في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد فصل [*] وكذلك مسألة التحرير أيضًا - وهي التي عبّر عنها بعضهم بقوله: (لا تقليد بعد العلم) - فيها نظر هو أن هذه العبارة لها معنيان: (أحدهما) أنه إذا عمل وصادف الصحة على مذهب إمام ولم يكن عالمًا بذلك، والحال أنه على مقتضى مذهبه بطل ذلك العمل، فهل له أن يقول: أخذت بمذهب مَن يرى صحة ذلك، أم لا؟ فعلى ما ذكر ليس له ذلك على تقدير تفسير العبارة بهذا المعنى أقول: وفرع أبو يوسف المنقول في مسألة الفأرة يردّه؛ إذ هو عين التقليد بعد انتهاء العمل، وهو الذي أذهب إليه وأقول به؛ بل قد اختار عالم قطر اليمن في زمانه؛ الإمام العلامة الفقيه عبد الرحمن بن زياد الشافعي في فتاويه: أن العامي إذا وافق فعله مذهب إمام من الأئمة الذين يجوز تقليدهم صحّ وإن لم يقلده؛ توسعة على العباد، واختلاف الأئمة رحمة. وقال المحقق ابن حجر: لا يكون صحيحًا إلا إن قلّد ذلك القائل بالصحة؛ لأن تقليده لإمام من الأئمة المذكورين التزام متابعته في الأحكام كلها، فلا يجزئ في خلاف ذلك إلا بتقليد صحيح. وقد ذكر بعض أولياء الله تعالى الصالحين أنه كشف له أن الله لا يعذب من عمل في المسألة بقول إمامٍ مجتهد من الذين يجوز تقليدهم، وهم الآن الأئمة الأربعة المدونة مذاهبهم، والمحررة أصول وفروع مسائلهم، أما المجتهدون السابقون فلا؛ للجهل بضوابط الأحكام عندهم، لفقد التدوين؛ لتطاول السنين. كذا رأيت ما حكيته في بعض المجاميع. قلت: وفي تخصيص الأئمة الأربعة كلام لا يسع في هذا المحل بيانه، ثم رأيت في البحر الرائق شرح الكنز للعلامة ابن نجيم في باب قضاء الفوائت عند قوله: ويسقط بضيق الوقت والنسيان، ما نصه: وإن كان عاميًّا ليس له مذهب معين فمذهبه فتوى مفتيه - كما صرّحوا به - فإن أفتاه حنفيّ أعاد العصر والمغرب، وإن أفتاه شافعيّ فلا يعدهما ولا عبرة برأيه، وإن لم يستفت أحدًا وصادف الصحة على مذهب مجتهد أجزأه، ولا إعادة عليه؛ انتهى. وهذا موافق لما اختاره عالم قطر اليمن في زمانه وفقيهه؛ العلامة عبد الرحمن بن زياد الشافعي رحمه الله تعالى. والمعنى الثاني: أنه ليس للإنسان إذا عمل في مسألةٍ بمذهبٍ أن يعمل بخلافه فيها ثانيًا، وهذا أيضًا مدفوع من وجوه: (الأول) : أنه لم يقم عليه دليل إلا لزوم صورة التلاعب، وذلك لا يلزم إلا لو قصد به ذلك، أو دلت عليه قرائن أحوال، أو مكلف ضاق به الحال فالتجأ إلى الأخذ فيها في المرة الثانية بقول إمامٍ آخر؛ لدفع ضرورةٍ ألجأته إلى ذلك والغرض صحيح - فلا ينسب إلى التلاعب، وقد صحّ وثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه رجع عن قوله في مسألةٍ كان حكم فيها بحكم، ثم تكررت فتبدل نظره فيها فحكم بخلافه، وقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. فإن قلت: إنه مجتهد، وهذا حال المجتهد: أنه يجب عليه الرجوع إلى ما سنح له من الدليل بخلاف المقلّد. قلت: مهلاً يا أخي! فإن المقلِّد لم يظهر له بالدليل صحة ما قلّد فيه أولاً كما ظهر للمجتهد، وهنا مجتهد آخر قائل بخلافه فهو أحرى بتجويز الانتقال له. ثُم ظهر لي بعد مدة مِن تسطيري هذه الأسطر ظهورًا بينًا منكشفًا لا ريب فيه؛ أن مرادهم من قولهم: لا تقليد بعد العمل؛ أنه إذا عمل مرّة في مسألةٍ بمذهب في طلاق أو عتاق أو غيرها، واعتقده وأمضاه، ففارق الزوجة مثلاً، واجتنبها، وعاملها معاملة من حرمت عليه، واعتقد البينونة بينه