للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوقف من الدين

رد ثانٍ على عزيز أفندي خانكي
مَن يكتب أو يتكلم لطلب الحقيقة أو لتقريرها يستفيد من المناقشة والمعارضة
أكثر مما يستفيد من البحث والتنقيب ويرجع إلى الحقيقة إذا ظهرت له على يد غيره
ويأخذ الحكمة أنَّى وجدها، ومن يكتب أو يتكلم لغرض يرمي إليه، أو فائدة له
يناضل دونها لا يزيده بيان الحق إلا إعراضًا عنه، ولا يفيده تجلي الصواب إلا
مكابرة فيه، فهو يجادل لإخفاء الحقيقة وصرف الأنظار عنها، وتلوين الباطل
بلونها ليشتبه على الناظرين بها، وقد اتخذ هذا التلوين والتمويه صناعة نفر من
(المحامين) الذين نصبوا أنفسهم لقبول الوكالة في كل دعوى والخصام في كل
قضية، والدعوى تكون دائمًا بين خصمين أحدهما محق والآخر مبطل وإنك لتجد
لكل خصم محاميًا فنصف هؤلاء المحامين يخاصمون في الباطل ويجاهدون في
إبطال الحق بالقول المموه والتلوين الذي يخفي ما كان ظاهرًا، ويخدع من كان
ناظرًا، وقد أتقن هؤلاء المحامون الخلابة في الخطابة حتى إنك لتجد القضاة
يشكون دائمًا من خلابتهم في خطابتهم ويقطعون عليهم الكلام ويطلبون منهم عدم
الخوض فيما وراء موضوع الدعوى. ومنهم الذين يستعينون على تقرير ما يريدون
تقريره بالكتابة في الجرائد لإقناع الجمهور بما يدعون؛ لأن لاعتقاد الجمهور أثرًا في
نفوس القضاة والحاكمين، واعتبارًا خاصًّا في وضع القوانين، ولا وزر على
الجرائد إذا نشرت آراء الناس في القضايا العامة وعرضتها بذلك للبحث والنقد
فكثيرًا ما يظهر الحق في ذلك على خلاف ما يريد الباحث الأول أو على وفق ما
يريد.
هذا الصنف أو النصف الطبيعي من المحامين يصور الحجة بشبهة داحضة،
ويمثل الشبهة حجة ناهضة، فإذا عارضته بالنقل في موضوعه قال: إنك من أهل
التقليد، وإذا قلت: هذه بيناتي هن أظهر لك. يقول: لقد علمت ما لنا في بيناتك من
حق وإنك لتعلم ما نريد. ذلك ما سلكه معنا عزيز أفندي خانكي المحامي - كتب
مقالاً في (المقطم) يريد به الطعن في بعض أحكام المحكمة الشرعية في الوقف
على غير ما يريد ويحب فتطرف فيه إلى القول بأن الوقف ليس من الدين الإسلامي
في شيء ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة - وما هو من أهل هذا الدين ولا معرفة
له بالكتاب ولا بالسنة - فكتبنا في (المقطم) نعلمه بأن الوقف من أحكام الدين،
وقد جرى عليه أهله من الصحابة والتابعين، وذكرنا له كتب الحديث التي أنكر أن
فيها شيئًا في الوقف. ذكرنا ذلك في (المقطم) بالإجمال وفصلناه في (المنار)
(ج ١٧، ص ٨١٦) بعض التفصيل.
وكنا نظن أنه كتب تلك الكلمة بغير علم وأنه إذا جاءه العلم يقنع ويرجع فإذا
به وقد زاده العلم إصرارًا على رأيه، وتمويهًا له في نظر غيره، فقد كتب مقالة
في الرد علينا جاء فيها شيئًا من الخلابة غريبًا، و (أسمعني من الشعر العجيبا)
بدأها بذم التقليد تمهيدًا للقول بأنه يدعو المسلمين إلى مدنية جديدة بإنكار كون الوقف
من الدين، وجعل أوقاف المسلمين تحت أهواء المحامين وتصرف الحاكمين،
ولإيهام أنني أدعوهم إلى الجمود على اتباع السنة، وذلك تقليد يخالف (بزعمه)
الحكمة، وقد رأى قراء (المنار) أن النبذة التي كتبناها في أحاديث الوقف ردًّا
عليه تتلوها نبذة من نبذ متسلسلة في إبطال التقليد مبتدأة بالوجه السابع والعشرين
ومختتمة بالوجه الرابع والثلاثين من وجوه إبطال التقليد في الإسلام. ويعلمون أن
هذا مذهب المنار منذ أنشئ يقيم البرهان عليه كلما عنت له المناسبة، ولكن
المحامي البارع يريد بذم التقليد أن نترك اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فنبطل ما شرعه وننبذ سيرة الخلفاء الراشدين تقليدًا لرأيه الأفين في أن ذلك من
المدنية والعمران وأن الوقف منافٍ لمبادئ الاقتصاد السياسي.
