للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة [*]

اقترح هذا المشروع محرر جريدة وكيل الهندية الغراء في جريدته وكتب إلى
جريدة المؤيد المصرية الغراء يدعوها إلى الحث عليه فلبت دعوته وكان ذلك أثناء
صدور جريدتنا فأكبرنا شأن المشروع ونقلناه في العدد الأول عن جريدة المؤيد
ملخصًا مع أن النقل في العدد الأول من جريدة عن غيرها يرمق بنظر الانتقاد.
اعترفنا بعظيم فائدة المشروع لذاته ولأنه من الأعمال التي لا تقوم إلا
بالشركات المالية وقلنا عند ذلك: إن الحث على الشركات المالية لأي عمل هو من
أفضل المقاصد التي أنشئت جريدتنا لأجلها. طلب مقترح المشروع أن تكون اللجنة
التي تؤلف لفتح الاكتتاب لهذا العمل تحت رئاسة مولانا السلطان الأعظم ففوضنا
النظر في المشروع لحكمة مولانا ورجاله الصادقين الذين من شأنهم إظهار فوائد هذه
الأعمال ومنافعها قبل تصديق الحضرة السلطانية عليها. وحيث كانت لهجة جريدة
وكيل وجريدة المؤيد الغراوين تصرح بأن هذا المشروع أعظم مشروع ينعش الحياة
ويجدد السعادة للأمة والملة، بيَّنا رأينا في سعادة الأمة فقلنا: (ورأينا أن سبب التقدم
الذي يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم) وبينا
في ذلك العدد وفي سائر الأعداد أن مرادنا بالتربية والتعليم ما يشمل التنبيه على
الأعمال النافعة والحث عليها مثل هذا المشروع العظيم.
وقد أعاد الفاضل الهندي الكرَّة على المشروع فكتب فيه رسالة مطولة
لحضرة الأستاذ الفاضل صاحب جريدة المؤيد أشرنا إليها في العدد الماضي ووعدنا
بنشر ملخصها والكلام على انتقاده علينا وعلى المشروع نفسه ووفاءً بذلك نقول:
بدأ الفاضل رسالته بالشكر والثناء على صاحب المؤيد لاعتنائه بهذا المشروع
وإظهار التأسف لأن الرأي العام الإسلامي لم تدب فيه روح النشاط لإنجاز مثل هذا
العمل ثم قال:
وغير خافٍ على مَن لهم دراية بمثل هذه الأعمال أن مشروع سكة الحديد بين
بورسعيد والبصرة يحتاج إلى نحو من ثلاثين مليونًا لإبرازه، فإذا كان العالم
الإسلامي بأجمعه لا يقدر على الحصول على مثل هذا المقدار أو لا يثق بنفسه في
جمعه، فعلى العالم وعلى الدنيا السلام!
وإني لأشكر أيضاً رصفائي الذين ساعدوني بأفكارهم الصائبة في هذا المشروع
الجليل، ولكن لا أوافق حضرتَيْ الفاضلين صاحبي جريدتي المنار ومعلومات فيما
كتبا؛ لأن الأول بعد أن استحسن المشروع وعدَّد منافعه أبدى ملاحظتين: الأولى أن
مولانا الخليفة الأعظم ورجاله هم أدرى بمنافع بلادهم من غيرهم وهذه حقيقة
لا مراء فيها ذكرها الشاعر المشهور حافظ الشيرازي من سنين مضت في بيت شعر
له (وقد ذكره بنصه فأغفلناه) .
وليس هذا المشروع من المسائل السياسية بل هو مشروع تجارة ليستفيد منه
المسلمون في جميع الأقطار، فضلاً عن أنه لا يليق بنا أن نقعد كسالى وننتظر عمل
كل صالح لنا من رجل واحد أو من فئة مخصوصة؛ لأن هذا فوق طاقة البشر ومن
الواجب على كل وطني غيورٍ مخلص الولاء لأمته وبلاده أن يعرض ما لديه من
المشروعات على الجمهور وخصوصًا ذوي السطوة والنفوذ مؤمّلاً منهم تحقيقها.
