لكل لغة مقومات ومشخصات تمتاز بها على غيرها من اللغات كما تتمايز أنواع الجنس وأشخاص النوع. وحياة كل لغة تكون بأداء وظيفتها مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها. ووظيفة اللغة محصورة في شيء واحد هو تعبير أهلها بها عما يعلمون مهما اتسعت دائرة معارفهم وعلومهم. وقد كان للغة العربية حياة أدبية في عصر الجاهلية ثم ظهر بها الإسلام فجدد لها حياة أخرى أعلى مما كانت فيه؛ إذ جدد لها دينًا وشرعًا وسياسة ومدنية قامت بعلوم لغوية وعقلية وصناعية، فوسعت اللغة ذلك كله مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها في المفردات والأساليب. إن ما يتجدد للناس من المعلومات ببحثهم واكتشافهم وبما ينقل إليهم عن غيرهم، يظهر في لغتهم بضروب من المظاهر: فمنها ارتجال الأسماء، ومنها الاشتقاق، ومنها الترجمة، ومنها التجوز، ومنها التحويل للدخيل من الأسماء الأجنبية وإدخاله في لغتهم وجعله منها مع تركه على حاله، أو مع ضرب من التصرف فيه يكون به مناسبًا وملائمًا لكلماتها في أوزانها ومخارجها، وهو ما يسمى عندنا بالتعريب. وكل ذلك من مقتضى حياة اللغة، فهو يحصل في اللغة الحية بلا تكلف، كما يأكل كل من الإنسان الأبيض أو الأسود أو الأصفر الشيء المختص بأرض الآخر، فيتغذى به بدنه ويبقى هو مع ذلك على لونه ومشخصاته، لا يعرض له تغيير. ضعفت حياة اللغة العربية منذ بضعة قرون بعد أن صارت قسمين: عامية وخاصية، فأما الخاصية: وهي لغة العلم والكتابة فصارت متكلفة، وخرجت عن كونها ملكة راسخة. وأما العامية وهي لا تكون إلا ملكة حية في الألسنة، فصارت قاصرة على ما يصل إليه علم الأميين ومن في حكمهم من المتعلمين. وصار المشتغلون بالعلم والكتابة ضعافًا في ملكتها بقدر مزاولتهم للخاصية التي لم تصر ملكة لهم. فإذا عرض للعوام شيء جديد من المسميات بادروا إلى تسميته بلا تكلف كما هو شأن أهل الملكة في كل لغة، فترى المشتغلين منهم بالطباعة (مثلاً) يسمون كل أداة من أدواتها الأعجمية باسم منه العربي ومنه العجمي ومنه المعرب (وسنبين ذلك بعد) ولكن الخواص - وأعني بهم المشتغلين بالعلوم العربية - فإنهم يحارون فيما يعرض لهم من ذلك؛ إذ ليس لهم ملكة العامية كالعوام الآن ولا ملكة الخاصية التي كانت لناقلي علوم اليونان. سكت هؤلاء الخواص على هذا النقص زمنًا، وبحث بعضهم فيه أبحاثًا لم يكن فيها غناء. وقد أنشأ في هذا العام جمهور من المتخرجين في مدرسة دار العلوم وأكثرهم معلمون للعربية في مدارس الحكومة - ناديًا لهم، رأوا أن يكون من فوائد اجتماعهم فيه خدمة اللغة العربية بأكثر مما يخدمونها به في المدارس. وقد رأوا أن يكون أول عمل يقومون به البحث في هذه المسائل، وإننا نورد لهم خطابين في مسألة أسماء الأجناس الأعجمية التي يراد إدخالها في اللغة العربية هل تعرب تعريبًا أم تؤخذ بالترجمة والوضع الجديد؟ وقد عرف رأينا في ذلك مما تقدم، وسنزيده بيانًا بعد إيراد الخطابين. خطاب الشيخ محمد الخضري المدرس بمدرسة القضاء الشرعي أيها السادة: ينبئنا التاريخ أن اللغة العربية كانت لآخر القرن الثاني عشر قد وصلت إلى منتهى الضعة، وكادت تصبح أثرًا دارسًا، ولولا رجلان فكرا في إحيائها ووجدا من خيرة الأعوان من كان شعارهم الإخلاص والجد؛ لكنا اليوم على ما كان عليه سلفنا في أواخر ذلك العهد. أما أولهما فمحمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية زادها الله تشريفًا وتكريمًا فإنه وجد المرحوم رفاعة باشا وتلاميذه