للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عجالة من رحلة الهند
لصاحب المنار
(٢)

التعليم الديني في الهند
سألت عن مدارس الحكومة الإنكليزية في الهند فقيل لي: ليس فيها تعليم ديني
ألبتة فلا يعلم فيها دين الحكومة ولا دين أحد من الأهالي (كما مر في النبذة الأولى
ج٦ ص٤٥٥) وبلغني أن المجوس يُعَلِّمون دينهم في مدارسهم، ولم يتسنَّ لي زيارة
شيء منها على ما كان من رغبتي في ذلك؛ لما ذكرت من ارتقاء هذه الطائفة في
علومها وآدابها وحضارتها، وكنت أرى أفرادًا من رجالها ونسائها على شاطئ البحر
بعد طلوع الشمس يصلون بما يقرءون من الكتب الدينية، فما كانت عبادة الشمس
والنار والبحر مانعة لهم من الترقي المدني، فكيف يمنع منها دين التوحيد والفطرة؟
وكذلك الوثنيون يعلِّمون دينهم في مدارسهم، وإنْ أدري أذلك عامٌّ فيها وفي
جميع فرقهم أم لا. وقد دخلت في آكرة مدرسة كبيرة لطائفة السنك، فعلمت أنهم
يعلِّمون دينهم فيها. وهذه الطائفة صارت تتصدى للدعوة إلى دينها، ولم يكن هذا
معهودًا عند الوثنيين مِن قبلُ، وبلغني أن بعض الجهلة المنتسبين إلى الإسلام قد
انتحلوا الوثنية إجابةً لدعاتها (راجع الجزء السادس ص ٤٥٥) ولا عجب في
ذلك بعد فشوّ نزغات الوثنية في المسلمين بدعاء أصحاب القبور واتخاذ قبورهم
أوثانًا، واتخاذ توابيت لهم يطوف بها المسلمون الجغرافيون في أسواق مدن الهند
وشوارعها كما يطوف الوثنيون بأصنامهم، حتى صار يصعب على أكثر علماء
الإسلام في هذا العصر أن يقنعوا علماء الأديان الأخرى بأن دينهم يمتاز على أي
دين من تلك الأديان، وكان المميز الأعلى له في أهله التوحيد الخالص الذي لا
يتحقق إلا بامتثال قوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨)
وأمثال هذه الآية من الآيات الكثيرة. فأما التوحيد اللساني الذي يظن أكثر المشتغلين
بالعلوم الإسلامية أنه خاص بالمسلمين، فما هو خاص بالمسلمين، وفي بحثي مع
ذلك البرهمي في مدينة (بفارس) المقدسة عندهم عبرة للمعتبرين، فإنه زعم أن
جميع المِلَل أخذت التوحيد عنهم؛ لأنهم أقدم الأمم فيه، وأن الأولياء الواصلين من
المسلمين إنما يرتقون إلى أصل دين البراهمة الذي هو وحدة الوجود كشمس الدين
التبريزي ومحيي الدين بن عربي (راجع ص ٤٥٦ من الجزء السادس) وهو
يحفظ كثيرًا من كلامهم ويطبقه على دينه، ولا يرى عبادة بعض المخلوقات التي
لها مزية في نفع البشر تنافي التوحيد والوحدة؛ لأنها لا تُعْبَد إلا لأنها مظهر الفيض
الإلهي كما يزعم، ويؤيد كلامه بنقول عن صوفيتهم وصوفية المسلمين.
وقد أسمعني كاهن السنك عند قبر ملكهم في لاهور طائفة من كتابهم المقدس
كلها من أعلى الكلام في توحيد الله وتقديسه (راجع ج٦ ص ٤٥٥) وعزو كل
شيء في الكون إليه، ولم يتعمد الكاهن اختيار ما قرأه بل فتح الكتاب أمامي وقرأ
من حيث فتح، وإنك على هذا الكلام المؤثر في التوحيد الخاص ترى تجاه قبة قبر
الملك شبه منصة في بناء آخر عليها الصنم ذو الأيدي الثمان الذي يزوره السنك
والمسلمون جميعًا للاستشفاع به إذا أصابهم مرض الجدري؛ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم
بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) .