والملاحظة الثانية التي أبداها صاحب جريدة المنار الغراء هي أن أول ما يجب
علينا القيام به تربية الشعب وبعد التربية يكون إنجاز مثل هذه المشروعات الجسيمة؛
ولهذا يرى أن من الواجب على ذوي اليسار أن يتعاونوا على فتح المدارس أولاً،
ثم يتعاونون بعد ذلك على المشروعات الكبرى.
وحقًا لقد صدق الأستاذ في أن التربية أساس نجاح الشعوب غير أن هذا لا
يصح أن يكون عقبة في طريق كل عمل يرى فيه النفع العام خصوصًا، وأن الثروة
المحلية من أقوى عوامل التربية، كما أن التربية من أقوى عوامل تنميتها.
على أنه إذا كان الناس يتقاعدون عن المشروعات التجارية التي تعود عليهم
بالفوائد المادية الجُلَى فكيف يجودون بالمال في سبيل التعليم الذي هو من
المشروعات الخيرية وفوائده أدبية إلى زمن مديد.
وزيادة على ذلك فإن إهمال مشروع جليل كهذا إلى أن تتربى الأمة التربية التي
يريدها حضرته قد يضيع عليها فوائد جُلَى ربما تعذر عليها بعد ذلك إدراكها بل ربما
تكون الأمم الأجنبية قد أسقطتنا بسبب فقرنا في مهواة الدمار وأمكنها بذلك أن تطردنا
من بيوتنا.
والتاريخ أعظم شاهد ونواميس الطبيعة دالة على أن العمل أعظم تأثيرًا في
حياة الشعوب من نظريات التعليم البطيء، فضلاً عن أنه لدينا الآن في كل شعب
إسلامي طبقة عالية متعلمة كافية لأن تجري أعمالنا على قواعد علمية راسخة
ويمكنهم أن يكونوا قادة الهمم وأئمة الأفكار، فليس من عار علينا أن ندعوهم في
مقدمة مَن ندعوهم.
وإذا كان الواجب على الحكومات أن تقوم بكل المشروعات الكبيرة كما تقوم
بتربية الشعوب فما بالنا نحمل واجب الحكومات على كواهلنا.
نعم، إن كثيرًا من الحكومات لا يقوم بواجباته تمام القيام، أفلا يجب على
الأمة في مثل هذا أن تعمل ما أهملت عمله الحكومة وخصوصًا في مشروع كهذا هو
في اعتقاد ذوي النظر السديد أنفع من بضع مدارس علمية يتخرج منها مَن لا يعرف
في الغالب سوى الكتب والنظريات.
إن هذا المشروع مدرسة عملية في حد ذاته وهو ينجب لنا مئين وألوفًا من
الشبان في الهندسة العملية، والأشغال التجارية، والمالية، والصناعية، وتكون هذه
المدرسة التجارية الجديدة أساسًا لثروتنا ومهدًا لمستقبل اتحادنا وسعادتنا.
ولست أراني بعد هذا في حاجة للرد على جريدة المنار الغراء؛ ففيما تقدم وفي
ذكاء حضرات القراء كفاية لاستنتاج الحقائق من هذه العبارة القليلة.
أما ما جاء في جريدة (معلومات) فإنه أدهشني للغاية؛ إذ كيف يخطّ قلم
حضرة صاحب هذه الجريدة السيد محمد بك طاهر ما جاء فيها من الملاحظات حيث
كتب في جريدته أن الدول الأجنبية ربما عارضت الباب العالي في قيامه بهذا
المشروع وأن جلالة مولانا السلطان الأعظم ربما أبى أن يقبل مثل هذا المشروع
تحت حمايته فإن كان الأمر كذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولكن كيف يتاح لي أو لغيري أن يصدق هذا الكلام وهو لو قيل عن سلطان
غير مولانا السلطان الحالي لاضطررنا لتصديقه إذا صدر عن مثل محرر جريدة
معلومات الغراء. وإنما يستحيل علينا أن نصدق مثل هذا القول عن سلطاننا الحالي
الذي اشتهر بحب جمع كلمة المسلمين وتوثيق عرى الروابط بين شعوب العالم
الإسلامي وبديهي أن هذا المشروع التجاري من أجلّ وسائل تحقيق آماله فيما يريد.