بعد أن زج بهم في مضمار الحياة، فساروا شوطًا بعيدًا، ووضعوا الحجر الأول في نهضة اللغة، كتبوا وترجموا شيئًا كثيرًا أبقته لنا الأيام دليلاً على إخلاصهم ثم على مقدرتهم واستعدادهم، لم يتركوا فنًّا من الفنون التي كنا مستضعفين فيها إلا كتبوا فيه ترجمة أو من عند أنفسهم. وأما الثاني فهو صاحب الدولة المخلص في خدمة بلاده مصطفى رياض باشا. وجد الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده وتلاميذه ورجال العزيمة من نابغي السوريين فقاموا بالنهضة الثانية. عهد إلى المرحوم إصلاح الوقائع المصرية والإشراف على ما يكتبه أرباب الدواوين في محاوراتهم، فكان ذلك منبهًا لهم أن يعتنوا بإصلاح ما يكتبون وتعلم ما يجهلون. ومن أكبر مساعد لتلك النهضة الجرائد العربية على اختلاف مذاهبها ومشاربها، فهي التي رفعت من قدرها وساعدت على رقيها بما كان يبذله أصحابها من الهمة في اختيار اللفظ والأسلوب، سواء في ذلك فاضلهم ومفضولهم. إذا دبت الحياة في جسم فإنها لا تقف عند غاية، فإن صاحبها دائمًا يرجو الكمال وهو أبدًا بعيد عن الأنظار، كذلك نحن الآن فإنا في بدء نهضة ثالثة يأخذ بيدها ويشد أزرها ذو السعادة الوزير المخلص سعد زغلول باشا ناظر المعارف العمومية في عهد مولانا وسيدنا أمير مصر عباس باشا حلمي الثاني، فهو مؤيد النهضة الثالثة كما كان جده مؤيد النهضة الأولى. تلك النهضة أن تكون اللغة العربية لغة تعليم وتعلم وكتابة وتكلم، ينبت فيها الصغير ولا يخل بوزنها الكبير، والأعوان اليوم أكثر منهم أمس، فإن البذور التي غرست قد أثمرت في كثير من الأنفس الطيبة، فصارت من أنفسها تطلب الغايات وترقب الكمال والمعونة من مثل هؤلاء أعظم. هذا المطلوب أيها السادة عزيز المنال وعر المسلك، فلا بد للوصول إليه من عزيمة صادقة يقودها العقل الصحيح لتهيئة الطريق، حتى لا تلتوي علينا المقاصد فنظن أنفسنا سائرين للأمام ونحن للخلف راجعون. ننظر أمامنا فنجد عقبات كثيرة لابد أن نقدرها قدرها حتى يمكننا تذليلها، عقبات كثيرة لست في معرض إحصائها الآن؛ لأني أقتصر على عقبة واحدة جعلت مجال البحث بين أيديكم. بيننا محدثات كثيرة تصل بلادنا على أيدي المخترعين الذين قدروا بجدهم أن ينتفعوا من كل ما خلقه الله سبحانه للإنسان، ولم يكن آباؤنا قد عرفوها حتى يعدوا لها العدة من الأسماء المبينة لمسماها، فنقف أمامها مبهوتين لا ندري كيف نعبر عنها، فإذا كتبنا وقف بنا القلم عندها حائرًا، فمنا من يكتب اللفظ الذي وضعه المخترع ويحيطه بقوسين علامة على أنه ليس من لغتنا أو بعبارة أوضح علامة على نقص اللغة ونفورها من كل جديد، ومنا من يحتال لذلك فيؤدي المعنى بكلمة وضعها العرب بإزاء مسمى آخر، وما يجده الكاتب يجد مثله المتكلم. لا يتفق الناس على شيء يتبعونه، وهذا نقص عظيم يجب أن نتلافاه وأن نتفق على ما نستعمله؛ لذلك وضعنا موضع البحث هذا السؤال: ما هي الطريقة المثلى للدلالة على المحدثات؟ أتعريب ألفاظها التي يضعها لها محدثوها وصقلها حتى تكون موافقة للهجات العرب؟ أم التوسع في بعض الألفاظ العربية ووضعه بإزائها. وقبل الإفصاح برأي في هذه المسألة، أبين لحضراتكم كيف كان العرب المتقدمون يفعلون إذا عرض عليهم شيء محدث من طريق غيرهم. ولا أريد أن أتوسع في البحث إلى ما وراء أسماء الأجناس؛ فإن اللغة العربية عندها من الثروة في الأسماء الدالة على المعاني ما لا تحتاج معه إلى استعارة من غيرها، أما أسماء الأجناس فإنها بالضرورة تتجدد بحدوث مسمياتها، والعرب كما تعلمون كانوا فقراء جدًّا من هذه المواد، فإنهم أهل بادية وحاجات المتبدي قليلة؛ إذ ليس أمامه إلا سماؤه وأرضه وبهمه وسلاحه ووجدانه، فمن المعقول أن يتفنن في وضع ما يدل على أجزاء ذلك من الأسماء، أما أدوات الحياة مما تخرجه الصنعة وتبدعه الفكرة فهو منها بعيد، وقلما يتلقى باديهم شيئًا منها عن بلاد أخرى؛ لأنهم انقطعوا عن الأمم أو كادوا. فأما الحاضرون منهم، وهم سكان ريف العراق ومشارف الشام واليمن فقد كان لهم من جوار الفرس والروم ما جعلهم يتلقون كثيرًا من الأداة، فتسوقهم حاجة التعبير والإبانة عما في النفس على أن يكون لذلك الشيء الذي استعملوه لفظًا يعبر عنه. والمعقول في اختيار اللفظ للمعنى ثلاث طرق: الأول: الوضع الجديد، وهذا لا مجال للكلام فيه؛ لأن الأقدمين ما عولوا عليه، وليس بيننا من يقول به على ما أظن، وسبب هذا فيما أعلم أن أحرف اللغة العربية قد شغلتها الأوضاع، فقلما نركب ثلاثة أحرف إلا وجدنا مجموعها قد وضع واستعمل اللهم إلا حروفًا قلائل، استثقل العرب جمعها في كلمة واحدة ومثل الثلاثة الأربعة والخمسة. الثاني: التوسع في الاستعمال وهو المراد بالتجوز: بأن يكون اللفظ قد وضع بإزاء مسمى، ولمناسبة بين المسمى القديم والجديد يستعمل ذلك اللفظ في المعنى الجديد ككلمة (تأمور) فإنها في أصل اللغة القلب؛ لأنه وعاء الدم ثم توسعوا فيها فجعلوها لكل وعاء، فإذا جاءهم أي وعاء على أي شكل استعملوا فيه لفظ (تأمور) ولا يأخذون عن غيرهم شيئًا، حتى يتركوا كلمة إبريق التي وضعها صناعه لتدل على شكله الخاص به، ويبحثون في كلماتهم القديمة عن لفظ قديم يدل على ما يشبه الدينار والدرهم فيستعملونه فيها ولا يأخذونها. الطريق الثالث: التعريب وهو أنه يأخذ من المخترع للشيء المسمى واسمه؛ بعد أن يصقلوه بألسنتهم حتى يكون خفيفًا عليها مناسبًا للهجتها، وهذا هو الطريق المعقول الذي اتبعه العرب وكل أمة من أمم العالم. مضى على الأمة العربية زمن طويل قبل الإسلام، وهي تتناول الألفاظ الدالة على الأجناس من واضعيها وتلحقها بلغتها من غير أن يقف في طريقها معارض، أخذوا الدينار والدرهم وألحقوهما بأبنيتهم واشتقوا منهما، فقالوا: فرس مدنر أي فيه نقط كالدينار، وقالوا: دنر وجهه أي تلألأ، ودينار مدنر أي مضروب، ودنر فلان كثرت دنانيره، وقالوا: رجل مدرهم كثير الدراهم، ودرهمت الخبازي صار ورقها كالدراهم، وأخذوا اللجام واشتقوا منه، فقالوا: ألجم وملجم ولجم، وتجوزوا في استعماله فقالوا: التُّقى ملجم؛ لأنه يقيد اللسان، ويكفه كما يفعل اللجام بالدابة. أخذوا من الصناعات الإستبرق والسندس والأساور والإبريق والطست والخوان والطبق والخز والديباج والسندس والهندسة والمهندس. وأخذوا من النباتات النرجس والبنفسج والنسرين والسوسن والياسمين والجلنار والزنجبيل والقرفة والفلفل والكراويا والعنبر والكافور والصندل إلى غير ذلك مما أحصاه نقلة اللغة. وكانت قاعدتهم في التعريب على جهتين: (الجهة الأولى) أن يلحقوا الكلمة بأبنيتهم، ومتى صارت الكلمة كذلك عدت من اللغة، وحكم عليها بما حكم على بقية الكلام فيشتقون منها، وكانوا يبدلون حرفًا مكان حرف لتقارب مخرجهما، كما فعلوا في لجام وكان أصله (لغام) بالغين، والجيم والغين متقاربان مع سهولة الجيم، وإذا كان الحرف بين كاف وجيم جعلوها جيمًا لقربها منها، ولم يكن بد من إبدالها؛ لأن ذلك الحرف ليس من كلامهم، فقالوا: جربز وآجر وجورب. وربما جعلوها قافًا؛ لأنها قريبة أيضًا فقالوا: قربز. ويبدلون