لما أنذرتنا إيطالية البأس، وآذنتنا بالحرب، كتب إلينا صديقنا الأمير شكيب أرسلان الكاتب الشهير الكتاب الآتي من صوفر (لبنان) في ١٣ شوال، وكتب فوقه (خصوصي) فلم ننشره في وقته، ثم استأذناه في نشره لما فيه من أصالة الرأي، وإيقاظ الفكر، وإذكاء نار الغيرة، وإنارة مصباح البصيرة، والتنويه بالإصلاح الديني، والإيماء إلى نفعه الدنيوي، ولم يصدنا عن ذلك إطراء الصديق لصديقه، وإعطائه أكثر من حقوقه، فأذن لنا فنشرناه، وها هو ذا بنصه البليغ: سيدي الأخ الفاضل: أعلم أن جهادكم في تهذيب الأنفس، وإقامة الشريعة على قواعد العلم، وأخذ المؤمنين بحقيقة الدين، وإثلاج الصدور ببرد اليقين هو الجهاد الأكبر والبلاء الأسنى، والذي فيه استكمال الحسنى، وإن الأمة التي تفهم الدين فهمكم، وتفقه الشرع فقهكم، لا يخشى عليها من اعتداء إيطالي ولا استبداد أجنبي، ولكن جهادكم هذا غرس لم يحن إيناعه، وزرع لم يئن ارتفاعه، ودون وصول ثمرته إلى درجة الوفاء بالغرض أيام وليال وأعوام طوال، بما رسخ من الأوهام، وسدك بالعقول من صدأ الترهات، ونحن الآن في خطب مستعجل الرأب، وفتق مستلزم سرعة السد، ولا يفيدنا فيه تعنيف مفرط، ولا لوم مقصر، ولا جزاء خائن أو مستهتر، ولا يغنينا مع إلحاح وافد الشر، وإطلال نازل البأس، إكبار الإهمال، والوقيعة بمديري هذه الأعمال، بل علينا قبل ذلك واجب أعجل؛ وهو تلافي ما فرط فيه غيرنا، وإبلاء العذر فيما يطلبه الرأي العام منا، وقد ظهر لنا بعد تقليب وجوه الحيل كلها، وتمحيص آراء الإغاثة بأجمعها أنه لم يبق إلا طريق البر، وأن هذا الطريق مهما كان شاقًّا صعبًا طويلاً معطشًا فإنه هو الوصلة الوحيدة، والممر الممكن، وأنَّ طريقًا سلكه آباؤنا مرارًا في فتوحاتهم ومغازيهم لجدير بأن نسلكه نحن في أحرج موقف وأضيق مجال. فإن لم تساعد السياسة على إمرار جنود منظمة، فلا أقل من متطوعة، وإن لم يمكن نهوض متطوعة، فلا أقل من تسريب ذخائر وأرزاق على ظهور الجمال، بحيث لو بدئ بتسيير قطر الجمال قريبًا صار المدد متصلاً، فإن في طرابلس وبنغازي والصحراء ومن قوم السنوسي رجالاً يشاغلون إيطاليا سنين طوالاً، لو جرى تأمين مسألة معيشتهم؛ إذ هناك رجالات كثيرة وفروسية ونجدة وبغضاء للعدو، ولدى الدولة عدة آلاف من الجند وأسلحة وعدة، وإنما يخشى على أولئك من الجوع وقلة الطعام. أفلا ينهض الإسلام في كل هذه الممالك إلى إغاثتهم بما يمسك أرماقهم على الأقل، حتى تطول الحرب ويستمر الدفاع؟ فإن طول أجل الحرب يستدعي تدخل الدول، ويفت في عضد تجارة إيطاليا، ويثير عليها ثائر سكانها، فتنتهي النازلة بصورة ليست فيها هذه الغضاضة وهذا الذل، ولا يطأطأ فيها الرأس أمام الطلياني، فيا ما أحلى الغلبة للانكليزي بالقياس إلى هذه الحالة، ويا ما أحلى طعم الموت إذا صرنا ننهزم أمام من هزمهم الأحباش، أفلا يمكنكم في مصر عقد الاجتماعات؛ لوضع هذه الإعانة في موضع التحقيق، وإيفاد السعاة إلى الهند وإلى السنوسي. فأما من الهند فتمكن النجدة بالمال، وأما من الصحراء فبالرجال، وأما من جهة الضباط لتدريب الأهالي فالدولة تقوم بهذا الأمر، وما نستصرخ إخواننا المصريين أولي اليسار وأصحاب الحمية إلا للمدد المادي إن تعذر كل مدد غيره، وأي شهم يضطلع بمثل هذا العمل أكثر منكم، وأي عمل هو أشرف من هذا، وأي سقوط حالاً واستقبالاً أعمق من سقوطنا إذا ذهبت طرابلس الغرب، لا جرم أن حسن الدفاع عنها ليقف بالطامحين عن سائر حوزتنا، ويحفظ علينا هذا النزر الباقي من كرامتنا، وإن التخاذل عن هذه النجدة يكون الإجهاز على مهجتنا العمومية؛ إذ تعلم أوربا أنه ليس ثمة من حياة ولا من أحياء، وإن هناك إلا أعداد بدون إعداد. قصدت استيراء زندكم في هذا الغرض، وليس ذلك على همتكم بعزيز، ونحن في انتظار الجواب شد الله بكم الأزر، ووفقكم إلى هذه الغاية أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان (المنار) جاءنا هذا الكتاب يرمي عن قوس عقيدتنا، ويرينا في مرآته الصقيلة صورتنا وقد استفزنا الذعر، وقد استنفزنا العدوان النكر، فطفقنا نستوري زناد الهمم، ونستسقي سحاب الجود والكرم، فذو المال يجود بماله، وذو القلم واللسان بمقاله، فكتبنا إلى الصديق نبشره بأن حسن ظنه بالمصريين قد صدق وأن كل ما يمكن من تنفيذ رأيه قد نفذ.