للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
(٩)
لا يُحَدِّث مُحَدِّثٌ عن النزاع بين إنكلترا والروسيا في أواسط آسيا إلا وتتمثل
في مخيِّلة السامع صورة بِرَاز بين إنكليزي وروسي على ذروة جبل هندكوش،
أحدهما: مهاجم، والآخر: مدافع، يتساوران ويتواثبان، وينتطحان انتطاح الكباش،
ولا يمكننا الجزم والحكم بفلج واحد منهما بعينه وإخفاق الآخر؛ لأن عند كل واحدة
من الأمتين الإنكليزية والروسية من وسائل النصرة والفلج، وذرائع الغلبة والدفاع ما
يوجد مثله، أو ما يحاكيه عند الأمة الأخرى.
ربما يحكم حاكم - ذهابًا مع الوهم - بأن النصرة ستكون للروسية، لما أن
الحرب تنتشب بين الدولتين برية، وقد لا يتخللها عمل بحري قط، فقوة إنكلترا
البحرية - التي توازن قوة روسيا البرية - لا نجدة تُرتجَى منها في تلك الحرب،
وأَحَجَّ بأن يصح هذا الوهم (أي: ما أحجاه وأحراه بالصحة) لو لم تكن إنكلترا قد
تداركت أمرها، وأعتدت لدفع ذلك الخطر قوة أدبية منبثّة في البلاد الهندية انبثاث
الهباء في الهواء، تؤيد بها قوتها البرية الثانوية، فتقويان معًا على مقاومة القوة
الروسية. ذلك أن الشعب الإنكليزي قد امتزج بمعظم الشعب الهندي امتزاجًا تامًا،
وقد سعت إنكلترا في أحكام هذا الامتزاج منذ قوي نفوذها ثمة، فمدت شوابك الألفة
والوحدة الأدبية بين القبيلين، ومهدت للشعب الهندي سبل تعلم اللغة، حتى كاد
تعلمها ينطوي تحت الفرائض الدينية. واللغة كما لا يغرب عن فهم اللبيب مناط
الجنسية، أو هي الإكسير السياسي تحوِّل أخلاق الشعب وآدابه وعاداته وعواطفه،
بل وتعاليم دينه إلى أخلاق الشعب المتغلّب الذي تعلمت لغته وإلى آدابه وعاداته
وعواطفه وتعاليم دينه، فضلاً عن أن إنكلترا ضمَّت إلى تعليم لغتها، تعليم سائر
العلوم والفنون العصرية، وتخيرت أمثل الوسائل وأقرب الطرائق لبلوغ غايتها من
قلب الشعب الهندي إلى شعب إنكليزي [١] حتى إنها طمعت بما لم يطمع به إلا أبو
مرة من العبث بعقائد المسلمين، واستلانة عرائك المستضعفين منهم، فبثّت بينهم
مبادئ التعطيل، وتعاليم الإلحاد والكفر (النيشرية) ، وأقامت لها دعاة من أنفس
المسلمين ممن استذلهم الشيطان واستهواهم الغرور، وهذا وإن يظهر له أثر في
الآباء، يوشك أن يلصق من لوثه بنفوس خلائفهم وأنسالهم، فليتقِ مسلمو الهند شرَّ
ذلك بنشر التعاليم الدينية، وتخريج أحداثهم ونشئهم على آدابها وعقائدها؛ حتى
ترسخ في نفوسهم وتقيها من ذلك اللوث والطبع. بتعليم أبنائنا لغتَهم ودينهم نصون
أمتنا، ونحمي استقلالها الجنسي من الزوال إلى الأبد؛ بذلك نحارب أوروبا
ونعترض في طريق أطماعها، بتلك القوة الأدبية نقاوم قوتها، ونفل غرب عاديتها.
لا يتخيلنَّ أحدٌّ أن الحرب أو الثورة ضد الأمة المتغلبة هي التي تحرر الشعب
الضعيف وتفتكه من عقال سلطتها وتعيد إليه استقلاله.
