للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة السورية الثانية
(٤)

طرابلس والقلمون
ما حزنني من سوء حال بلاد سورية الاجتماعية والأدبية شيء كما حزنني
حال طرابلس والقلمون حيث نشأت وترعرت، فقد كانت طرابلس خير المدن
السورية في العلوم الشرعية والأدبية، والعيشة الراضية الهنية، كما كانت القلمون
خير البلاد الصغيرة في ذلك، أو (سيدة القرى والمزارع) كما وصفت في السجل
الأعظم (دركنار) لبلاد الدولة العثمانية في الباب العالي كما روي لنا، وذلك أن
جميع أهلها كانوا سادة شرفاء، وأتقياء نجباء، قد ولدت ولله الحمد فيها، ونشأت
في بيت الكرم والمجد الأثيل منها، فكنت من أول العهد بالتمييز أرى العلماء
والأدباء والحكماء والوجهاء تغشى دارنا، وتعشو إلى ضوء نارنا، بل كنت أرى
فيها الضيوف من بلاد المحلة مكرمين على اختلاف مللهم ومذاهبهم، وكان مسجدها
عامرًا دائمًا بإقامة شعائر العبادة وقراءة دروس العلم والوعظ، وقد عشت ما عشت
فيها ولم أر أحدًا ارتكب فاحشة أو شرب مسكرًا، أو أتى منكرًا إلا ما كان ينسب
إلى أفراد قلائل من ارتكاب سرقة الفاكهة أوالزيتون والليمون، وما كان يقع بين
بعض المتخاصمين والمتنازعين من التضارب بالعصي أحيانًا وبالمدى نادرًا، وقلما
رأيت شيئًا من ذلك بعيني.
وإني قد شببت فيها وأنا أعتقد أن الذين يقترفون كبائر الإثم والفوحش في الدنيا
أفذاذ قليل عددهم في كل مكان، وأكثرهم في المدن أو البوادي، ولذلك كنت أجتنب
معاشرة أكثر الناس في طرابلس عندما كنت أطلب العلم فيها، على ما ذكرت من
فضلها على غيرها، حتى إنني إلى اليوم لا أعرف جميع أسماء الذين قضيت معهم
السنين الطوال في المدرسة، وكانت مدارس العلم يومئذ عامرة وطلابه كثيري العدد،
وكانت دور أهل العلم والأدب أندية وسمارًا تكثر فيها المطارحات العلمية،
والمساجلات الأدبية، ولم تكن الخمر معروفة في شيء من ملاهيها العامة (القهاوي)
ولا الرقص، وكل ما كنت أعلمه في هذا أن في حارة النصارى ملهى في بستان اسمه
الزهرية يشربون فيه الخمر، ويختلف إليه بعض أهل الدعارة من المسلمين، ولكنني
لم أر في أثناء إقامتي فيها لطلب العلم من السكارى إلا عبدًا أسود وشابًّا وطنيًّا من
فقراء السوقة يبيع الحمص المملح والملبس بالسكر، وإنما نسمع أحيانًا بعض أخبار
الفساق من المنكرين عليهم والقادحين فيهم؛ إذ يغلب عليهم التستر ويندر فيهم التهتك،
كاجتماع بعض أهل الدعارة في مجالسهم الخاصة في بيوتهم، على مائدة الخمر، أو
شربها على مائدة الطعام، وإنما كان يفعل هذا من المسلمين أكثر الموظفين من الترك
حتى بعض قضاة الشرع، وكان هؤلاء الموظفون يحرصون على إغواء وجهاء
المسلمين الذين يعاشرونهم بإغرائهم بالشرب معهم كدأب أهل السكر في كل مكان،
وقل من كان يستجيب لهم من قرنائهم أو مرؤوسيهم ولو بقبول الكأس من أيديهم مرة
واحدة، ومن طرقهم في ذلك ما سمعته في دارنا من أحد المتصرفين، فقد سألنا:
أليس المسكر المحرم قطعًا هو خمر العنب وما عداه فإنما يحرم منه القدر المسكر؟
فأي حرج إذًا في شرب ما عدا هذا القدر من سائر الأشربة ولا سيما ما لا يسكر إلا
كثيره كالبيرة؟ فقلنا له: تلك شبهة لبعض الفقهاء في النقوع الذي كانوا يسمونه نبيذًا،
والحق أن كل مسكر خمر يحرم قليله وكثيره كما ثبت في النص المؤيد بالقياس
والخبر.
وإذ كنت أكتب في مثل هذا للاعتبار به، وليكون تاريخًا تعرف بمثله أسباب
التطور الاجتماعي في البلاد، فإنني أذكر واقعة في هذا الباب هي أكبر ما كان
يتحدث به الناس في مدينتنا (طرابلس الشام) ، ويفخرون به، وهي بين مدحت
باشا الوزير الشهير ودرويش أفندي الشنبور.