قال المحامي: إنه كتب ما كتب عن الوقف مستهديًا بعظات التاريخ
مسترشدًا بأصول علم السياسة المالية مستضيئًا بكتب أئمة الفقه محترمًا أصول
وأحكام الدين الحنيف. ثم بعد أن ذكر كتاباته عن فساد التقاضي وخلل المرافعات
في المحاكم الشرعية قال: (فنفر إلينا شيخ رمانا بالجهل وبالجراءة على كتابة ما
كتبنا ونشر ما نشرنا ويستفز رجال الشرع (على) تكذيبنا، ولو أنه قرع الحجة
بالحجة والبرهان بالبرهان لهان إلا أنه اكتفى بالسباب والمهاترة عن الجدال
والمناظرة (سامحه الله) ! اهـ.
ونقول: من قرأ ما كتبنا علم أننا لم نرمِهِ بما قال ولم ندعُ أحدًا إلى تكذيبه في
كل ما كتب ونشر كما يوهم إطلاق عبارته وإننا وكلنا مناقشته في شأن المحاكم إلى
أهلها ولم نتعرض إلا لغلطه في قوله: إن الوقف ليس من الدين في شيء وإنه لم يرد
فيه حديث إلا ما انفرد به ابن ماجه في وقف عمر. وأظهرنا العجب لجراءته على
هذا النفي المطلق، واعتذرنا عنه بأنه لم يطلع على كتب الحديث وأنه لا لوم عليه
في ذلك؛ إذ قلنا: (إن هذا ليس طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيعاب بعدم
الاطلاع على السنة..) إلخ، فأين البراهين التي جاء بها على نفيه ما عدا حديث
ابن ماجه فيطالبنا بقرع البرهان بالبرهان وكيف ساغ له أن يسمي اعتذارنا عنه
سبابًا ومهاترة؟ لقد ظهر أنه يريد بهذه الألفاظ إلهاء خيالات القارئين، كما هو شأن
الصنف الذي قلنا: إنه نصف المحامين.
ولقد كان منه بعد تعميته وإبهامه، وتعريضه وإيهامه، أن زعم أنه عاد إلى
تعزيز رأيه الذي فندناه، ونفيه الذي أثبتنا سواه، فبدأ هذا التعزيز بكلام في تاريخ
الرومانيين والفرنسيين وكلام في حرية المعاملات وسهولة التجارة ورأي له في
استحسان تدريس علم الاقتصاد السياسي في المدارس الثانوية، وجعل كل هذا
تمهيدًا لرد قولنا: إن غير ابن ماجه من المحدثين رووا أحاديث في الوقف خلافًا لنفيه
المطلق، فما هذه الحجج والبراهين عند هذا الصنف من المحامين؟ ! اللهم أفرغ
الصبر الجميل على قلوب القضاة الذين يبتلون بسماع أمثال هذه الحجج والبينات.
ثم جاء بعد هذه التمهيدات العجيبة بالحجة البالغة عنده على نفي كون الوقف
من الدين وهي أن القاضي شريحًا قال: (إن الوقف غير جائز شرعًا) ، وما قال
القاضي شريح ذلك على إطلاقه كما يجيء، ولئن قاله فلا يُلتفت إلى قوله؛ لأنه
رأي له واجتهاد منه ولا رأي ولا اجتهاد مع النص عن الشارع وإجماع أئمة الفقه
الذين يستضيء محامينا بكتبهم فتعظيمه وتبجيله بعد ذلك لشريح لا يغني عنه شيئًا،
وكذلك إيهامه الجاهلين بأنه من الصحابة، إذ قال: إنه قام بعد وفاة النبي عليه
السلام يقول للملأ جهارًا: إن الوقف غير جائز شرعًا. والصواب أنه من التابعين
الذين لا يحتج أحد بآرائهم وما كان لمثله أن يعلِّم الصحابة ما يجوز شرعًا وما لا
يجوز. على أن الصحابي لا يحتج الجمهور برأيه أيضًا.