ربما كان الهرج والشغْب من أنفذ العوامل في تضاؤل الشعب وتوهين قوته،
وتمكين يد المتغلب من عنقه. حملوا علينا بسلاح علومهم ولغاتهم وآدابهم،
فلنتحصن منهم بمثل تلك القوى، ولنحمل على أيدينا تعاليمنا وآدابنا، وننشر ذلك
بين أبناء ملتنا. لنأخذ بحُجَز أطفالنا عن الوقوع في أسر العدو الأسر الأعظم،
والاندماج في جنسيته والتحول إلى طينته. بعيني رأيت شابًا هنديًا مسلمًا رثََّ الهيئة
يلبث الخلقان والأسمال، وعلى رأسه كمة بالية، دأبه السياحة ومواصلة الرحلة -
وكل هذا منه على سبيل الزهادة ومحاكاة أهل الرياضة - درس العلوم في المدارس
الإنكليزية العالية، وهو يتكلم بالإنكليزية كأحسن متكلم من أهلها، وقد ترشَّح في
تلك المدارس، وتثقَّف عقلُه بعلومها وفنونها، ووقف على دقائقها ونتائج أبحاثها، لا
سيما العلوم الفلسفية والطبيعية. حدثني مَن باحثَه أنه أدهشه بسعة اطلاعه وغزارة
مادته، كان لا يسلك معه مجهلة من مجاهل تلك العلوم إلا ووجده خِرّيتها، ولا هوى
به من هوة عن الدقائق الفلسفية إلا وألفاه عِفريتها، ومما حكى عنه - وهو معجب
بفرط ذكائه - أنه يشرح ما حققه الفلاسفة الطبيعيون في أبحاثهم العصرية المتأخرة
شرحًا يخيل للسامع أن ذلك الشاب هو الذي وضع تلك الأبحاث واستنبط نتائجها،
لكنه - واخيبتاه! - لا يعلم من الإسلامية إلا اسمها، ولا يحفظ من تعاليمها سوى
فاتحة كتابها! . رجوت محدثي عنه أن يجمعني به ومُذْ وقع طرفي عليه تمثلت
لمخيلتي الأطوار الشرقية ملتفة بالغواشي الغربية، رأيت في يده أنبوبة يدخن بها
ويعَض عليها مثلما يفعل أصحابه الإنكليز، فكلمته بالعربية فإذا هو لا يعلم منها
سوى بضع كلمات، واستنطقته بواسطة ثالثنا عن بعض شؤون إسلامية فألفيته خالي
الذهن من أمر الدين، لا يهمه شأنه، ولمَّا سألته عن معلوماته الدينية، قال: إنه
يحفظ الفاتحة! قلت: اقرأها فتلكأ أولاً، ثم مضى في قراءتها على غير سداد،
فأطرقت حينئذ إلى الأرض واجمًا راثيًا لحال الأمة التي يستولي عليها الأجنبي، ثم
حوقلت وانصرفت.
وبالجملة، إن إنكلترا طمعت في ركس (قلب) كل شأن من شؤون الهند
ومسخه وتغييره، سوى تغيير اللون النُّحاسي الهندي إلى اللون الأبيض الإنكليزي.
وما يدرينا أنهم لا يطمعون بذلك أيضًا. علَّهم يلقون على الشعوب الهندية نظامًا عامًّا
يقضي بأن لا يتزوج الهندي النحاسي إلا بأوروبية بيضاء، والأوروبي إلا بهندية،
وهكذا دهرًا طويلاً، فيقاومون بذلك طبيعة الإقليم [٢] ويستولدون شعبًا خِلاسيًا [٣]
أبيض اللون مكونًا من الشعبين، اللهم غفرًا! .
ولم تألُ الحكومة الإنكليزية جهدًا بمد رواق العدالة والحرية والأمن فوق
الشعوب الهندية، وقد تحبّبت إليهم بما يملكها أزِمَّة أميالهم وعواطفهم، وأمتن آخية
وثقت بها سلطتها في الهند، وأشدها أحكامًا ما فعلته من مزج مالية الشعب الهندي
بمالية الشعب الإنكليزي، وأودعت تلك الأموال في المصارف الإنكليزية في جزائر
بريطانيا، ووحدت بذلك مصالح الشعبين العامة، بحيث تكونت مشروعاتهم الكبرى
وشركاتهم التجارية برجال القبيلين وأموالهم، ثم أخذت تشرف من وراء ذلك على
مجاري تلك الأعمال وجداول هاتيك الأموال، وتجتني لنفسها من كل ذلك ثمرات
سياسية وأدبية قلما يوفق لاجتنائها أحد غير الإنكليز. وقد مضى على إنكلترا في شد
تلك العُرَى والأواخي وتوثيقها سنون وأعوام، وهي لا تزال تواصل العمل في أمثال
ذلك ما واتاها الدهر، وهو مواتٍ. فهل بعد ذلك يجزم جازم بأن روسيا تطرد
إنكلترا من الهند وتقلص ظلال سلطتها عنها؟ ! ، والسداد في الرأي التوقف كما
توقفنا، وترك أمر الغيب إلى مَن تفرَّد بعلمه - سبحانه وتعالى -.
وكيفما كان الأمر، فالأحجى بالحكومتين - الأفغانية والفرنسية - أن تكونا
على حذر ويقظة من شَرِّ الدولتين اللّتين تتربصان بهما الدوائر، وتنتهزا فرصة
الشِقاق بين تلك الدولتين، فتبادرا لرتق الفتق قبل اتساعه، ومواساة العِلَّة قبل
استحكامها، وتسارعا لعقد حلاف بينهما، وشدّ عروة وِفَاق تصونان به أمتهما
ودينهما من الضياع، وتمد أيديهما إلى الحكومة العثمانية، فهي-إن شاء الله تعالى-
تلبيهما كما تلبي الجميع الحكومة المراكشية، فتتم للإسلام وحدة مقدسة؛ يُصان
بها شرفه، وتُحمَى حقيقته.
((يتبع بمقال تالٍ))