للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شكوى الزمان

ذكرنا في عدد سابق أننا روينا في الأحاديث والآثار المسلسلة أن عائشة
الصديقة رضي الله تعالى عنها كانت تنشد قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وتقول: (رحم الله لبيداً، فكيف لو رأى زماننا هذا) ويتلو هذا البيت بيتًا
آخر روي أنها كانت تنشده أيضاً وهو:
يتأكلون خيانة ومشحة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
ويروى أن أعرابيًّا قال لابن عباس رضي الله عنه: إني سمعت عائشة تذم
دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد؟ فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت
عاد دهرها. قيل: وُجد في خزائن عاد سهم مفوق كأطول ما يكون من رماحنا،
وإذا عليه مكتوب:
أليس إليَّ أجياد صبح بذي اللوى ... لوى الرمل فاعذر للنفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وعن ابن أحمر قال: كنا عند أبي نعيم، فذكروا قول لبيد، فقال أبو نعيم:
ذهب الناس واستقلوا فصرنا ... خلفا في أراذل النسناس
من أناس نعدهم من عديد ... فإذا كوشفوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم ... بدأوني قبل السؤال بياس
وبكوا لي حتى تمنيت أني ... عند هذا خلصت رأساً براس
(النسناس) بفتح النون وكسرها: حيوان على شكل الإنسان، هكذا يذكر في
معاجم اللغة، والعامة تسمي به نوعاً من القردة، فإذا كان يوجد حيوان أقرب إلى
الإنسان من القرد وكان هو المسمى بالنسناس فلعله إذا اكتُشف عليه حيًّا أو ميتًا
متحجرًا يكون هو الحلقة المفقودة التي يتوقع الظفر بها أهل مذهب النشوء، ونحن
معاشر المليين نقول: إن الإنسان خلق ابتداءً على صورته هذه، سواء وجدت تلك
الحلقة أم لم توجد. وروي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ذهب الناس
وبقي النسناس. قيل: وما النسناس؟ قال: (الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس) .
وفي كتاب تفضيل الكلاب، بعد ذكر بيتي لبيد قال: أخبرنا أبو العباس محمد
ابن يزيد النحوي قال: ذكر لي بعض المشايخ قال: كنت عند بشر بن الحارث
عشية فرأيته مغمومًا، فما تكلم حتى غربت الشمس، ثم رفع رأسه فقال:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضًا ليدفع معور عن معور
وأنشدنا أيضًا غيره:
ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... سُروا وقالوا مرحبًا بالمقبِل
وبقي الذين إذا رأوني مقبلاً ... سيئوا وقالوا ليته لم يُقبل
(وقال آخر) :
ذهب الذين إذا غضبت تحملوا ... وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا
وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها ... وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا
قال: وأنشدني أبو عبد الله الدستواني:
ذهب الذين هم الغياث المنزل ... وبقي الذين هم العذاب المرسل
وتقطعت أرحام أهل زماننا ... وكأنما خلقت وليست توصل
الناس مشتبهون، مَن كشفته ... كشفت منه عن الذي لا يحمل
أما الفقير فحاسد متفطر ... حسدًا وأما ذو الثراء فيبخل
ويظن أن له بكثرة ماله ... فضلاً عليك وغيره المتفضل
وأنشدني أبو يعقوب الأديب:
ذهب الكرام فأصبحوا أمواتًا ... ورقًا تطير به الرياح رفاتا
وتبدلت عرصاتهم من بعدهم ... بسوى ثبات الصالحين ثباتا
وبقيت في خلف أحاذر شره ... وأخاف فيه من الصديق بياتا
(وقال آخر) :
ذهب الناس وانقضت دولة الناس ... فكلٌّ إلا القليل الكلاب
غير أن الوجوه في صور الأنس ... وأبدانهم عليها الثياب
لست تلقى إلا بخيلاً كذوبًا ... بين عينيه للإياس كتاب
إن من لم يكن على الناس ذئبًا ... أكلته في ذا الزمان الذئاب
وقال الشاعر:
ذهب الذين فضولهم معلومة ... ولهم إذا قحط الزمان جِفان
ذهبوا فليس لهم نظير واحد ... إذ لا تراهم - لا أبا لك - كانوا
لم يبق من أهل الفضائل والنهى ... إلا فلان باسمه وفلان
وقال الشاعر:
ذهب الذين عليهم وجدي ... وبقيت بعد فراقهم وحدي
سلف مضى وبقيت بعدهم ... وكذاك يذهب من بقي بعدي
هذا ما يقوله الشعراء في كل زمن، سواء كان ما قبله شرًّا منه أو خيرًا منه،
فلا يصح للمؤرخ أن يحتج بقولهم في تفضيل زمان على زمان؛ لأن الدليل مشترك
الإلزام.