كان درويش أفندي هذا رجل طرابلس الكبير، بل رجل سورية الممتاز في
عصره بالعلم بالقوانين وحسن الإدارة والتصرف في حل المشكلات، حتى إن أمور
إدارة لواء طرابلس كانت بيده يتصرف فيها كما يشاء، وهو عضو في مجلس
الإدارة، رأيه فيه بحكم القانون كرأي غيره من الأعضاء، فكان أصحاب الحاجات
يولون وجوههم شطر داره دون أمثاله من الأعضاء، بل دون الرؤساء من
المتصرف التركي المولى من نظارة الداخلية إلى من دونه من رؤساء الإدارة، وكذا
رؤساء الجند فيما يقيدون فيه بالإدارة كأخذ العسكر بنظام القرعة المعروف، فلم
يكونوا يستطيعون أخذ أحد إلا برأيه، لذلك كان له حساد كثيرون، فلما جاء مدحت
باشا واليًا على سورية كثر السعاة بدرويش أفندي الشنبور لديه الذين يرمونه
بالاستبداد بأعمال الحكومة، وكونه لم يترك لأحد من رجال الدولة اسمًا ولا عملاً في
لواء طرابلس، وأنه هو نفسه لا يمكنه أن يكون له اسم سمي، ولا قدر على ذلك
اللواء إلا بإخراجه من مجلس الإدارة وجعله حلس بيته، وقد أثرت هذه السعاية في
نفسه، فلما جاء طرابس في دورة التفتيش المعتادة كان استقباله لدرويش أفندي
استقبال المرتاب المختبر فلما سمع كلامه أحب الخلوة به، فسمع منه من الأنباء
والآراء ما أكبره في عينه، وأحله في أعلى مقام من الثقة به، والكلام مظهر العلم
والعقل والرأي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: ٥٤) ولم
يكن يستطيع مفارقته إلا وقت النوم، وكان الوزير مبتلى بشرب الخمر كأكثر رجال
الدولة، وكان درويش أفندي لا يشربها كسائر وجهاء طرابلس، ولا سيما أصحاب
الزي العلمي أمثاله، فاجتهد مدحت باشا في حمله على الشرب لتطيب له معاشرته
ولا يرى نفسه صغيرًا أو حقيرًا في عينه وعين نفسه بارتكابه لهذا المنكر مع من
ينكره في نفسه لتحريمه، وقد كان مدحت باشا مسلمًا محترمًا لدينه كما يقال، ولكن
السكر بلاء قلما يستطيع تركه من ابتلي به، عرّض لدرويش أفندي أولاً فنبا له
وأعرض، كأنه لم يفهم مراده، فكاد له مكيدة سلم منها بحسن بادرته، وقوة إرادته،
ذلك أنهما كانا في متنزه من متنزهات ضواحي المدينة اسمه (بركة البداوي)
فطلب الوزير الخمرة، فأخذ لنفسه كأسًا وناول درويش أفندي كأسًا أخرى وقال له:
نشرب على اسم مولانا السلطان الأعظم. فأخذ الكأس درويش أفندي وقال على
البداهة: كأس من يد أفندينا مدحت باشا باسم مولانا الأعظم أمير المؤمنين لا ينبغي
أن تصب في الجوف وتخالط القذر بل مكانها الرأس، وصب الكأس على عمامته
البيضاء، فأعجب مدحت باشا بهذه البداهة والكياسة، وزاده هذا الثبات كرامة عنده
ومكانة في نفسه.
هذه الحالة التي كانت عليها طرابلس إلى عهد طلبي للعلم فيها وهجرتي منها
هي التي ضاعفت آلامي لما رأيت هذه المرة ما رأيت من سوء حالها، وسريان
عدوى المجاهرة بالتهتك فيها، وقد بدأ ذلك فيها في أوائل العهد بالحكومة الدستورية
الاتحادية، ثم كان لمفاسد الحرب ثم للاحتلال الأجنبي تأثير بعد تأثير في استشراء
فساده كما بيناه في النبذة الثالثة من هذه الرحلة (ج٩ م٢١) حتى إن طرابلس
صارت دون بيروت ودمشق في الحالة العلمية والأدبية الإسلامية، فقد خلت من
تلك الحلقات الواسعة من طلاب العلم ومن تلك المحافل والسمار التي كانت آهلة
بأهل الهيئة والوقار من العلماء والوجهاء من الطبقات المختلفة الذين كانت آراؤهم
تضطر الغرباء من حكامهم وغيرهم إلى احترامهم دع أهل البلد الذين هم كبراؤه،
وكذلك كان شأن شيوخ أهل بيتنا في القلمون، بل لم أر مجلس وقار في مكان ما
مثل المجالس التي كان يحضرها كبير أسرتنا السيد الشيخ أحمد عم والدي، فقد كان
أوجه الوجهاء من علماء طرابلس ورجال الحكومة وغيرهم يجلونه لما كان عليه من
الجد والوقار والتقوى حتى إنه لم يكن أحد يشذ في جلوسه ولا في ضحكه ومزاحه
في حضرته، بل يلزمون الاعتدال والأدب الشرعي، وقد اتهم رجل صالح من
طرابلس بفاحشة أو مقدماتها، وكان ممن يترددون على القلمون مع بعض العلماء
فلم يتجرأ بعدها أن يتراءى أمامه طول حياته، وماذا أقول عن صاحب تلك الشيبة
الرائعة الذي قال فيه نقاده المعاصرون الشيخ عبد الفتاح الزغبي نقيب أشراف
طرابلس وخطيب جامعها الكبير إلى اليوم: آخر من أدركنا من الصديقين عمي
الشيخ أحمد، وأنا لم أكن هنالك أستطيع تعمد النظر في وجه أحد متهم بالفسق ولا
السكوت على منكر منذ كنت غلامًا أمرد، وقد شذ في حديثه معي تاجر في طرابلس
بقول لا يعد منكرًا شرعًا إذا حسنت فيه النية، فتركت الشراء منه والنظر إلى دكانه،
بل المرور أمامها ما دام فيها.