ومولانا السلطان الحالي الذي هو واسطة عقد الإسلام وروح حياة جامعته قد ملأ
النفوس أملاً في المستقبل، فأنا لا أصدق ما قالته عنه جريدة معلومات أبدًا أبدًا.
ونحن من الجهة الأخرى نرى الملوك فضلاً عن قبولهم المشروعات العظيمة
تحت رعايتهم يشتركون قلبًا وقالبًا في أقل المشروعات التي تنجم عنها فائدة ما
لبلادهم.
إذن فكيف نصدق بأن جلالة مولانا السلطان عبد الحميد الذي يصرف جميع
أوقاته ويشتغل بكل قواه في صالح رعيته يتأخر عن قبول مشروع جسيم كثير
الفوائد لبلاده ورعيته مثل هذا المشروع الذي نحن بصدده.
وبصفته أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين يرى جلالته أن من أوجب
الواجبات عليه العمل فيما ينفع رعيته، وليس من نافع أجلّ وأعظم من هذا
المشروع الجليل، وهو المشروع الوحيد الذي يساعده على مبدئه الحميدي من جمع
كلمة المسلمين ولمّ شتات ثروتهم.
ومن المحقق أن جلالته لو اهتم بهذا المشروع كان نجاحه مكفولاً، بل لو أخذه
جلالته تحت حمايته لاستطعنا جمع أضعاف أضعاف نفقته.
نعم، إن الكثيرين منا أصبحوا فقراء، ولكنَّا - والحمد لله - لا تزال فينا بقية
تؤهلنا لجمع ثلاثين أو أربعين مليونًا.
نعم، إن أغنياءنا قسمان: إما غني مبذر يصرف أمواله في الأمور التافهة،
وإما بخيل يخاف على دراهمه من هبوب النسيم، فيدفنها في أعماق الأرض إلى
أجل غير مسمى، وفي كلتا الحالتين وبال علينا، ولكن ثقة العالم الإسلامي في
جلالة مولانا أمير المؤمنين تدعو الفريقين إلى تلبيته فيما يريد، وبمثل ذلك نتمكن
من حفظ مال المبذر والانتفاع بمال البخيل فيما يعود عليهما وعلى الأمة بالخير
الجزيل.
وكتب لي صديق من الآستانة يقول: إن المسلمين ليسوا بأغنياء كثيرًا ليقدموا
على هذا المشروع ويؤكد لي أني إذا وعدته باشتراك الهنود بالمال الكثير فإنه مستعد
لعرض الأمر على جلالة الخليفة الأعظم، فجاوبته - كما ذكرت آنفًا - بقولي إنه إذا
سمحت مكارم مولانا بأخذ هذا المشروع تحت رعايته فليكن آمنًا مطمئنًا باشتراك
كثير من أغنيائنا بالأموال الطائلة.
أما خوف جريدة معلومات من تداخل الدولة الأجنبية فذلك ما لا أفهم له معنى،
وكيف يمنعنا أي إنسان على سطح الأرض من العمل لمستقبل بلادنا ونجاحنا فيه
ومع أني من رعايا الحكومة الإنكليزية والعلائق بين الدولتين كما لا يخفى ليست
بذاك - فلست بخائف أبدًا، بل أنا على وقوف تام من اشتراك ومساعدة جميع
الرؤساء المسلمين لنا ولجميع المشروعات التي تعود بفائدة على العالم الإسلامي.
حقًّا إني أعتقد أن زمنًا مملوءًا بالمعارضات والمشاكل والقلاقل والاضطرابات
يجعل الإنسان هيَّابًا للأمور ويولد الإهمال والفتور في النفوس وما يقال في جانب
الأفراد يقال في جانب الأمم والدول، ولكن ألم يحن - يا تُرَى - الوقت لنفض غبار
هذا الخوف والفتور عن كواهلنا؟ !