أما المسلمون فكانت سوق العلوم الدينية ووسائلها من العلوم العربية نافقة في
كثير من مدنهم ثم كسدت مدةً طويلةً ما كان يظهر فيها إلا قليل من العلماء، ثم
جددها (ولي الله الدهلوي) صاحب كتاب حجة الله البالغة بنزوعه إلى الاستقلال
في الفهم، واجتناب التقليد الأعمى في كل علم، وكان له خلائف يسيرون على
طريقته ثم انحرفوا عنها، وزجوا أنفسهم في غمرة التقليد اتباعًا لجمهور الطلبة
وابتغاء مرضاتهم، والعلم الصحيح والتقليد المحض ضدان لا يجتمعان، وإنما
يجتمع مع التقليد ويحالفه الجدل والمراء، فزال بذلك العلم الاستقلالي أو كاد،
وضعف ما يسمى بالعلم التقليدي أيضًا كما ضعف في سائر الأقطار والبلاد.
على أنني رأيت في مدرسة (ديوبند) التي تلقب بأزهر الهند نهضة دينية
علمية جديدة أرجو أن يكون لها نفع عظيم , وهذه المدرسة لخلفاء ولي الله الدهلوي.
وقد اقترحت على علماء هذه المدرسة الأخيار عدة اقتراحات في إصلاح
التعليم وزيادة بعض العلوم العصرية في برنامجها (وهم يطلقون كلمة نصاب في
معنى البرنامج أو البرغرام في عرف مصر) وأن يجعلوا دراسة الفلسفة اليونانية
خاصة بطائفة من الطلبة، وهم الذين يُراد منهم الأخصاء في العلوم العقلية والفلسفة
القديمة وتاريخ هذه العلوم، وأن يخصصوا لكل نوع من العلوم طائفة من طلبة
القسم العالي؛ لأجل النبوغ فيها بعد الاكتفاء من غيرها بالقدر اليسير، ويعدوا
بعضهم للدعوة إلى الإسلام، وبعضهم لإرشاد عامة المسلمين، على منهج مدرسة
دار الدعوة والإرشاد، وأن يعلموا المبتدئين اللغة العربية نفسها بالتكلم بها والترجمة
قبل تعليمهم فنونها والفنون الشرعية المتوقفة عليها، وحينئذ يسهل عليهم اقتحام
العقبة الكئود في طريق التعليم عندهم وعند سائر الأعاجم وهي قراءة الكتب العربية
في جميع العلوم والفنون بالترجمة، وإنني بعد مذاكرة بعض أعلامهم في حال
التعليم عندهم خطبت فيهم خطبةً طويلةً في احتفال عام اجتمع فيه المدرسون
والطلبة أودعتها هذه الاقتراحات وغيرها من النصائح التي خطرت على بالي في
ذلك الموقف. فرأيتهم قد وافقوني في جميع ما قلته، بل كانوا قد سبقوا إلى الفكر
والعمل ببعضه من قبل وأسسوا جمعية دينية للمدرسة سموها جمعية الأنصار.
ما قرت عيني بشيء في الهند كما قرت برؤية مدرسة ديوبند، ولا سُرَّت
بشيء هناك كسرورها بما لاح لها من الغيرة والإخلاص في علماء هذه المدرسة.
وكان كثير من إخواني المسلمين في بلاد الهند المختلفة يذكرون لي هذه
المدرسة، ويصف رجال الدنيا منهم علماءها بالجمود والتعصب، ويظهرون
رغبتهم في إصلاح تعميم نفعها، وقد رأيتهم - ولله الحمد - فوق جميع ما سمعت
عنهم من ثناء وانتقاد، وأرجو أن يصدق ظني فيهم بأنهم من أبعد جميع من عرفت
من علماء الإسلام الدينيين عن الجمود والغرور , وستكون الصلة بين مدرستهم
ومدرسة دار الدعوة والإرشاد وجماعتها دائمة إن شاء الله تعالى , وسأذكر في
الرحلة خبر زيارتي لهذه المدرسة بالتفصيل، ومنه ما دار من الخطب هنالك ولا
سيما خطبة أحد العلماء في تاريخ المدرسة وسير العلم فيها.