وبينها بما جرى منه من اللفظ مثلاً، فليس له أن يرجع عن ذلك، ويبطل ما أمضاه، ويعود إليها بتقليده ثانيًا إمامًا غير الإمام الأول الذي قلده فيها، حيث كان الثاني يرى خلاف ما رآه الإمام الأول، فهذا معنى قولهم ليس له التقليد بعد العمل، ولا يرجع عما قلد فيه وعمل به، ونحو ذلك من العبارات، فأما إذا وقعت تلك الواقعة مرةً ثانية مع امرأة أخرى أو مع زواجها بنكاحٍ جديد، فله الأخذ بقول إمامٍ آخر، ولا مانع - كما سيأتي قريبًا؛ على أنه قد نقل العلامة ابن أمير الحاج الحلبي الحنفي تلميذ المحقق ابن الهمام عن الزركشي من أئمة الشافعية في شرح التحرير أن في كلام بعض الأئمة ما يقتضي جريان الخلاف في جواز التقليد بعد العمل أيضًا وأن منعه ليس باتفاق؛ فاعلمه، وقد نقل صاحب الفتاوى الصرفية عن الظهيرية والنسفية والنصاب - واللفظ من الظهيرية - أنه سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السندي، عن الصغيرة إذا زوجها أبوها من صغير وقبل أبوه وكبر الصغير وبينهما غيبة منقطعة وقد كان التزويج بشهادة الفسقة: فهل يجوز للقاضي أن يبعث إلى شافعي المذهب ليبطل هذا النكاح بينهما بهذا السبب؟ قال: نعم، وللحنفي أن يفعل ذلك بنفسه أيضًا أخذًا بمذهب الخصم، وإن لم يكن ذلك مذهبه؛ انتهى. ثُم أورد في المحيط والظهيرية مسألة أبي يوسف في الفأرة عقبها مستشهدًا؛ فاعلم ذلك. وكذا مولانا خاتمة المتأخرين العلامة ابن نجيم رحمه الله في البحر الرائق في مسألة اليمين المضافة عن البزازية عن أصحابنا: أنه لو استفتى فقيهًا عدلاً فأفتى ببطلان اليمين: هل له العمل بفتواه وإمساكها؟ وروى أوسع من هذا، وهو أنه لو أفتاه مفتٍ بالحل، ثُم أفتاه آخر بالحرمة بعدما عمل بفتوى الأول فإنه يعمل بفتوى الثاني في حق امرأة أخرى لا في حق الأولى، أي في هذه المرأة التي مضت - كما نبهتك عليه قريبًا - وانظره فقد صرَّح بجواز العمل بخلاف ما عمل للعامّي، وإنما منع من أن يفتي به المفتي لئلا ينسب إلى الغرض والتشهي والتلاعب، ولئلا ينسب العلماء إلى التناقض من جهة العوام، فافهم [١] . هذا ما قام عندي في وجه ذلك، ورأيت في عبارة بعضهم تعليله (بكيلا يتطرق به إلى هدم مذهب أصحابنا) أو نحو ذلك من العبارة، والله أعلم. واعلم أن من المسائل ما يقع التصريح بها من بعضًا المتأخرين رحمة الله عليهم أجمعين، وخصوصًا في الأصول التي ألفها المتأخرون وليست بمرضية؛ بل ربما يقع التصريح بخلافها من المتقدمين، ويوجد من هذا النوع في كتاب التحرير الذي ألفه المحقق وجمع فيه من مقالات المتأخرين من فضلاء عصره فمن قبلهم بقليل حتى من كلام أرباب المذاهب غير مذهبنا، فلا علينا أن نأخذ بما ظهر لنا صواب خلافه [٢] إن أنعم الله علينا بحصول ضربٍ من النظر يمكن الوقف به على الصواب. وهذا ونحن مع ذلك بحمد الله تعالى لا نخرج عن درجة التقليد لإمامنا الأعظم أبي حنيفة رحمة الله عليه، ونحن مقلدون له ولكبار أصحابه ومَن بعدهم مِن كبار أئمتنا كشمس الأئمة وأضرابه [٣] وأما ما يبحثه ويقرره المتأخرون من أهل التاسع والعاشر [٤] من فضلاء المذهب فلنا النظر فيه إن أمكن، وعلينا التمسك بما هو منقول عن المتقدمين وخصوصًا إذا انتهض متمسكًا لنا فيما نرتضيه. والله الموفق إلى الصواب وبه الاعتصام. *** فصل ومما ينشأ من الجهل والتعصب تفويت فرض من فروض الله تعالى مع إمكان إقامته على رأي مجتهدٍ جليل؛ بل على رأي جمعٍ من المجتهدين، وذلك