لا شك أن الدولة العلية كانت عرضة لعدة مشاكل داخلية وخارجية ولكن ذلك
أمر لا تكاد تخلو منه حكومة فلننظر إلى ما يعملون، إنما وقوفنا في موقف المُدافع
طول هذا الزمن هو الذي سبَّب لنا فتور الهمم وضعف العزائم وساعد أعداءنا على
معاكستنا.
وإني لأستغرب صدور هذا المقال من رجل اشتهر بحب الخليفة وخدمة
الإسلام من المبدأ إلى الختام، وإذا كنا أصبحنا بهذه الدرجة من الخوف من جيراننا
حتى ضاقت الدنيا في وجوهنا فإذا أقدمنا على عمل تجاري كهذا يعد لنا العمل
جريمة لا تغفر، تتخذها الدول حجة للتداخل في جميع شؤوننا؛ ليقضوا على حياتنا،
فلنودع هذا العالم - بأمتعتنا ورحالنا - متمثلين بقول ألد أعداء الإسلام الذي قُضِيَ
(يشير إلى خطبة ألقاها المستر غلادستون في مجلس الشيوخ أيام الحوادث الأرمينية
قال فيها: من الواجب علينا أن نطرد الأتراك من أوروبا بأمتعتهم ورحالهم!) .
ولنغرق نفوسنا في البحار أوْلى لنا من البقاء واحتمال هذا العار وكيف تسنَّى
لصديقي ورصيفي الفاضل أن يقول ما قال، وهو تحت أشعة شمس الإسلام الساطعة
وفي مركز دائرة المجد والرفعة؟ ! ألم يقدر صديق مولانا السلطان حق قدره؟ !
وكيف يصدق إنسان أن الرجل الذي يقاوم دول أوروبا جمعاء - حينما كان
أعداؤه كلما تخيلوا قرب سقوط عرش آل عثمان، يكادون يطيرون طربًا وسرورًا
وبينما كانت سحائب الأكدار منتشرة في جو الأقطار الإسلامية - ثم يخرج بعد ذلك
جلالته ظافرًا منصورًا من هذه المعمعة، ولا يقبل هذا المشروع تحت رعايته خوفًا
من اعتراض الدول الأجنبية ليس إلا.
ومع أن بيني وبين جلالته أقطارًا شاسعة، وبحارًا واسعة، قد عرفت مقدار
درجته وسمو مقامه وقدره في عالم السياسة، فكتبت رسالة في أيام تلك الشدائد باللغة
الإنكليزية والهندية قلت فيها: إن مولانا السلطان سوف يخرج من هذه المشاكل بعون
الله وقوته متوجًا بتيجان المنتصر الظافر على أعدائه، ولله الحمد قد صدقت فراستي
وجاءت الأمور كما كانت آمالي، بل آمال العالم الإسلامي بأجمعه ولكن قبل الختام
أبشّرك - أيها السيد - أن رجلاً سوريًّا أرسل إليَّ خطابًا يقول فيه: إنه تألفت جمعية
من الأعيان هناك لتساعد على إبراز هذا المشروع، غير أني لا أعرف إن كان هذا
الرجل يود الاستعانة بمال أجنبي أم لا، ولا أخالك ألا تعرف شيئًا عن طلب عاصم
بك الذي عُرض على الحكومة أن تصرح له بمد سكة حديدية بين سمسون والبصرة
بفروع أخرى، أما مرسل هذا الجواب فلا أعرفه شخصيًّا، فإن كان يود جعْل
الشركة أوربية فالله يحفظنا منها؛ فقد كفانا تداخلاً في بلادنا وما الغرض من هذا
المشروع إلا مساعدة الشرقيين وجمع شتات العالم الإسلامي، فضلاً عن الفوائد
المالية وإصلاح البلاد؛ حيث لو تم هذا المشروع لأصبحت ربوع عراق العرب
وعمان جنة الدنيا زيادة عن تسهيل طرق الحج والمواصلات الإسلامية وهذا مما
يساعد على حث المسلمين للاشتراك في هذا المشروع.