هذا، وإن للعلم الديني بقية في معاهد ومدارس أخرى من المدن الآهلة
بالمسلمين كدهلي ولكهنوء ولاهور , وإني لأرجو الخير والإصلاح لمدرسة (فتح
بور) في دهلي بهمة ناظرها سيف الرحمن الأفغاني وغيرته وإخلاصه، وقد
سررت بزيارتي واجتماعي بجمهور العلماء والطلبة فيها، ورحب بي بعضهم
بخطبة عربية ارتجالية فأجبته بخطبة وجيزة أودعتها من النصائح في إصلاح
التعليم وأهله ما فتح الله تعالى علَيَّ به هنالك. وحثثتهم على العناية بتعلم اللغة
العربية بالقول والكتابة، وترك قراءة الكتب بالترجمة، فأظهروا الارتياح لذلك.
أما مدرسة ندوة العلماء التي أسست لأجل إصلاح التعليم الديني ودراسة العلوم
الإسلامية والعصرية كلها باللغة العربية، والتي زرت الهند بدعوة جمعيتها، وكنت
رئيس احتفالها (اجتماعها العامّ في هذا العام) فإنني لم أقف على طريقة التعليم
فيها ولم أختبر أحدًا من طلبتها؛ لأن أيام زيارتي لها كانت أيام عطلة الدراسة
واشتغال الناظر والمعلمين بالاحتفال الذي لم يسبق له نظير في كثرة إقبال الناس
عليه من البلاد الإسلامية الكثيرة , وقد ارتجل أحد طلبتها خطبة بالعربية في مدرسة
(فتح بوري) في دهلي. وسيكتب لي رئيس الندوة بيانًا مفصلاً عن مدرستها ينشر
في الرحلة إن شاء الله تعالى.
يعني أهل الهند بالمعقولات من المنطق والفلسفة القديمة والأصول، فعنايتهم
بها وبالحديث أشد من عناية أهل مصر والشام، بل أقول: إنني لا أعرف أن شعبًا
من شعوب المسلمين يُعْنَى بالحديث كعنايتهم، فهذا الأزهر أشهر المدارس الدينية
وأكبرها كاد يكون علم الحديث فيه نسيًا منسيًّا، ولكن حظ مسلمي الهند من أحاديث
الأحكام الفقهية أنهم يتكلفون تطبيقها كلها على مذهبهم في الفروع وإلا
حملوا ما يعيبهم تطبيقه على النسخ عملاً بقاعدة الكرخي وأمثاله من فقهاء المذاهب
وهي: أن كلام أصحابهم (الحنفية) هو الأصل، وكل من الكتاب والسنة يُعْرَض
عليه فإن وافقَهَ قبل وسُمي حجة له، وإن خالفه أُوِّل أو ادُّعي نسخه، إلا أن يجدوا
مطعنًا ما في سند الحديث، فإنهم يُكفون بذلك أمره كما قال الكرخي. وقد قلت لبعض
كبار العلماء في الهند - وقد أنست منه الصلاح والإنصاف -: أليس هذا عين
التحريف المعنوي الذي نعاه الكتاب العزيز على أهل الكتاب؟ فقال: اللهم
نعم، قلت: فلِمَ لا تقرءون الحديث وتقررون معناه بِحَسَب المتبادر من لفظه،
وتجعلونه فوق المذاهب أو بِمَعْزِلٍ عنها؟ قال: إن هذا لا يرضي الطلبة
ولا يحضرون دروس الحديث إلا إذا قرئ على هذه الطريقة. قلت إذًا تؤثرون
مرضاتهم على مرضاة الحق؟ قال: هذا هو الواقع! ! ولكن بعض علماء ديوبند
قال: إنه يسهل تطبيق جميع الأحاديث على مذهب الحنفية بغير تكلُّف، وضرب
لذلك بعض الأمثلة.
وهذا أغرب كلام سمعته من المشتغلين بالعلم؛ فإن المسائل التي اختلف فيها
أبو حنيفة مع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الفقه - رضي الله عنهم
أجمعين - كثيرة جدًّا، وهم كانوا أكثر رواية للحديث، وكانوا فيه على نسبة
تأخرهم. فأحمد أكثر رواية من الشافعي، والشافعي أكثر رواية من مالك، وهذا أكثر
رواية من أبي حنيفة. ثم إنهم كانوا أعرق منه في معرفة لغة الحديث؛ لأنهم
أصلاء في العربية وهو دخيل فيها، فإذا فرضنا أنه كان أذكى ذهنًا منهم كلهم، فلا
يعقل أن يصل بالذكاء إلى أن يكون هو المصيب وحده في جميع المسائل المختلف
فيها، ولا يتفق لأحد منهم أن يصيب في مسألة ما على سَعَة علمهم ومعرفتهم
واجتهادهم. ولا يلجأ إلى الجواز العقلي وإنْ كان محالاً عاديًا في مثل هذا إلا الجدل
المماري. على أنه مشترك الإلزام، فكما يجوز أن يصيب هذا في كل مسألة لأنه
ممكن بالإمكان الخاص يجوز أن يكون ذلك هو المصيب، ويجوز أن يخطئوا جميعًا،
وكما يجوز هذا عقلاً يجوز شرعًا؛ إذ ليس أحد منهم معصومًا، ولكن المعقول
الموافق لسنن الله تعالى هو أن كل واحد يخطئ ويصيب إلا المعصوم.