قال المحامي البارع: إن القاضي شريحًا بنى رأيه في عدم جواز الوقف مطلقًا
على أن الوقف فيه حبس عن فرائض الله المنزلة في كتابه. ونحن نرد هذا بأنه لم
يصح عنه كما سيجيء وبأن الحبس عن الفرائض المنصوصة إنما يتحقق ويكون
ممنوعًا إذا قصد الواقف حرمان بعض الورثة. من حقه في التركة كله أو بعضه لما
في ذلك من الإيذاء. ومن أسباب العداوة والبغض، فإذا انتفى هذا القصد كأن يقف
على شيء من أعمال الخير كما وقف الصحابة عليهم الرضوان فأي شيء في هذا
يقضي بالمنع؟ أما لو كان هذا ممنوعًا لكان كل عمل خيري وكل وصية للمنافع
العامة كالمدارس والملاجئ وترقية العلم من المحظورات التي لا تجوز ولا تحل
لأنها تحبس المال عن الورثة. فهل يقول المحامي البارع بهذا؛ لأن له الآن حظًّا في
زلزال أوقاف المسلمين؟ وأما زعم أن أوقاف الصحابة لم تجز إلا لأن وُرَّاثهم
أجازوها كما نقل عن العيني فهو باطل؛ لأن أحدًا لم ينقل في تلك الأحاديث أنهم
استجازوا ورثتهم أو استشاروهم ولم يوجد في روايات الأحاديث أن النبي عليه
الصلاة والسلام أمرهم بذلك أو اشترطه عليهم فالقائل به مدَّعٍ بلا دليل.
وقد جاء المحامي البارع بشبهة على كون الوقف ليس من الدين حشاها بين
دعوى القاضي شريح ودليله وإننا نذكرها متأخرة رعاية للنسق ونردها على قائلها
بالسند وهي أن الفقهاء بحثوا في مشروعية الوقف وعدمها قال: فدل ذلك على أن
المسألة خلافية بين نحارير العلماء أنفسهم، ونقول: إن العلماء النحارير قد نقلوا
الإجماع على مشروعية الوقف ولزومه، قال النووي في شرح صحيح مسلم: إن
المسلمين أجمعوا على أوقاف المساجد والسقايات. وهو يتضمن أن مطلق الوقف
مجمع عليه. وأطلق القرطبي فقال: رادّ الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه.
لا يخفى أن إثبات الإجماع في غير الأمور العملية متعسر ومتعذر وقد علمنا
بالتواتر أن المسلمين يقفون من عهد النبي وأصحابه إلى هذا اليوم الذي جاءنا فيه
محامٍ نصراني يريد إبطال الوقف في الإسلام أو إباحة التصرف بالأوقاف تمدينًا
للمسلمين بزعمه وقطعًا لطرق الخير والبر في الواقع ونفس الأمر أو تحكيمًا للحكام
فيها، ولا حجة له إلا أن شريحًا من التابعين لم يكن يقول بالوقف؛ لأنه حبس عن
الفرائض وإننا لنوافق القاضي والمحامي في هذه الجزئية ونقول للناس: لا يجوز
لكم أن تقفوا أوقافًا بقصد منع ورثتكم من الفرائض التي فرضها الله لهم؛ بل افعلوا
الخير للخير كما أمر الله ورسوله. ولعل هذا يرضي القاضي في الآخرة ولا
يرضي المحامي في الدنيا.
ثم ذكر المحامي البارع أن: (أقطع برهان للدلالة على أن نظام الوقف يقبل
التغيير والتعديل شرعًا ما رواه العيني في شرح البخاري من أن عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
لرددتها، فلما قال عمر هذا دل على أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من
الرجوع فيها؛ وإنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
أمره فيها بشيء وفارقه على الوفاء به؛ فكرِه أن يرجع عن ذلك) اهـ نقل
المحامي.
ونقول: إن كلمة عمر في الرجوع عن الوقف منقطعة الإسناد؛ لأن قائلها ابن
شهاب لم يدرك عمر وقد أوردها بعض الحنفية حجة لقول أبي حنيفة: إن قول النبي
لعمر: (احبس أصلها) لا يستلزم التأبيد بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره. قال
الحافظ في الفتح: ولا يخفى ضعف هذا التأويل. ولا يفهم من قوله: (وقفت
وحسبت) إلا التأبيد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على
الرواية التي فيها: (حبيس ما دامت السموات والأرض) ثم ذكر نقل القرطبي
الإجماع على الوقف. فالصواب أن عمر يريد - إن صح النقل - أنه لو لم يذكر
ذلك للنبي فيجعله النبي شرعًا مقررًا لكان رجع عنه ولكنه صار ممنوعًا من
الرجوع شرعًا، لا أنه كره الرجوع كراهة لما فيه من عدم الوفاء ولضعف تأويل
أبي حنيفة (رحمه الله) هنا خالفه صاحباه ووافقا الجمهور. فظهر أن قول عمر
حجة على أنه لا يجوز الرجوع في الوقف بعد تأبيده. ثم ذكر ما قاله الحنفية أيضًا
من أن قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: (إن شئت حبست أصلها) لا يستلزم
إخراجها عن ملكه.
