للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


التربية والتعليم
بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض [١]

(المكتوب ٢٩) من هيلانة إلى أراسم في ٣ فبراير سنة ١٨٥
لقد وهمت أيها العزيز في دعوى أن ذلك الهيكل الذي تمنيت إقامته للعلم لا
يوجد ولن يوجد؛ فإنه موجود بالفعل في سايدنهام [٢] على غاية القرب من لوندرة،
واسمه القصر البلوري، وفي نيتي أن أزوره أنا وأميل متى أمكنتني الفرص،
وصار في سن يؤهله لإدراك ما فيه من مواد التعليم، نعم إني لست على يقين من
مطابقة طريقة بنائه لآرائك تمام المطابقة؛ ولكن أقل ما فيه على ما سمعته عنه أن
القصد من إنشائه موافق لقصدك، وقد يدهشك أن تعلم أن ليس للحكومة يد في بناء
هذا القصر العامي - وإنما أصفه بذلك؛ لأن المقصود الأصلي من إقامته إنما هو
تربي طبقات العامة - فإن كل ما فيه من البساتين الواسعة، والبناء البلوري،
والآثار القديمة، والتماثيل وجمل الأشياء المفيدة ملك لجماعة من المتساهمين، وقد
عهد برفعه إلى مشاهير العلماء والصناع والأثريين، فكانوا يباشرون بأنفسهم إفراغ
المواد في القواليب، وتحصيل مُثل الأشياء؛ ذلك لأن الإنكليز إذا قصدوا تحقيق
غرض مفيد أو إنشاء معهد جديد لمنفعة عامة اعتمدوا على أنفسهم بسبب ما آتتهم
ضروب الحرية، ووسائل العمل الذاتية من قوة العزيمة وشدة البأس غير راجين
من الحكومة مساعدة مالية ولا قولية، لعلمهم أن العمر ينقضي دون الوصول إلى ما
يرجون، فهم متى أرادوا أقاموا تماثيل لعظمائهم، ورفعوا هياكل لفكرة يبديها
الواحد منهم.
أراك تشكو من عدم وجود معاهد للتمثيل عندنا خالصة للأطفال، فاعلم أن
لأطفال الإنكليز واحدًا منها؛ ذلك أنك في صبيحة عيد الميلاد تجد معظم تلك المعاهد
كأنها قد انفكت عن الاختصاص بالروايات الجدية والهزلية، ولا يقبل فيها من
الكبار إلا من كان مولعًا بسماع الأساطير، كأسطورة إهاب الحمار [٣] وأسطورة
الأصيبع، فكل واحد منها يصح أن يعنون بمعهد الرؤوس الشقر؛ لأن الأطفال في
شهرين أو ثلاثة من السنة يكونون هم المتصرفين في اختيار نوع الآلاهي العامة،
والمتمتعين بكل ما في المعاهد من المقاعد المخملة والموسيقى وضروب الغرور
والفتنة، ويؤكد لي الناس هنا أن كثيرًا من تلك المشاهد يحصل فيه التمثيل مرتين
في اليوم، إحداهما بعد الظهر لمن يتعجل في النوم من الأطفال الذين لا يقوون على
السهر، والثانية في العشي لليافعين والآباء والأمهات وللشيوخ الذين حفظوا للشباب
في ناحية من أذهانهم شعاعًا من ضيائه، ولمعة من بهائه، وينبغي على ذلك أن
أول شرط يلزم تحقيقه في النظارة أن يكونوا صبيانًا أو مستصبين، وإلا فكيف
يروقهم سماع ما يروى هنالك من أقاصيص الجن، وما يتمثل من الأضاحيك؟ نعم
إن مواضيع تلك الألاهي البهجة هي في الجملة غاية في الابتذال، وإنك لتأسف
على ما يضيع في سبيل تربية الإدراك بهذه الأماكن من نفقات الزينة والثياب،
وغيرها من عتار التمثيل؛ لأن ما يحصل فيها من تغيير المناظر قلما يفيد إلا إثارة
وجدان الإعجاب والدهشة؛ ولكن ما أشد ما يبديه الأطفال عندها من دلائل الفرح
المنبعث عن السذاجة، وما أبلغ ما يظهر من تشوفهم إليها، وأعظم ما يكون من
بريق أبصارهم وحملقتها بسبب استغرابها والافتتان بها، خصوصًا إذا جاء دور
ذلك المنظر المعروف المسمى منظر الانقلاب والتحول، فلشد ما تخفق القلوب
هنالك خفة ومرحًا.