لا يتوهمن متوهم أنني أريد بشيء من كلامي هذا تفضيل بعض هؤلاء
الأعلام في اجتهاده على بعض، وإنما أعتقد أن كل واحد منهم يصيب ويخطئ،
وأن الصواب ليس واجبًا لأحد منهم ولا وقفًا عليه ولا لازمًا له؛ إذ لا عصمةَ لأحد
منهم. وأما قول بعضهم: إن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ
يحتمل الصواب. فإنما يصح مثله من المجتهد؛ لأن اجتهاده أوصلَهُ إلى الظن بأن
ما ذهب إليه هو الصواب، ومقتضاه أن يظن ما خالفه خطأ، وكل منهما يحتمل
الصواب بطبيعة مفهومه. وأما المقلد فلا مذهب له، وإنما ينتمي إلى المذهب الذي
يجد عليه آباءه وقومه، فإن تحول عنه فإنما يتحول لمنفعة تعرض له في غيره؛
لأن المذاهب عبارة عن طريقة يجري عليها المجتهد في استنباط الأحكام، وأين
المقلد في ذلك؟ ولو كان له مذهب يذهب إليه في الفهم والاستنباط لَمَا انتسب إلى
شخص أحد من العلماء فقيل مالكي وشافعي. وإني أُرَانِي أطلت في هذه المسألة،
ولم أكن أريد الخوض فيها، ولا هذه العُجالة بموضع لها، ولكن جمح القلم، فلنرد
جماحه ولنعد إلى ما كنا فيه.
وإذا كانت قراءة أحاديث الأحكام حجة على من يتعمد تأويلها وإخراجها عما
يتبادر إلى فهمه من معناها وإضلالاً لمن يتلقى هذا التأويل بالقبول، فهذا لا يتعدى
ما اختلفت فيه المذاهب والآراء الفقهية من الأحاديث، ويستفيد المشتغلون بالحديث
من سائر الأحاديث آدابًا وحكمًا وعلومًا لا يجدونها في كتب الفقه ولا في غيرها من
كتب العلم. وقد كان من تأثير الاشتغال بها أن صار في الهند طائفة كبيرة تعمل بها،
وبما يتبادر من الكتاب العزيز لا يقلدون دينهم أحدًا، وإنما يستعينون بكلام العلماء
على فهم الكتاب والسنة. وهم يسمون أنفسهم أهل الحديث، ويطلق عليهم عوام
الحنفية لفظ (وهابية) وقد يكون فيهم من لم يطلع على شيء من كلام الشيخ
محمد بن عبد الوهاب الذي ينسبونهم إليه. وسيرة هؤلاء الشخصية أحسن من سيرة
سائر فرق المسلمين المنتمين إلى المذاهب، فهم يجتنبون الفواحش والمنكرات والبدع
كلها ولا سيما بدع القبور، فإذا زاروها وقفوا عند حدود السنة المأثورة من
الدعاء والاعتبار، ويحافظون على صلواتهم وغيرها من الفرائض ويصدُقون في
معاملاتهم الدنيوية وينصحون.
وجملة القول أن التعليم الديني كان قد ضعف في الهند كما ضعف في سائر
الأقطار، وقد طفق يجدد قوته، ويعيد ما فقد من استقلاله، ويصلح ما فسد من
طرقه وأساليبه، ويوشك أن يظهر أثر الإصلاح ونتيجته في (ديوبند) قبل
ظهورهما في الأزهر.