أن جهلة المتعصبين يمتنعون ويمنعون من جمع الصلاتين في السفر التي ذهب إلى جوازها الإمام الشافعي وغيره من صدر الإسلام رحمة الله عليهم، ويؤدي ذلك إلى تفويت الغرض رأسًا، وذلك أنهم لما يعزمون على السير عند الزوال مثلاً فيصلون الظهر [٥] لأول وقتها ويمتنعون من جمع العصر إليها، فيركبون ويسيرون بناءً على أنهم ينزلون قبل المغرب آخر وقت العصر فيدركونها، والحال أنهم قد لا يتهيأ لهم النزول إلا مع المغرب أو الغروب بحيث لا يتسع الوقت إلى الطهارة والصلاة [٦] وخصوصًا في حق مَن تتعسر الطهارة عليه فتفوتهم الفرصة، وقد كانوا يمكنهم أداؤها في المنزل [٧] مجموعة جمع تقديم إلى الظهر على مذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه، وعلى مذهب غيره ممن جوّز الجمع لأجل السفر، فيمتنعون عن ذلك ويرضون بتفويتها، ولا بفعلها [٨] على مذهب مجتهدٍ يجوز لهم أو عليهم يجب اتباعه، والحال ما قرّر؛ لأن تحصيل الفرض من وجه مقدم على تفويته من كلّ وجه، وما هذا إلا محض التعصب والجهل. وقد ذكر الإمام الأجلّ ظهير الدين الكبير المرغيناني عن أستاذه السيد الإمام أبي شجاع رحمه الله تعالى: أنه سئل شمس الأئمة الحلواني عن كسالى بخارى أنهم يصلون الفجر والشمس طالعة: فهل نمنعهم من ذلك؟ فقال: لا يمنعون؛ لأنهم لو منعوا يتركونها أصلاً ظاهرًا (أي مما يظهر من حالهم) ولو صلوها تجوز عند أصحاب الحديث , ولا شك أن الأداء الجائز عند البعض أولى [٩] من الترك أصلاً. هذا جواب الحلواني، وناهيك به إذ هو شيخ المذهب في عصره تخرج به الفحول النظار من أئمتنا كشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي صاحب المبسوطين، وأضرابهم من رؤساء المذهب الذين هم قدماء الدهر، وعظماء ما وراء النهر. هذا مع أن الجاهل المتعصب الغبي يكفيه إيقاعها مجموعة مع الظهر تقليد الإمام [١٠] الشافعي وغيره، ثُم إنْ أراد الاحتياط وأدرك في الوقت فسحة أعادها على مذهبه أو قضاها بعد المغرب احتياطًا إنْ لم تطعه نفسه في أدائها مجموعة مع الظهر، والله أعلم والموفق لا ربَّ غيره وهو حسبي ونعم الوكيل. قال جامعها محمد عبد العظيم المكي الحنفي غفران الله تبارك وتعالى له ولوالديه ولسائر المسلمين: ثُم بعد تسطير هذه الأسطر ظفرت في أثناء المطالعة بعدةٍ من النقول تؤيد ما ذكرته بهذه الرسالة وتشهد له، لم أنشط لإلحاقها. ثُم رأيت كلامًا للإمام الكبير المجتهد في العلوم رأس الفقهاء والمحدثين الشهير بابن تيمية الحنبلي رحمه الله تعالى، فأحببت تعليقه في ذيل هذه الرسالة وهو مؤيد لما أشرنا إليه مطابق إلى جميع [١١] ما أوردته فيها، فالحاصل وإن كان في كلامي زيادة إيضاح وبيان فهو لا يخالفه؛ بل يعضده ويؤيده. ولفظ ما رأيته: سئل الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحنبلي - رحمه الله تعالى - عن أهل المذاهب الأربعة: هل يصح اقتداء بعضهم ببعض في الصلوات المفروضة وغيرها أم لا؟ وهل قال أحد من السلف أنه لا يصلي بعض المسلمين خلف بعض إذا اختلفت مذاهبهم أو لا؟ وهل قائل ذلك مبتدع أم لا؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته صحيحة والمأموم يعتقد خلاف ذلك؛ مثل أن يكون الإمام تقايأ أو رعف أو احتجم أو لمس النساء بشهوةٍ أو مس ذكره أو قهقه في صلاته أو أكل ما مسته النار أو أكل لحم الإبل وصلى ولم يتوضأ، وهو لا يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة أو لم يتشهد التشهد الأخير أو لم يسلم من الصلاة والمأموم يعتقد وجوب ذلك؛ فهل تصح صلاة المأموم والحالة هذه؟ أفتونا مأجورين ولكم الثواب. أجاب رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين. نعم تجوز صلاة المسلمين بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومَن بعدهم من الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها، ولم يقل أحد من السلف الصالح رحمهم الله تعالى: إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض. ومَن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وكان الصحابة والتابعون ومَن بعدهم منهم من يقرأ البسملة ومنهم مَن لا يقرأها ومنهم مَن يجهر بها ومنهم مَن لا يجهر بها، وكان منهم مَن يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت، ومنهم مَن يتوضأ مِن الحجامة والرعاف والقيء ومنهم مَن لا يتوضأ من ذلك، ومنهم مَن يتوضأ من لمس النساء بشهوة ومس الذكر، ومنهم مَن لا يتوضأ من جميع ذلك، ومنهم مَن يتوضأ مما مسته النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم مَن يتوضأ من أكل لحوم الإبل ومنهم مَن لا يتوضأ من ذلك، ومع هذا كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم - رضوان الله عليهم أجمعين - يصلون خلف الأئمة المرتبة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرًّا ولا جهرًا، وصلّى الرشيد إمامًا وكان قد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد صلاته، وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه، وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له في ذلك: إذا كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب [١٢] . وفي الجملة فهذه المسائل لها صورتان: (إحداهما) : أن لا يعرف المأموم أن أمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهذا يصلي خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم، وليس في هذا خلاف متقدم، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين فزعموا أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح وإن أتى بالواجبات - قال - لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها. وقائل هذا القول - إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع - أحوج منه إلى أن يعتد بخلافه [١٣] فإنه مازال المسلمون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد خلفائه - رضي الله عنهم - يصلي بعضهم ببعض، وأكثر الأئمة لا يميزون بين المسنون والمفروض؛ بل يصلون الصلوات الشرعية، ولو كان العلم بهذا واجبًا لبطلت صلاة أكثر المسلمين ولم يمكن الاحتياط، فإن كثيرًا من هذا فيه نزاع وأدلة ذلك خفية، وأكثر ما يمكن المتقدمين أن يُحتاطَ من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد القولين؛ وإن كان الجزم بأحدهما واجبًا؛ فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك، وهذا القائل ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بنقل مثل هذا فإنه ليس من أهل الاجتهاد. (والصورة الثانية) أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده، مثل أن يمس ذكره أو يلمس النساء بشهوة، أو يحتجم، أو يتقايأ ثم يصلي بلا وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور، فأحد القولين: لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه كما قال ذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى. والقول الثاني: تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك رحمه الله، وأحد قولي الشافعي وأحمد؛ بل وأبي حنيفة، وأكثر نصوص الإمام أحمد على هذا، وهذا هو الصواب، لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم) . فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن خطأ الإمام لا يتعدى إلى المأموم، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل فإنه مجتهد، أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه، فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها؛ بل لو حكم حاكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه؛ بل كان ينفذه، وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده - ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها - والمأموم قد فعل ما يجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة. وقول القائل: (إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام) ؛ خطأ منه لأن المأموم يعتقد أن الإمام قد فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأنه لا تبطل صلاته لأجل ذلك، ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلَّم الإمام خطأ واعتقد المأموم جواز متابعته فسلم كما سلم المسلمون خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ركعتين سهوًا مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمسًا سهوًا فصلوا خلفه سهوًا مع علمهم بأنه صلى خمسًا لاعتقادهم جواز ذلك؛ فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحالة، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده؟ وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأ لا تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم؛ والله أعلم. انتهى بلفظه فانظره فإنه مطابق ومؤيد لما ذكرته في هذه الرسالة، ولله الحمد على موافقة مَن مضى من كبار الأئمة. وكثيرًا ما أختار شيئًا إلا فأجد مَن قد سبقني إلى اختياره الفحول من الرجال الأئمة [١٤] أو استشكل شيئًا فأجد استشكاله منقولاً عن كبار المتقدمين، وكذلك إذا أبديت قولاً لم يكن وقف من رأى كلامي على نقله فيقع منهم موقع الإنكار ويحملهم الجهل والتعصب على رده ثُم أجده منقولاً بعد ذلك بعينه أو بما يوافقه عن السلف فمن بعدهم من كبار الأئمة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ بل ربما أفعل أمورًا من الأمور العادية فيستغربه الناس ويتعجبون من صدوره مني، وربما عِيبَ عليّ؛ بل ربما أُنسب به عند بعض الجهال إلى سخافة العقل ثُم أجده أو مثله محكيًّا عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أو عن التابعين أو بعض الخلفاء أو السلاطين الكبار المُجمع على إصابة فعلهم وجلالتهم، والحمد لله رب العالمين. ثُم لخص لي تلخيصًا شافيًا شافعيُّ زمانه السيد الجليل عمر بن عبد الرحيم البصري المكي رحمه الله تعالى، ومِن خَطّه الكريم نقلت ما نصه: (قال الإمام الرافعي في [١٥] إن كانت صلاته صحيحة في اعتقاد الإمام دون المأموم أو بالعكس، فإن كان الاختلاف في الفروع كما إذا مس الحنفي فرجه وصلى، أو ترك الاعتدال أو قرأ غير الفاتحة: ففي صحة اقتداء الشافعي به وجهان: (أحدهما) : يصح؛ وبه قال القفال؛ لأن خطأه غير مقطوع به. (والثاني) : وبه قال الشيخ أبو حامد: لا يصح لفسادها عند المأموم؛ فأشبه ما لو اختلف اجتهاد رجلين في القبلة لا يقتدي أحدهما بالآخر، وهو أظهر الأكثرين؛ انتهى. قال الإمام الزركشي في الخادم ما حاصله: وخلاصة ما رجحه ونقله عن الأكثرين غير مسلم فإنما تعرض له طائفة كالبرزنجي والروياني في الحلية والبغوي وصاحب الكافي والغزالي في فتاويه، ولم يذكر المسألة طائفة كالماوردي والدارمي والشيخ في المهذب والتنبيه، وكلام الشيخ أبي حامد فيها محتمل فإنه قال: لو اقتدى به وهو يحتمل الكراهة وعليها جرى الروياني في البحر، ولم يصح عن القاضي أبي الطيب شيء؛ بل حكي عن الدارمي الجواز، وعن أبي إسحاق المنع، والقائلون به لم يقفوا للشافعي على نص؛ بل قالوا: إن قياس مذهبه في المختلفين في القبلة والأواني. وهذا ممنوع نقلاً وتوجيهًا. (أما) النقل، فإن المنصوص للشافعي - ما نقله القفال - الصحة، ومما يشهد للصحة ما حكاه المحاملي في المجموع قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى في الأمالي: وإذا دخل الرجل بلدًا فنوى أن يقيم أربعين يومًا، وكان يرى جواز القصر حينئذٍ، ومعه رجل يعتقد عدم جوازه فيكره له أن يقدمه ويصلي خلفه؛ لأنه يعتقد أن صلاته المقصورة لا تجوز، فإن قدمه وصلى خلفه جاز؛ لأنه محكوم بصحة صلاته في حقه. هكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن الأمالي. ولو كانت العبرة باعتقاد المأموم لكان اقتداؤه به باطلاً؛ لأن عند المأموم أن نية القصر لا تنعقد معها الصلاة. ومع ذلك صحح الشافعي الاقتداء به اعتبارًا باعتقاد الإمام، وهذا النص ذكره الإمام النووي أيضًا في باب صلاة المسافر في شرح المهذب، ووقع في بعض نسخ شرح المذهب هكذا: (والمختار والظاهر قول القفال) فلم تزل الأئمة المختلفون في الفروع يصلي بعضهم خلف بعض، ويشهد له تصحيحهم أن الماء الذي توضأ منه الحنفي وغيره - ممن لا يرى وجوب النية - مستعمل وإن لم ينوِ على الأصح، وهذا هو الصواب الذي ينبغي أن تكون الفتوى عليه، وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يصلي خلف أئمة المدينة ومصر وكانوا لا يسلمون؛ ولم ينقل عنه الامتناع عن الاقتداء بهم، وصح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه ائتم بمنىً مع عثمان - رضي الله عنه - مع إنكاره عليه ذلك؛ فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شرُّ فتنة. وأما توجيه المانعين بقولهم: (إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام) فمردود، فإنها مسألة اجتهاد واعتقاد، والخطأ فيها لا يسوغ كما في غيرها من المسائل الاجتهادية، كالحكم بصحة حكمه وامتناع نقضه بشرطه، وأما قياسهم على المجتهدين في القبلة أو في الأواني فيصرف بأن الإمام والمأموم فيهما يعتقدان فساد صلاة من صلى بطهارةٍ من إناء نجس، أو صلى إلى غير القبلة، بخلاف المأموم في اقتدائه بتارك الفاتحة فإنه لا يعتقد بطلان صلاته مع تركها؛ لأنه مستند لاجتهاد من جملة عقيدة المأموم التي يدين بها ربه اعتقاد صحته؛ وبأن المجتهد لو بان له في مسألتي الأواني والقبلة أن الأمر على خلاف ظنه يقينًا لزمته الإعادة، بخلاف المجتهد في الفروع لو عثر على نصٍّ جليّ مخالف لاجتهاده السابق، لا تلزمه إعادة ما صلاّه بالاجتهاد السابق؛ وسر ذلك أن الاجتهاد الأول مستند إلى أمرٍ عادي وقرائن تشير [١٦] الظن اكتفى بها الشارع