تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من نعم واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه، ولكنها حاجة روحية، وكل ما لامس الحس منها فالقصد منه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة، أو تقويم ملكاتها أو إبداعها ما فيه سعادتها في الحياتين. أما تفصيل طرق المعيشة والحذق في وجوه الكسب وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه من أسرار العلم، فذلك مما لا دخل للرسالات فيه، إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يُحْدِث ريبًا في الاعتقاد، بأن للكون إلهًا واحدًا قادرًا عالمًا حكيمًا متصفًا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له، وصنع قدرته وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال. وشرطه: أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدًا من الناس بشرٍّ في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة على ما حدد في شريعتها. يرشدون العقل إلى معرفة الله، وما يجب أن يعرف من صفاته ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد، لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات فيما اختلف من الأوقات، تذكرة لمَن ينسى، وتزكية مستمرة لمن يخشى، تقوي ما ضعف منهم، وتزيد المستيقن يقينًا. يبينون للناس ما اختلفت فيه عقولهم وشهواتهم، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع، ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة، ولا تفوت به المنافع الخاصة، يعودون بالناس إلى الألفة، ويكشفون لهم سر المحبة، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم. يعلمونهم لذلك أن يرعى كلٌّ حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه، وأن لا يتجاوز في الطلب حده، وأن يعين قويُّهم ضعيفهم، ويمد غنيُّهم فقيرهم، ويهدي راشدهم ضالهم، ويعلم عالمهم جاهلهم. يضعون لهم بأمر الله حدودًا عامة، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق، مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوِّموا أنفسهم بالملكات الفاضلة، كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود، والمحافظة على العهود، والرحمة بالضعفاء، والإقدام على نصيحة الأقوياء، والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء، يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية، إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، حسبما أمرهم الله جل شأنه. يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضاء الله عنهم، وما يعرضهم لسخطه عليهم، ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب، وحسن العقبى لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره وتجنب الوقوع في محاظيره، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به مما لو صعب على العقل اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده. بهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارًا لجزيل الأجر، وإرضاءً لمَن بيده الأمر، بهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم. ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكنَّ من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في بقاء أشخاصها وأنواعها، وغير ذلك مما وضعت له العلوم، وتسابقت في الوصول إلى دقائقه الفهوم، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك، يزيد في سعادة المحصلين، ويقضي فيه بالنكد على المقصرين، ولكن كانت سنة الله في ذلك أن يتبع طريقة التدرج في الكمال، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفِطَر الإنسانية من مراتب الارتقاء. أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض، فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من حكمة