***
الحالة السياسية في الهند
السياسة فتنة إذا تركها الكاتب والمؤرخ لا تتركه، وإنني رحلت إلى الهند وأنا
أنوي أن أقصر عملي فيها على اختبار حال إخواني المسلمين في الدين والعلم الديني
والدنيوي، لا أحفل بغير ذلك ولا أُعْنَى بالبحث عنه، ولا سيما السياسة، ولكن
الحكومة الإنكليزية هنالك جعلتني في موضع الظنة، واتهمتني بالسياسة فأذكت عَلَيّ
العيون والجواسيس، فكانوا أتبع لي من ظلي من حيث أفطن لهم ومن حيث لا
أفطن. ومنعت جمعية ندوة العلماء عما كانت تريده من إقامة أقواس الزينة وعمدها
أمام محطة (لكنهوء) وفي شوارعها لأجلي، وكادت تمنعها من جعلي رئيسًا
لاحتفالها لولا أن أقنع رئيسها الوالي الإنكليزي بأنني رجل علم ودين لا رجل سياسة
وذكر له أن من رأيي أن الجامعة الإسلامية لا وجود لها ولا ضرر في وجودها
على الاستعمار الأوروبي، واستشهد على هذا بجريدة إنكليزية نقلت هذا الرأي في
خطبة للدكتور مرجليوث الأستاذ في مدرسة أكسفورد الجامعة في إنكلترة.
وقد عملت بما نويت، فلم أتعمد البحث في السياسة لذاتها، وكنت أحسن
التخلص ممن يسألني مسائل سياسية فلا أسيء رده ولا أخوض معه كثيرًا، ولكن
جاء في كثير منها عفوًا أو نافلة تابعة لمباحث أخرى كبحثي مع بعض الأذكياء
المتعلمين في المدارس العالية في الهند وإنكلترا وغيرهم عن رأيهم في مستقبل
المسلمين مع الوثنيين في الهند، وقد جاء الكثير مما سمعته مطابقًا لما كنت أعلمه
أو أعتقده استنباطًا من الأخبار التي تصل إلينا في الجرائد. ولكنني سمعت من
الآراء ما لم يكن يخطر لي ببال.
يعرف أكثر المشتغلين بالسياسة في الأقطار المختلفة أن وثنيي الهند قد ارتقوا
في العلوم العصرية ارتقاءً أشعرهم بالحياة القومية، ودفعهم إلى مطالبة الإنكليز
بحقوقهم في إدارة بلادهم وأحكامها، وإنهم صاروا يهددون الحكومة باغتيال رجالها
ونسف سككها الحديدية ومبانيها الأميرية بالديناميت، وقد فعلوا ذلك غير مرة، وهم
يحتجون على الحكومة بأنهم مستعدون لكل عمل في الحكومة كاستعداد الإنكليز
وغيرهم أو هم أحسن استعدادًا، ويطلبون منها أن تمتحنهم مع رجالها في أي
القوانين الإدارية والقضائية، وفي أي العلوم التي يتوقف على إتقانها أي عمل من
الأعمال في أي فرع من فروع الحكومة ومصالحها، فإن لم يكونوا أعلم منهم فلا
تقبل لهم طلبًا. وكذلك يطلبون تجربتهم في تلك الأعمال، فإن لم يقوموا بها كما
يقوم بها العمال من الإنكليز، وأحسن فإنهم يعذرونها في حرمانها إياهم أو إعطائهم
دون حقهم منها.
وهم في إقليم بنغاله أرقى منهم في غيره وأشد عصبية. وكانت الحكومة
قسمت هذا الإقليم إلى ولايتين، وكان من مصلحتها في ذلك أن المسلمين يكثرون
في إحدى هاتين الولايتين فيكون لها العذر بأن تكثر من عمالهم فيه - وضلعهم معها -
فيضعف بذلك نفوذ الوثنيين، فما زالوا يلحون في جعله ولاية واحدة كما كان،
ويهددون الحكومة إذا لم تفعل حتى أنفذ ذلك ملك الإنكليز عند إلمامه بالهند للاحتفال
بتتويجه، وقد ساء ذلك المسلمين أشد الاستياء وعدوه جبنًا من الحكومة وخوفًا من
الوثنيين، ويقال: إن أمر الملك بجعل (دهلي) قاعدة الممالك الهندية ومركز
حاكمها العام بدلاً من (كلكته) قد قصد به إرضاء المسلمين وتطييب قلوبهم؛ لأنه
كثيرون في دهلي وولايتها، وكانت عاصمة ملكهم من قبل. وقد التزمت الحكومة
للمسلمين حفظ حقوقهم في الوظائف في بنغاله، وإن كانوا الآن ستة في المئة من
مجموع أهلها (كالقبط بالنسبة إلى مسلمي مصر) وكانوا في أحد قسميها السابقين
زهاء الثلث.