مكان آخر الحرف الذي لا يثبت في كلامهم الجيم، فقالوا: كوسج وساذج، وأصل ذلك كوسه وساده كما ننطق به نحن الآن، ويبدلون مكان الحرف الذي بين الفاء والياء الفاء، فقالوا الفرند والفندق، وربما جعلوها باء، فقالوا برند، فالبدل مطرد في كل حرف ليس من حروفهم، يبدل منه ما قرب منه من الحروف الأعجمية. (والجهة الثانية) أن يبقوا الكلمة على وزنها عند الأمة ذات الشأن في وضعها كما فعلوا في الأبريسيم والأهليلج، وكما فعلوا في كثير من الأعلام، وقصدهم من ذلك ألا يبقى هناك كبير فرق في النطق بين اللفظيين الأصل والأعجمي وثنيه العربي، حتى يكون الفهم والإفهام، اللهم إلا ما دعت إليه ضرورة العربي في النطق. جاء القرآن الكريم وهو البالغ من الفصاحة مبلغ الإعجاز، ووصفه الله سبحانه بأنه لسان عربي مبين، فاستعمل كثيرًا من الألفاظ التي عربتها العرب، وهذا إقرار من الله سبحانه على طريقة التعريب. استعمل القسطاس والإستبرق والفردوس والمسك والكافور والزنجبيل والسندس والإبريق والمشكاة واليم والطور وما شاكلها، وقد ألف فيما عرب واستعمله القرآن من الألفاظ أستاذنا الحافظ اللغوي الشيخ حمزة فتح الله كتابًا جمع فيه من ذلك كثيرًا. وقد نقل عن ابن عباس ترجمان القرآن وكثير من التابعين وأهل العلم والفقهاء أن هذه الألفاظ من لغات العجم سقطت إلى العرب، فأعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية. ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الكلمات بكلمات العرب، وهذا الذي جعل لبعض أهل العربية أن يقول: إن القرآن خلو من كلام غير العرب لأن ما رضيته العرب من الكلمات بعد تعريبه صار عربيًّا مبينًا، وألحق بأحرف اللغة فلا حرج في استعماله بعد. ومما أزيدكم به بيانًا أيها السادة أن بعض الألفاظ التي عربها العرب موضوعة لأشياء تشابه ما له اسم عربي، ولكنهم اختاروا الاسم الأعجمي لدلالته على شكل خاص للمسمى، كما أخذوا كلمة إبريق وعندهم التامور، وأخذوا كلمة البط وعندهم الأوز للصغار والكبار، وأخذوا الهاون وعندهم المهراس والمنحاز، وأخذوا الطاجن وعندهم المقلى والميزاب، وعندهم المثعب وهو مسير الماء في الوادي، والسكرجة، وعندهم الثقوة والمسك، وعندهم المشموم والجاسوس، وعندهم الناطس، والأترج وعندهم المسك. وذلك لأسباب قوية منها أن اللفظ الذي عندهم عام واللفظ الجديد خاص، فتكون دلالة ما عندهم على المسمى ضعيفة. هذا هديهم قبل الإسلام - أما بعد الإسلام فإن العرب حينما جدوا في العلوم وأرادوا أن تكون اللغة العربية لغة علم كما هي لغة قوم ولغة دين، ترجموا إليها كتب العلم التي وصلت إليهم من أمم الروم والفرس، واتبعوا تلك الطريقة نفسها فكانوا يأخذون الأجناس كما هي، ويستعملونها في كتبهم وينطقون بها كأنها من لغتهم، ووجد من هذا شيء كثير خصوصًا في الطب والحكمة والهندسة، ولم يلتفتوا إلى الرأي الذي يقول بالرجوع إلى الوراء واستعمال الألفاظ التي أماتها الزمن لعدم صلاحيتها للاستعمال أو المستعملة في معان أخرى. والفقهاء أنفسهم لم يحجموا عن أخذ الألفاظ من غير اللغة العربية وتعريبها. يلزم من اتباع رأي التجوز مضار أهمها أن اللغة وضعت لتدل على ما في النفس، حتى يفهم السامع تمام ما تريد، واشتراك الألفاظ في المعاني مما يخل بأصل المقصود والتجوز لا بد فيه من إقامة القرائن على إرادة ما استعمل اللفظ فيه، وهذا وذاك كثيرًا ما أوقفنا حيارى في فهم المراد من بعض الألفاظ، فهل نريد بعد ذلك أن نضيف إلى آلامنا