ويحمد الله تعالى (قال) وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين
وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وأن عمر بن الخطاب
كان يفعل ذلك - وزاد أنه كان بعد النظر في الكتاب والسنة ينظر فيما قضى به
أبو بكر أيضًا؛ لأنه كان لا يقضي إلا بنص أو مشاورة , وانظر إلى الفرق بين
سؤال عامة المسلمين عن الرواية واختصاص الرؤساء والعلماء بالمشاورة - ذلك
بأنهم هم جماعة أولي الأمر وأهل الحل والعقد الذين أمر الكتاب بطاعتهم بعد طاعة
الله ورسوله وقال في إحالة أمر الأمة إليهم {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) .
(تنبيه)
لهذه المقالة بقية تأتي من أهم مباحثها مسائل الاستخلاف والعهد وخلافة
الضرورة والتغلب وما يخرج به الخليفة من الإمامة وعزله والخروج عليه ودار
العدل والجور، وتعدد الخلفاء في وقت واحد، وحال المسلمين فيه اليوم وحكوماتهم
المستقلة: وتعارض المانع والمقتضي في توحيد مقام الخلافة، أو ما يجب على
المسلمين ويحظر عليهم في ذلك.
وقد علم مما نُشر - ويزداد وضوحًا فيما سينشر - أن خلع حكومة الجمعية
الوطنية في أنقره لمحمد وحيد الدين نافذ شرعًا، وأنه ليس الآن خليفةً ولا
سلطانًا، ولا يتوقف تصحيح خلعه على تكفيره كما ادعى بعض من كتب في
المسألة فقال: إننا رأينا منه كفرًا بواحًا أي ظاهرًا لا يحتمل التأويل، وإنما يؤخذ
الحكم مما ذكرناه في مسألة المبايعة ومسألة سلطة الأمة ويوضحه ما سيأتي.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))