ومن الغرائب أن يتشبث أحد بمثل هذا، وليس في هذه الرواية إلا أن الوقف
قربة اختيارية من قرب الدين، وليس مفروضًا على المسلمين، وهذا مما لا خلاف
فيه. وأما كون العبارة تفيد جواز الرجوع عن الوقف، فمما لا وجه له ولا يذهب
إليه إلا المتعلل بالأوهام فإنه فهم تتبرأ منه العربية.
ثم انتقل المحامي البارع من هذا إلى إيهام أبعد منه عن الصواب فاستدل على
زعمه السابق أنه لم يرد في الوقف إلا حديث عمر بعدم ذكر الحديث في الموطأ -
وزعم أنه أصح كتب الحديث - وعدم ذكر غيره في صحيحي البخاري ومسلم.
وهو مخطئ في ذلك ولا يعدو خطأه سببين اثنين: أحدهما: قلة اطِّلاعه واطلاع
شيخه الذي دله على هذه الشبه في العيني وهو الذي اعتذرنا به عنه أول مرة وسماه
شتمًا، وثانيهما: تعمده الكذب مع العلم به وهذا ما لا نرضاه له، فهل يمكن أن يكون
لهذين السببين ثالث؟ الموطأ ليس أصح الكتب بل أصحها جامعا البخاري ومسلم
باتفاق المحدثين ولكن الموطأ ومسند الإمام أحمد أقدم من الصحيحين والأحاديث
الدالة على مشروعية الوقف متفق عليها، وقد ذكرنا في النبذة الأولى التي نشرناها
في الجزء السابع عشر أن حديث وقف عثمان ذكره البخاري تعليقًا وأن حديث وقف
أبي طلحة رواه أحمد والبخاري ومسلم ولكننا قلنا هناك: (الشيخان) فلعله لم يفهم أن
المراد بهما البخاري ومسلم إلا أن يدعي أنه لم يطلع على تلك النبذة، وذكرنا فيها
حديث الترغيب في وقف المنقول عند أحمد والبخاري وقلنا: إن حديث وقف خالد
لأدراعه وأعتاده صحيح، ونقول الآن: إنه في البخاري ومسلم وهو متفق عليه.
وذكرنا أن حديث الترغيب في الوقف على الإطلاق - وهو الصدقة الجارية
بالاتفاق - قد رواه أحمد والبخاري.
وحسبه هذا إن كان منصفًا لا سيما مع قولنا: إن الحديث إذا صح نهض دليلاً
سواء كانت الواقعة - إن كانت واقعة - واحدة أو تعددت. وأذكر أن مالكًا روى
بعض أحاديث الوقف؛ لأنه مذكور في سند بعضها. وأتباعه المالكية مجمعون مع
المسلمين على مشروعية الوقف فعدم ذكر أحاديثه في الموطأ لا ينهض حجة على أن
الإمام مالكًا لا يقول به فإن كثيرًا من أحكام الدين المتفق عليها لا ذكر لها في الموطأ.
ثم انتقل المحامي البارع إلى معارضة الأحاديث المجمع على العمل بها تواترًا
بحديث اعترف هو أنه شاذ وهو حديث شريح: (لا حبس عن فرائض الله) وذكر
له سند إلى شريح وليس فيه أن شريحًا أسنده إلى أحد من الصحابة ولا رفعه. ولو
رفعه بدون ذكر الصحابي لعُدَّ من مراسيله والجمهور لا يحتجون بالحديث المرسل
مطلقًا ومن قال بأنه حجة يشترط في ذلك شروطًا ليس من السهل تحقيقها لا سيما
بعد العلم بأن شريحًا يقول هذا لتأييد رأيه على رأي الجمهور. ولو سلمنا بأن
الحديث مسند مرفوع صحيح سالم من الشذوذ لما كان فيه من حجة لما علمت من أن
المتبادر منه منع القصد إلى حرمان بعض الورثة من الإرث.