ومهما كان في تلك المرائي من الابتذال فلا ينبغي أن يستخف بما يتجلى للأطفال
فيها من تلك القصور المسحورة، وأمطار العسجد والشرر والأنوار المشتملة على
جميع ما يرى في الفجر القطبي من الألوان المتباينة، والجزر السعيدة (الجزائر
الخالدات) والنساء العائشة في السحب، وفي الأشجار والأزهار؛ وبالجملة لا تصح
الاستهانة بتلك المخترعات الخيالية العامية التي تمثل في أضاحيك المناظر، فأينما
طار بنا الخيال وإن على أجنحة من الورق المقوى ولم يرفعنا إلا قليلاً؛ فإنه يفكنا
ساعات مما يبهظنا من أغلال العوائد والحاجات، تلك المناظر الغرارة لن تنفك أن
تكون محبوبة للعامة والأطفال؛ لأنها تفتح جزءًا من أبواب الكمال المطلق البالغ
أقصى غاياته.
لما رأيتني لا أملك الآن الذهاب بأميل إلى القصر البلوري، ولا إلى معهد
التمثيل عولت على الاستعانة بآلة يطاف بها هنا في المدن والقرى، وهي الفانوس
السحري وكأني بك تضحك من ذلك؛ ولكن أي مانع يمنع من أن تكون تلك الآلة
المستعملة لتحصيل اللذة والإعجاب من وسائل التعليم أيضًا، فليس ذنبًا للفانوس
السحري أنه قلما استعمل إلا لتمثيل الصور المضحكة الغريبة في دارة مضيئة، بل
إنه لا يكون إلا مفيدًا إذا قصد به الجد، ولو أن العلماء تفضلوا على المصورين
بإرشادهم إلى ما يختارون من مواضيع العمل، وإلى طريقة التصوير على الزجاج
لأدى الفريقان للأطفال فيما أرى فوائد، وقد سمعت أن المتولين أمر التربية في
إنكلترا سبقوا إلى اتخاذ هذه الطريقة في بعض المدارس لتأدية شيء من معاني علم
الفلك وتقويم البلدان والتاريخ إلى عقول الناشئين.
أنت تعلم أن علماء الفلك قد رسموا صور الأجرام السماوية الكبرى،
وخططوا آثار ذوات الذنب والشهب والخسوف والكسوف، أو انتزعوا صورها بآلة
التصوير (الفتوغراف) فلو أننا أردنا أن نجعل الفانوس السحري الذي هو الآن
مشهد الأوهام والمغالطات مشهدًا للحقائق أيضًا، كفانا في ذلك أن ننسخ على زجاجة
رسوم السماء وما فيها مصورة على الحالة القطرية تصويرًا مضبوطًا.
إذا كان المراد تمثيل الأرض في هذه الآلة، فلست على يقين من صلاحيتها
لتحصيل صور جميع ما فيها من سلاسل الجبال الكبرى، ومجاري الأنهار العظمى
ومجاهل الصحاري المريعة، وشكل السواحل الوعرة المغمورة بالمحيط، ولا حيلة
لنا في ذلك، فعلينا أن نكتفي بمبلغ طاقتنا من تصويرها فيها، على أن الطفل
يروقه نظر الأشياء تفصيلاً أكثر من النظر إليها جملة، فهو إذا نظر إلى صور
الأقاليم وهيئاتها؛ فإنما يلتمس أثرًا يريعه ويدهشه كصخرة غريبة الشكل، أو نبات
أجنبي، أو حيوان عجيب، أو إنسان مغاير لنا بلون جسمه.
وأما التاريخ؛ فلا شك في صلاحية الفانوس السحري لتعليمه؛ فإنه يتأتى به
إحضار خيالات من يتحدث عنهم من الماضين، فلا مانع من أن ترسم على صفحته
صور الشجعان الغابرين بزيهم وبزتهم، وصنوف ما وجد من الصور الغريبة كأبي
الهول، والثيران ذات الأجنحة وذات الرؤوس الإنسانية واللحى السوداء،
والجنيات، والآلهة، وغيرها من الصور الخرافية؛ لأنها إذا خرجت من الليل فلا
عجب أن تعود إليه.
أنا لسوء حظي لست عالمة ولا مصورة؛ ولكني أرسم رسمًا مناسبًا لحالتي،
وكنت أرى منك أحيانًا استحسان رسومي الكثيرة الألوان، نعم إني لا أحسن طريقة
التصوير على الزجاج؛ فإنها حرفة تُتعلم وكمال سأفتخر بأن يكون (أميل) هو
صاحب الفضل علي في كسبه وأصعب عليَّ في ذلك فيما أرى؛ إنما هو الحصول
على مُثُل متقنة؛ لأني إخال أن الواجب على المربي أن يكون دقيقًا فيما يعلمه الطفل
وأكره أن لا أبرز الأشياء لولدي في صورها الصحيحة، وقد وعدني الدكتور
وارنجتون - وهو موافق لي في كثير من أفكاري - أن ينتقي لي من لندره صورًا
منتزعة بآلة التصوير (الفتوغراف) أو رسومًا أُخذت من علماء الطبيعة وعلماء
الآثار والسياح، وأنا بفضل معونته على أمل من إنشاء مشهدي الصغير عما قليل
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))