وفي الختام آمل من صميم فؤادي أنك تهتم بهذا الموضوع كما اهتممت به أولاً
وأنبه فكرك إلى الخطأ المطبعي الذي جاء في جوابي الأول وهو أنه بدلاً عن
١٢٠٠٠٠٠ جنيه كتب ١٢٠٠٠٠ فقط، ونقلته جميع الجرائد الأخرى؛ لأن معدل
ربح المائة الآن هو أربعة، فيكون ربح ٣٢٠ مليونًا مبلغ مليون ومائتي ألف، لا
مائة وعشرون ألفًا، وأهديك وافر التحيات ... إلخ إلخ. اهـ
وقد نشر المؤيد مقالة في العدد الصادر يوم الثلاثاء الماضي بيَّن فيها فوائد
المشروع، وحث عليه إجابة لدعوة المقترح وشايعه في الانتقاد علينا وعلى جريدة
معلومات، بل أربى عليه.
(المنار)
إن انتقاد (وكيل) و (المؤيد) الغراوين على المنار منشؤه الغفلة عن كلامنا
في موضوع المشروع نفسه وفي سائر المواضيع التهذيبية التنشيطية، تخيَّلتا من
المنار خصيمًا مخالفًا، وأنشأتا تردّان عليه ولا خصم ولا مخالفة، قالتا إن المنار
لاحظ ملاحظتين: الأولى أن الأَوْلَى لنا أن ننفض يدنا من العمل ونترك أمثال هذه
المشروعات لمولانا السلطان ولرجال الحكومة والثانية أن نقدم التربية والتعليم
النظري على كل عمل سواهما، حتى إذا تربينا وتعلمنا نحاول مباشرة الأعمال
النافعة. لو صح أننا قلنا هذا القول لحقَّ لكل فرد من العقلاء أن يرد علينا ويرمينا
بالأفن وضعف الرأي، لكننا قد قلنا خلاف هذا وخطَّأْنَا مَن يذهب إليه غير مرة.
عجيب من مثل صاحبَيْ تينك الجريدتين الفاضلين كيف ذهلا عن كلامنا وأثبتا
لنا ضده أو نقيضه، ثم طفقا يردان على ما أثبتاه لنا وهو منتفٍ عنا؛ المنار أول
جريدة شرقية أو عربية أنشئت لأجل الحث على الشركات المالية للقيام بالأعمال
النافعة وإقناع الشرقيين بأن سعادة الأمم وقوتها بأعمال أفرادها وهمم آحادها، لا
سيما إذا عملوا مجتمعين وتعاونوا على البر والتقوى وأن وظيفة الحكام إنما هي حفظ
النظام العام بين الأمة لا إغناء الأمة وإسعادها، نعم إن التربية والتعليم بالمعنى الذي
نريده هما ركنا السعادة ودعامتا وجودها وبقائها؛ ولذلك نُكثر من اللهج بهما ما لا
نكثر من الكلام على سائر المقاصد التي أنشئت الجريدة لها وهي مبينة في فاتحتها.
ولا نعني بالتعليم درس اللغة وبعض الفنون النظرية التي يتدارسها المسلمون فقط،
ولا بالتربية تربية الأطفال بالتنبيه على الحسن لتجتلبه، وعلى القبيح لتجتنبه (كما
توهم في المسألتين) ، بل الأمر أعم من ذلك وإننا نورد الآن بعض جمل من مقالاتنا
السابقة يظهر بها أن انتقاد ذينك الفاضلين علينا ناشئ عن الذهول عن كلامنا ويفهم
منها أن مرادنا من العلم والتعليم ما يشمل الفنون العملية والاقتصادية.