مبدعة، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه، وحالهم عليه الصلاة والسلام في مخاطبة أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة، وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم. على كل حال لا يجوز أن يقام الدين حاجزًا بين الأرواح وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان. بل يجب أن يكون الدين باعثًا لها على طلب العرفان، مطالبًا لها باحترام البرهان، فارضًا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديها من العوالم، ولكن مع التزام القصد، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين. (اعتراض مشهور) قال قائل: إن كانت بعثة الرسل حاجة من حاجات البشر، وكمالاً لنظام اجتماعهم، وطريقًا لسعادتهم الدنيوية والأخروية، فما بالهم لم يزالوا أشقياء، عن السعادة بعداء، يتخالفون ولا يتفقون، يتقاتلون ولا يتناصرون، يتناهبون ولا يتناصفون، كل يستعد للوثبة، ولا ينتظر إلا مجيء النوبة، حشو جلودهم الظلم، وملء قلوبهم الطمع، عَدَّ كل ذوي دين دينهم حجة لمقارعة من خالفهم فيه، واتخذوا منه سببًا جديدًا للعداوة والعدوان فوق ما كان من اختلاف المصالح والمنافع، بل أهل الدين الواحد قد تنشق عصاهم، وتختلف مذاهبهم في فهمه، وتتفرق عقولهم في عقائدهم، ويثور بينهم غبار الشر، وتتشبث أهواؤهم بالفتن، فيسفكون دماءهم، ويخربون ديارهم، إلى أن يغلب قويّهم ضعيفهم، فيستقر الأمر للقوة لا للحق والدين فها هو الدين الذي تقول إنه جامع الكلمة ورسول المحبة، كان سببًا في الشقاق ومضرمًا للضغينة، فما هذه الدعوى وما هذا الأثر؟ نقول في جوابه: نعم إن كل ذلك قد كان، ولكن بعد زمن الأنبياء وانقضاء عهدهم، ووقوع الدين في أيدي من لا يفهمه أو يفهمه ويغلو فيه، ولكن لم يمتزج حبه بقلبه أو امتزج بقلبه حب الدين ولكن ضاقت سعة عقولهم عن تصريفه تصريف الأنبياء أنفسهم أو الخيرة من تبعتهم، وإلا فقل لنا: أي نبي لم يأتِ أمته بالخير الجم والفيض الأعم، ولم يكن دينه وافيًا بجميع ما تمس إليه حاجتها، في أفرادها وجملتها؟ أظن أنك لا تخالفنا في أن الجمهور الأعظم من الناس (بل الكل إلا قليلاً) لا يفهمون فلسفة أفلاطون، ولا يقيسون أفكارهم وآراءهم بمنطق أرسطو، بل لو عرض أقرب المعقولات إلى العقول عليهم بأوضح عبارة يمكن أن يأتي بها معبر لما أدركوا منها إلا خيالاً لا أثر له في تقويم النفس، ولا في إصلاح العمل، فاعتبر هذه الطبقات في حالها التي لا تفارقها، من تلاعب الشهوات بها، ثم انصب نفسك واعظًا بينها في تخفيف بلاء ساقه النزاع إليها، فأي الطرق أقرب إليك في مهاجمة شهواتهم وردها إلى الاعتدال في رغائبها؟ من البديهي أنك لا تجد الطريق الأقرب في بيان مضار الإسراف في الرغب، وفوائد القصد في الطلب، وما ينحو نحو ذلك مما لا يصل إليه أرباب العقول السامية إلا بطويل النظر، وإنما تجد أقصد الطرق وأقومها: أن تأتي إليه من نافذة الوجدان المطلة على سر القهر المحيط به من كل جانب، فتذكره بقدرة الله الذي وهبه ما وهب، الغالب عليه في أدنى شؤونه إليه، المحيط بما في نفسه، الآخذ بأزمَّة هِممه، وتسوق إليه من الأمثال في ذلك ما يقرب إلى فهمه. ثم تروي له ما جاء في الدين المعتقد به من مواعظ وعبر، ومن سير السلف في ذلك الدين ما فيه أسوة حسنة، وتنعش روحه بذكر رضا الله عنه إذا استقام، وسخطه عليه إذا تقحم، عند ذلك يخشع منه القلب، وتدمع العين، ويستخذي الغضب، وتخمد الشهوة، والسامع لم يفهم من ذلك كله إلا أنه يُرضي الله وأولياءه إذا أطاع ويسخطهم إذا عصى، ذلك هو المشهور من حال البشر، غابرهم وحاضرهم، ومنكره يسم نفسه أنه ليس منهم، كم سمعنا أن عيونًا بكت، وزفرات صعدت، وقلوبًا خشعت لوعظ الدين، لكن هل سمعت مثل ذلك بين يدي نُصَّاح الأدب وزعماء السياسة، متى سمعنا أن طبقة من طبقات الناس يغلب الخير على أعمالهم لما فيه من المنفعة لعامتهم أو خاصتهم ويُنفى الشر من بينهم لما يجلبه عليهم من مضار ومهالك؟ ، هذا أمر لم يُعهد في سير البشر، ولا ينطبق على فِطَرهم، وإنما قوام الملكات هو العقائد والتقاليد، ولا قيام للأمرين إلا بالدين، فعامل الدين هو أقوى العوامل في أخلاق العامة، بل والخاصة، وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل الذي هو خاصة نوعهم. قلنا: إن منزلة النبوات من الاجتماع هي بمنزلة العقل من الشخص، أو منزلة العلم المنصوب على الطريق المسلوك، بل نصعد به إلى ما فوق ذلك ونقول: منزلة السمع والبصر، أليس من وظيفة الباصرة التمييز بين الحسن والقبيح من المناظر، وبين الطريق السهلة السلوك والمعابر الوعرة، ومع ذلك فقد يسيء البصير استعمال بصره، فيتردى في هاوية يهلك فيها وعيناه سليمتان تلمعان في وجهه، يقع ذلك لطيش أو إهمال، أو غفلة أو لجاج أو عناد، وقد يقوم من العقل والحس ألف دليل على مضرة شيء، ويعلم ذلك الباغي في رأيه من أهل الشر، ثم يخالف تلك الدلائل الظاهرة، ويقتحم المكروه لقضاء شهوة اللجاج أو نحوها، ولكن وقوع هذه الأمثال لا ينقص من قدر الحس أو العقل فيما خُلق لأجله، كذلك الرسل عليهم السلام أعلام هداية نصبها الله على طريق النجاة، فمن الناس من اهتدى بها فانتهى إلى غايات السعادة، ومنهم من غلط في فهمها وانحرف عن هديها فانكب في مهاوي الشقاء، فالدين هادٍ والنقص يعرض لمن دُعوا إلى الاهتداء به، ولا يطعن نقصهم في كماله واشتداد حاجتهم إليه {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦) ، ألا إن الدين مستقر السكينة، ولُجأ الطمأنينة، به يرضى كلٌّ بما قُسم له، وبه يدأب عامل حتى يبلغ الغاية من عمله، وبه تخضع النفوس إلى أحكام السنن العامة في الكون، وبه ينظر الإنسان إلى من فوقه في العلم والفضيلة، وإلى مَن دونه في المال والجاه، اتباعًا لما وردت به الأوامر الإلهية، الدين أشبه شيء بالبواعث الفطرية الإلهامية منه بالدواعي الاختيارية، الدين قوة من أعظم قوى البشر، وإنما يعرض عليها من العلل ما يعرض لغيرها من القوى، وكل ما وُجه إلى الدين من مثل الاعتراض الذي نحن بصدده فتبعته في أعناق القائمين عليه الناصبين أنفسهم منصب الدعوة إليه، أو المعروفين بأنهم من حَفَظته ورُعَاة أحكامه، وما عليهم في إبلاغ القلوب بغيتها منه إلا أن يهتدوا به، ويرجعوا به إلى أصوله الطاهرة الأولى، ويضعوا عنه أوزار البدع، فترجع إليه قوته، وتظهر للأعمى حكمته. ربما يقول قائل: إن هذه المقابلة بين العقل والدين تميل إلى رأي القائلين بإهمال العقل بالمرة في قضايا الدين، وبأن أساسه هو التسليم المحض وقطع الطريق على أشعة البصيرة أن تنفذ إلى فهم ما أودعه من معارف وأحكام. فنقول: لو كان الأمر كما عساه أن يقال لَمَا كان الدين علمًا يهتدى به، وإنما الذي سبق تقريره هو أن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي، كما لا يستقل الحيوان في درك جميع المحسوسات بحاسة البصر وحدها، بل لابد معها من السمع لإدراك المسموعات مثلاً. كذلك الدين هو حاسة عامة لكشف ما يشتبه على العقل من وسائل السعادات، والعقل هو صاحب السلطان في معرفة تلك الحاسة وتصريفها فيما منحت لأجله، والإذعان لما تكشف له من معتقدات وحدود أعمال، كيف ينكر على العقل حقه في ذلك وهو الذي ينظر في أدلتها ليصل منها إلى معرفتها، وأنها آتية من قِبَل الله؟ وإنما على العقل بعد التصديق برسالة نبي أن يصدق بجميع ما جاء به، وإن لم يستطع الوصول إلى كُنْه بعضه والنفوذ إلى حقيقته ولا يقضي عليه ذلك بقبول ما هو من باب المحال المؤدي إلى مثل الجمع بين النقيضين أو بين الضدين في موضوع واحد في آن واحد، فإن ذلك مما تُتَنَبزَّه النبوات عن أن تأتي به، فإن جاء ما يوهم ظاهره ذلك في شيء من الوارد فيها، وجب على العقل أن يعتقد أن الظاهر غير مراد، وله الخيار بعد ذلك في التأويل مسترشدًا ببقية ما جاء على لسان من ورد المتشابه في كلامه، وفي التفويض إلى الله في علمه، وفي سلفنا من الناجين من أخذ بالأول، ومنهم من أخذ بالثاني. اهـ