على أن الرواية عن شريح فيها مقال وإن نقل المحامي عن العيني أن رجالها
ثقات فقد قال الحافظ الذهبي في الميزان: إن ابن يونس قال في راويها سليمان بن
شعيب بن الليث: إنه يروي مناكير. وإن العقيلي قال فيه: حديثه غير محفوظ، وهو
الواضع لحديث: (أبو بكر وزيري يقوم في الناس مقامي من بعدي وعمر ينطق
بالحق على لساني وأنا من عثمان وعثمان مني وعلي أخي وصاحبي يوم القيامة) ،
وإن كان سليمان بن شعيب في الرواية ليس هو حفيد الليث مع أن المتبادر أنه هو؛
لقولهم: سليمان بن شعيب غير أبيه، فهو بلا شك سليمان بن شعيب السنجري
الذي يروي عن سفيان الثوري وقد قال فيه ابن عدي: ضعيف يسرق الحديث،
فعلم من هذا أن الرواية عن شريح موضوعة أو واهية وأنها لو صحت وسلمت من
العلة والشذوذ لما كان فيها دليل على المراد.
وهذا كل ما نقل عن شريح، قال المحامي البارع: ويؤيد هذا ما رواه
الطحاوي أيضًا من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: (سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد ما أنزلت سورة النساء نهى عن الحبس) وأخرجه البيهقي أيضًا
فمن هذا يعلم القارئ أن رجال الدين في صدر الإسلام كانوا يتناقشون ويتناظرون في
مشروعية الوقف وأن منهم من رأى أن الوقف غير جائز شرعًا. اهـ
أقول: أما الحديث فضعيف؛ لأن في إسناده عبد الله بن لَهيعة عن أخيه
عيسى وهما ضعيفان، ولا نظر لتوثيق أحمد لعبد الله؛ لأن الجرح مقدم على التعديل
وإنما جرحه الحفاظ مع علمهم بقول أحمد فيه، ولا لتوثيق ابن حبان لعيسى لما ذكر،
ولأنه متساهل يعتد بجرحه ويتثبت بتعديله كما قال الحافظ. ويؤيد ضعفه استمرار
المسلمين كافة على الوقف من ذلك اليوم إلى هذا اليوم، وأما ما فرعه عليه أو على
مجموع ما تقدم من أن رجال الدين في صدر الإسلام كانوا يتناقشون في مشروعية
الوقف فهو باطل ولم يوجد ما يدل عليه إلا أنه ادعاه أولاً ثم ادعاه آخرًا فهو يؤيد
الدعوى بالدعوى.
بقي أننا علمنا من عبارات المحامي البارع أنه اعتمد في تمويهاته على شرح
العيني على البخاري وقد نقل ما نقل عنه مبتورًا ولو تصفح الجزء الذي نقل عنه
أو الفهرس لعلم أن في البخاري كثيرًا من الأحاديث في الوقف. وفي الورقة التي
نقل عنها من شرح العيني أنه لا خلاف بينهم في جواز الوقف وفصل ذلك ثم بيَّن
موضع الخلاف فقال (ص ٤٦٩، ج ٦) : (واختلفوا في جوازه مزيلاً لملك
الرقبة إذا لم يوجد الإضافة إلى ما بعد الموت ولا اتصل به حكم حاكم، فقال أبو
حنيفة: لا يجوز حتى كان للواقف بيع الوقف وهبته وإذا مات يصير ميراثًا لورثته
وقال أبو يوسف ومحمد والجمهور: يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث) ثم
قال: (وفيه - أي: الحديث - أن الوقف مشروع خلافًا للقاضي شريح) فعلم أنه لم
يختلف أحد من المسلمين في مشروعية الوقف إلا ما نقل عن القاضي شريح ولعله
كان لعدم علمه بالأحاديث الصحيحة فيه، وجعْل عمر شريحًا قاضيًا وإقرار الخلفاء
بعده إياه على القضاء في الكوفة لا ينافي ذلك فإن الرواية كانت في العراق قليلة
على عهده. وأما زعم المحامي أن شريحًا قام ينادي في الناس بمنع الوقف ويجادل
ويناضل فيه فغير صحيح وما ذكر من الحجج عنه لم يرو منه إلا قوله: (لا حبس
عن فرائض الله) ؛ وهي شبهة وقد علمت ما فيها متنًا وسندًا. وإن العبث بأحكام
السنة ليس سهلاً كالعبث بالقوانين. فلا تتطاول إليها خلابة ذلك الصنف من
المحامين؛ لأن لها أنصارًا يؤيدونها إلى يوم الدين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.