لم يمنع هذا بعض المسلمين من إظهار السخط الشديد للحكومة والتشديد في
انتقادها ولومها في الجرائد وكان النواب وقار الملك ممن كتب في ذلك كتابة شديدة
على أناته ووقاره وسنه، فما بالك بالشبان كالكاتب البليغ صاحب جريدة (زميندار)
التي أنشئت حديثًا في لاهور، فإنه كان شديد المعارضة، قوي العارضة، حتى
أحرج صدر الحكومة فحمَّلته غرامة حملتها عنه الأمة وأظهرت الميل إليه،
والحدب عليه، وانبرى للرد عليه صديقنا صاحب جريدة (وطن) وحمي الوطيس
بينهما، ولم تخل الردود بينهما من المطاعن الشخصية، ورأيت عقلاء المسلمين في
المدن التي زرتها قبل زيارة لاهور متألمين من هذا الخلاف بين الجريدتين،
ويتمنون إصلاح ذات بين الكاتبين، ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وقد وفقني الله
تعالى للإصلاح بينهما، فإن كل واحد منها قد أكرمني بتحقيق رجائي بعد أن حاول
إقناعي بعذره وكون الحق معه، فأنا أشكر لهما ذلك، وأسأل الله لهما التوفيق في
خدمة أمتهما.
كان المعروف عندنا بمصر أن حكومة الهند تتألف المسلمين وتساعدهم على
الارتقاء لتجعلهم في وجه الوثنيين الذين طفقوا يجاذبونها زمام الحكم في بلاد، وأن
المسلمين ضلعهم مع الحكومة يعتزون بها على الوثنيين ولا يريدون الاتفاق مع
الوثنيين عليها. وقد ظهر لي من كلام كثير من أهل البصيرة تفصيل في هذه المسألة
مجمله أن سياسة الحكومة غامضة فيها، فبعض رجالها يظهر الميل إلى المسلمين
والرغبة في ارتقائهم ولكن مع الاحتراس في العمل، وبعضهم يظهر الميل إلى
مراعاة قوة الوثنيين، ولأجل هذا يوجد في المسلمين أناس يرجحون الاتفاق مع
الوثنيين وأن يكونوا معهم إلبًا [١] واحدًا على الحكومة، وأكثرهم يرجحون جانب
الحكومة، ويرجون بالإخلاص لها أن يرتقوا في العلوم والوظائف، ويرون أن
الوثنيين لا ينصفونهم، ولا يجعلون لهم حظًّا من الحكم يليق بهم إذا هم ظفروا بما
يسعون إليه من الاستقلال. وقد سمعت من بعضهم أن الوثنيين يستميلونهم إليهم،
ويقولون لهم: إننا أمة واحدة يجمعنا وطن واحد، وهؤلاء الإنكليز يحتقروننا جميعًا
فيجب أن نكون إلبًا واحدًا عليهم.
الحكومة الإنكليزية بارعة في إقامة ميزان السياسة ببين الشعوب والانتفاع من
الخلاف بينهم، ولكنني أظن أن الموازنة الحاضرة بين مسلمي الهند ووثنييها لا
يطول أمدها، فإما أن تجمع هذه الحكومة أمرها في مساعدة المسلمين على الارتقاء
الصحيح الذي يساوون به الوثنيين فيكونوا كلهم معها ظاهرًا وباطنًا، وإما أن تلهيهم
بالتافه حتى يعتقدوا أنها تعبث بهم فيكونوا كلهم مع الوثنيين إلبًا واحدًا، وحينئذ
يتغير وجه السياسة في الهند وإن كانت قوى الإنكليز الإدارية والسياسية والمالية
والآلية تكفل لهم طول زمن الاستيلاء التام على تلك الممالك الواسعة ما دامت لا
تخاف أن تعارضها فيه قوة خارجية، بل هي تضم قسمًا كبيرًا من إيران إلى الهند
وبلوخستان وتطمع فيما هو أعظم من ذلك، وإلى الله المصير.
((يتبع بمقال تالٍ))