قلنا في فاتحة العدد الأول - بعد ذكر أن العلوم الطبيعية كانت في العصور
السابقة آراءَ وأنظارًا محضة -: ( ... وأما في هذا العصر فليس العلم إلا ما أثبته
العمل أو بُني عليه عمل، فما لم يحتف به العمل من قطريه لا يعوّل عليه، فعليك
بالعلم والعمل، رُضْ بهما نفسك ورَبِّ عليهما ولدك ... ) ، ثم قلنا - في بيان منهاج
الجريدة ومقاصدها -: ( ... وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين
والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في طروق أبواب الكسب والاقتصاد، وتنبيه
العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران، وينبوع العرفان، وأن
عليها مدار تقدُّم أوربا في الفنون والصنائع لا على الملوك والأمراء، فهي التي
تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسيّر المراكب والبواخر
(يشمل البرية والبحرية) ونموذج ذلك بين أيديهم، وتحت مواقع أبصارهم ... ) .
وقلنا - في العدد الثاني - ( ... إنني رأيت أكثر الأمم الشرقية لا يرون
لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها ورشادها وصحتها
ومرضها وغناها وفقرها - كل ذلك بيد الحاكم، حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل
شيء وهو يجير ولا يُجار عليه! وكأن هذا الوهم متسلسل فيهم بالإرث من عهد
مَن قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: ٢٥٨) ، وعهد مَن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ
الأَعْلَى} (النازعات: ٢٤) ... ) .
وفي ذلك العدد أيضًا: ( ... أما والله لو أن أجسادنا هذه تدبرها أرواح كأرواح
آبائنا الأولين لكنا نحن السابقين إلى كل ما يسمى اكتشافًا واختراعًا وعملاً نافعًا ... )
وفيه أيضًا - بعد لوم أغنيائنا على تقليد الإفرنج في الترف، وأنه مضر -: ( ...
وإن التقليد النافع إنما يكون في خدمة المعارف والسير في طرقها وفي الأعمال
النافعة التي هم لها عاملون ... ) ، وقلنا - في العدد ١٣ -: ( ... كل مَن يرى
نفسه في قصور عن إسعاد وطنه وإعلاء منار أمته فهو كافر بنعمة العقل، محروم
من الكمالات الإنسانية التي ارتفع بها البشر عن مرتبة الحُمُر والبقر، تفكروا في
معنى الأمة والوطنية واقدروا الشعب حق قدره - يتضح لكم أن الأمة تتكون
بالاجتماع على الانتفاع وبالاتحاد على نيل المراد، فحَتَّامَ التعلق بأذيال الحكومة،
والتشبث بأهداب الآمال الموهومة، والإنحاء على الدولة بالتقصير؟ إلى متى هذا
التفرق والتبدد والتوحد والتفرد، مدّ يدك لمواطنك (خطاب للشرقي) ومشاركك في
مواد حياتك وتعاهدوا وتعاقدوا جميعًا على ما فيه منفعة الجميع. اخلطْ مالك بماله
تخلطْ نفسك بنفسه واعملوا مجتمعين؛ فقد كفاكم ما جناه عليكم التفرق والانفراد،
بَادِرُوا الزمان قبل فوات الإمكان، فيوشك أن لا يَدَعَ لكم الدخيل بابًا من أبواب الثروة
إلا أقفله، ولا سببًا من أسباب النجاح إلا قطعه، فماذا ينفعكم التنبه إذا أُغلقت دونكم
الأبواب، وتقطعت بكم الأسباب؟ ! أين الشركات التي عقدناها، والمدارس
الوطنية التي شيدناها، أما منحنا (مولانا السلطان) امتيازات لإنشاء سكك حديدية،
فحملت الجهالة مَن نعدهم من أمثلِنا وأنفسنا على إيثار الأجانب على أنفسنا، وبيع
الامتيازات للأجنبي بأبخس ثمن، مع أن بيعها بمعنى بيع الوطن، فالوطنَ الوطنَ
أيها المصريون، الوطنَ الوطنَ أيها العثمانيون، جانبوا البطالة والكسل، وأجيبوا
داعي العلم والعمل، ولا تكونوا كدابغة وقد حلم الأديم ... ) ، وقلنا - في العدد
(١٥) -: ( ... سعادة الأمم بأعمالها وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف
فيها، فعلى المصريين أن يعملوا على إصلاح الخلل بتأليف الشركات المالية وعقد
الجمعيات الوطنية، اللذين لا أمة ولا وطن بدونهما ... ) .