تخفيفًا على الأمة، فإن تحقق الخطأ فيها رجع إلى الأصل وتبين عدم صلاحيتها لمن ظن بها، بخلاف الاجتهاد الثاني، فإنه مستند إلى أمر شرعي أوجب الشارع عليه اتباعه، فلم يقع عمله السابق على خلاف حكم الله تبارك وتعالى، وإن فرض وصرّح النص الثاني المعثور عليه بحيث أفاد اليقين أو ما قاربه من الظن القوي، وأيضًا الاجتهاد الأول يمكن التوصل [١٧] إلى القطع بالخطأ فيه بالخلاف الثاني. وممن اختار ذلك من المتأخرين صاحب الذخائر وأفرد المسألة بتصنيف سمّاه (بيان المشروع في الاقتداء بالمخالفين في الفروع) ، وقال ابن أبي الدم في باب الجنائز من شرح الوسيط: لعل الأصح الصحة مطلقًا، وأقام الدليل على الجواز من وجوه، ثُم نبّه على أمرٍ حسن فقال: وهذا الخلاف كله في المجتهدين، وأما عوام الناس فليسوا مقصودين في الخلاف فإنهم لا مذهب لهم يعوّلون عليه، وإنما فرضهم التقليد عند نزول المنازعة فمن أفتاهم من أهل الفتوى وجب عليهم قبول قوله؛ وانتسابهم إلى المذاهب عصبية، ومعناه ارتضى أن يعمل في عبادته وكل أحواله بقول إمامٍ انتسب إليه، فهؤلاء يصح قدوة كل منهم بأي إمام كان من غير تفصيل. ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - أنه كان يرى الوضوء من الدم الكثير فقيل له: إذا كان الإمام لا يتوضأ من ذلك أتصلي خلفه؟ فقال: سبحان الله تعالى! أقول: إنه لا يصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك رضي الله عنهما؟ وكان القاضي أبو عصام العامري الحنفي مارًّا في باب مسجد القَفَّال والمؤذن يؤذن المغرب فنزل عن دابته ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يثني في الإقامة، وقدم القاضي أبا عصام فتقدم وصلى وجهر بالبسملة، وأمَّ بشعار الشافعية في صلاته، وكان ذلك منهما تهوينًا لأمر الخلاف في الفروع. وقال القاضي الحسن في تعليقه: والمختار أن كل مجتهد مصيب، إلا أن أحدهم أصاب الحق عند الله والباقون أصابوا الحق عند أنفسهم. وقال ابن السمعاني: قال علماؤنا: مَن أخطأ كان مخطئًا للحق عند الله مصيبًا في حق عمل نفسه، حتى إن عمل نفسه يقع صحيحًا عند الله شرعًا كأنه أصاب الحق عند الله. وقد حكى الإمام الشافعي - رحمة الله عليه - الإجماع على أن كل مجتهد أداه اجتهاده إلى أمر فهو حكم الله تعالى في حقّه ولا يشرع له العلم بغيره حينئذٍ، فمَن صلَّى بحكم اجتهاده فصلاته صحيحة عنده وعند مَن يخالفه في المسألة لاعتقاده أن ذلك حكم الله تعالى عنده، وصلاته صحيحة لإتيانه بها على الوجه المأمور به حينئذٍ، فكيف يمنع الاقتداء به مع الحكم بصحة صلاته في نفسه؟ انتهى مع تلخيص وتحرير، واقتضى نسخه إلى هنا، انتهى ما رأيته بخط المذكور؛ دامت إفادته. وقد أَرْسَلَ به إليّ في ذيل نسخة من هذه الرسالة بعد إمرار نظره السعيد عليها، وهذا بحمد الله تعالى أيضًا مؤيد لما أشرت إليه، واعتمدت فيها عليه، والله الموفق إلى الصواب. قال جامعها ومؤلفها محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي بن المقدسي الميروز الملاّ فروخ بن عبد المحسن الرومي الموروي حفظه الله تعالى في نفسه وأولاده وجميع نعم الله تعالى عليه، وأحياه حياةً طيبة سالمةً من الأسواء فيما وصل ويصل من منة الله إليه، بعد أن علم بأنه مرّ عليه مطالعةً وتصحيحًا وتتمةً في يوم الجمعة الثانية من شوال سنة اثنتين وخمسين وألف من الهجرة النبوية، والحمد لله على ذلك، وصلى الله على نبيه كذلك.