نعم إنني كنت أول من انتقد من المسلمين ما كان عند الوجهاء من التكلف في
اللقاء والسلام والقعود والقيام، وأول من ترك عادة الجلوس على الركب في بدء
الجلوس معهم، وإن فعل ذلك بعض كبار السن والقدر لأجلي، ولكنني أقول الآن:
إن مجالسهم كانت خيرًا من مجالس أكثر أولادهم وأحفادهم الذين تركوا غير ذلك من
آدابهم العالية لا المتكلف منها فقط مفتونين بزخرف حرية الفسق الذي يخشى أن
يضيع عليهم دنياهم ودينهم، فيكونوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
أصيبت طرابلس بالعقم من العلماء والفضلاء والزعماء، فلا خلف فيها في
العلم والرشد للشيخ محمود نشابه والشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ عبد الرزاق
الرافعي، والشيخ عبد الله الصفدي ودرويش أفندي الشنبور والمفتي مصطفى أفندي
كرامي الذين أدركناهم في شيخوختهم، ولا للشيخ حسين الجسر والشيخ عبد الله
البركة والشيخ نجيب الحامدي والشيخ خليل صادق الذين أدركناهم في كهولتهم.
وإنما بقي أفراد من الطبقة التي قبل طبقتنا أوسعهم علمًا وفهمًا وإفادة الشيخ
محمد إبراهيم الحسيني وقد جهلت مدينته قيمته فلا ينتفع به إلا أفراد قليلون من بقايا
الطلاب، ومنهم الشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه، وأفراد
آخرون من طبقتنا ورفاقنا في الطلب، وأكثر هؤلاء وأولئك قد تركوا الدرس
والتدريس، واجتنبوا الكتابة والتصنيف، ومنهم من يشتغل بأمر الدنيا من تجارة
وزراعة لكساد بضاعة العلم، ولم أر في هذه الزورة لطرابلس أحدًا من رفاقي لا
يزال مغرمًا بالمطالعة والكتابة إلا الشيخ محمد رحيم والشيخ عبد المجيد أفندي
المغربي، وليس لأحد منهما ولي في عمله ولا ظهير.
وأما القلمون فلم يبق فيها أولو بقية يستفيد الناس منهم إلا عمي أبو عبد الرحمن
عاصم، فهو يقرأ دروسًا في مسجدنا في بعض الأحيان لمن عساه يوجد فيه، ولكنه
في عامة أوقاته معتزل للناس، لا يكاد أحد يراه إلا في صلاة الجماعة، وقد
انقرض ثلثا أهل القرية وحال الباقين شر مما كانت عليه، وقد كنت قبل الهجرة إلى
مصر أقرأ لهم التفسير ونهاية المحتاج في فقه الشافعية والزواجر، وغير ذلك من
كتب التوحيد والمواعظ والرقائق، وبلغني أنه وجد فيهم رجل يتجرأ على المجاهرة
بالفواحش وارتكاب منكرات السلب والنهب، ويستعين على ذلك برشوة الحكام،
وأما طرابلس، فقد صار الكثيرون فيها يجاهرون بذلك، ومنهم من يدعو الأجانب
إلى داره ويقدم لهم الخمور فيها، ولكن تيقظ بعضهم لتدارك الخطر كما بيناه في
النبذة الثالثة التي قبل هذا من الرحلة، فليحفظ الناس هذا، ولينتظروا عاقبة هذا
التغيير، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ونسأل الله تعالى أن
يتوب عليهم ويجعلهم خيرًا مما كان عليه سلفهم ويغير ما بهم إلى خير منه.
((يتبع بمقال تالٍ))