وذكرنا - في العدد (١٦) - أن الأعمال التي نجحت بها أوربا وبلغت هذا
السؤدد والقوة: ( ... لا يُهتدَى إليها إلا بكمال التعليم والتربية على العلم) ، ولا
أراني بعد هذه النصوص في حاجة إلى الرد على حضرة الكاتبين الفاضلين، ولا
أخالهما ينازعان بعدُ في أن القول بأن التربية والتعليم وسيلة للسعادة ترجع إليها
جميع الوسائل وسبب يجمع كل الأسباب - لا يقتضي القول بترك الأعمال المادية
والمكاسب، بل يقتضي الأخذ بها ولا في أن تفويض الأمر في المشروع المبحوث
عنه إلى مولانا السلطان الأعظم ورجاله الصادقين يستلزم ترك الأمة للأعمال
التجارية ونحوها وتكليف الحكومة بها؛ لأن هذا المشروع لا يمكن إلا بعد صدور
الإرادة السلطانية به وقبول مولانا - أيده الله تعالى - رئاسة اللجنة العاملة، هذا
وجه التسليم والتفويض. وقولنا وقتئذ: ( ... فإن لهم من المعرفة بمنافع الأمة
ووسائل تقدمها ما ليس لنا ... ) ، وإن كان صحيحًا فهو لا يراد به أننا نجهل فائدة
المشروع أو نرتاب فيها، كيف وقد عنينا بنقله وعرضه على أنظارهم وصرحنا بأن
فائدته عظيمة.
وإنني ألتمس عذرًا لحضرة الكاتبين الفاضلين، أما محرر (وكيل) فلأنه ربما
لم يكن عارفًا بالعربية ولم يكن المترجم بارعًا، فتوهم من كلامنا ما لا يرمي إليه،
وأما الأستاذ صاحب المؤيد فقد تابع صاحب (وكيل) على ما كتب ذهولاً عما قرأه
في المنار مما يخالفه، وقد قلت: إن لهما الحق في الانتقاد على تقدير صحة ما قالاه
ونحن على وفاق في أن التربية والتعليم مناط السعادة وأنه لا بد من الأعمال المادية
مع محاولة التربية والتعليم، بل على أن التعليم الذي نريده لا يتم إلا بالأعمال، وإن
الأعمال - كما قلنا في فاتحة المنار - تنمِّي العلوم، والعلوم تمدّ الأعمال، لكن
صاحب المؤيد الأغرّ أغرق (بالغ) في تعظيم شأن الكسب المادي، حيث قال:
( ... وصاحب جريدة المنار الغراء - ككل إنسان عاقل - يربي فضائله بالعمل ولكنه
لو خلا له يوم من كسب مادي لخمدت جذوة عقله وسقطت جثمانيته في مهواة
الضعف والكسل وتعطلت فضائله ... ) ، فهذا الاستدراك غير مسلَّم والمبالغة فيه
ترتقي إلى درجة الغلوّ؛ لا سيما بالنسبة للفضائل ولا حاجة لتقوية المنع بسند يؤيده،
فالأمر جليّ بيّن والمشاهدة تؤيده في كل زمان ومكان.

(تنبيه)
لا يهمنّ واهم أن نهينا عن الاعتماد على الحكومة في ترقي الأمة فيه غمص
لحقوقها أو أنه مبني على عدم استعدادها أو انتفاء عدالتها، كلا، بل إن القول
بحصر وسائل الترقي ومقاصده بالحكام هو الذي يرجع عليهم بالتنقيص لاقتضائه
إضافة كل خلل وجهل وفقر إليهم ولا ينكر عاقل أن قوام الأمم والدول بقيام كل من
الحاكم والمحكوم بما عليه من الواجبات وأداء ما عليه من الحقوق، فالشركات المالية
التي نحث عليها دائمًا لإحياء المعارف والتجارة والصناعة هي مما تطالب به الأمة
وما على الحكومة إلا مساعدتها وتعضيدها، وهذا عين ما نبديه ونعيده، ولا نخال
عاقلاً ينكره.
((يتبع بمقال تالٍ))