آلامًا. يقولون: إن الحق في التعريب إنما كان لأمة سلفت وبادت، فلم يبق لها من أثر وإن ما كان يباح للأعراب في بواديهم على قلة حاجهم لا يباح مثله لنا في القرون المتأخرة على كثرة الحاج، وهذا كله بنوه على قاعدة لا أساس لها وهي تشبيه اللغة بالدين في التمام، فكما أن الله سبحانه أتم دينه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكذلك العرب قد أتمت وضع لغتها، ولم يبق من بعدهم من يحق له أن يضيف إليها كلمة جديدة كما أنه ليس لمسلم أن يضيف على دينه حكمًا جديدًا. لكن الفرق بين الأمرين ظاهر؛ فإن الدين وضع إلهي شرعه من له حق التشريع والإلزام وهو الله سبحانه، وأتم وضعه على قواعد راسخة وأسس ثابتة، فلم يبق لأحد مجال أن يزيد على هذه القواعد أو ينقص منها. أما اللغة فالمقصد منها الإبانة والإفصاح وهي من وضع الأفراد تتجدد بتجدد الحاجات. وليس من قصدي أن أبحث الآن في أمور اللغات أهي توفيقية أم وضعية، فإن ذلك مما فرغ منه العلماء وانتهى بهم البحث إلى الرأي الثاني، حتى إن كثيرًا من أصحاب الرأي الأول قالوا: إن المراد بما وضع أولاً هو الكلمات التي تدل على مثل السماء والأرض والهواء مما هو موجود منذ وجد الإنسان، أما ادعاء أن الألفاظ الدالة على المخترعات والمحدثات مما علمه الإنسان الأول آدم صلوات الله عليه فهو مكابرة للمحسوس. ومتى ثبت أنها تتجدد بتجدد الحاجة، فالمحتاج من المتمسكين بها متى علم أصولها ولهجتها له حق التعريب بالضرورة كما كان هذا الحق لسلفه. ولا أدري ما الفرق بين من علم اللغة تلقينا من أبيه وأمه وبين من علمها من معلم غيرهما، واعتمدها بعد ذلك في كلامه وكتابته حتى صارت له ملكة يمكنه أن يقف ساعة، فيخطب بها من غير أن يحيد عن طريقها، ويكتب كتابًا صحيحًا ويقرأ في ساعات أو أيام. إن إخواني الذين يخالفونني في الرأي ويقولون بالتوسع في استعمال المفردات لا ينجون من تغير الأوضاع والدلالات العربية، فهم لا شك يتفقون معي في أن حق التغيير للحاجة ثابت لنا، ومتى اتفقنا على نيل هذا الحق لم يبق إلا التخير بين سهل وأسهل ومفيد وتام الإفادة، ولا مراء في أن اللفظ الذي وضعه واضعه للدلالة على شيء اخترعه أسهل في الدلالة وأتم في الإفادة؛ لأنه وضع بإزائه تمامًا كما وضع لفظ الإبريق بإزاء تلك الأداة التي نعرفها بخلاف الكلمة التي نتصيدها من موات اللغة، فإنها إما أن تكون موضوعة لشيء هو أعم فنخصصها، ويلزمنا إيجاد القرينة للدلالة على ما نريد، فتحتاج إلى لفظ وقرينة. وإما أن تكون مستعملة في شيء فيه مجرد مشابهة كما بين الاتومبيل والسيارة، فنحتاج لاستعمال لفظ واحد للدلالة على معنيين أو معان كثيرة، فالسيارة استعملت للدلالة على معنى هو القافلة أو الركب، فإذا قلت: جاءت سيارة، هل يفهمني المخاطب بمجرد لفظي؟ أظن لا، بل لا بد مع ذلك من كلمة أخرى مبينة للمراد. لا أدري ما المانع من أن يدخل في اللغة الترام، ويقال أترم ومترم كما قالوا لجام وألجم وملجم. إن الكلمة التي تريد اصطيادها قد وضعها واضعها بالضرورة؛ لتدل على معنى خاص، فإذا نحن أخذناها واستعملناها في شيء جديد لم نكن قد جرينا على لغة العرب؛ لأننا خالفنا أوضاعهم ومقاصدهم، فهم وضعوا بشكى وجمزى مثلاً للناقة السريعة، فإذا جعلنا كلمة منهما بإزاء الترام نكون بلا شك وضعنا وضعًا جديدًا لم يسبقنا إليه سابق، واجتلاب مثل هذه الألفاظ بالنسبة لمحفوظ اللغة كوضع ألفاظ جديدة مؤلفة من أحرف اللغة، فسيان في الاعتراض على رأيهم أن نقول للترام بشكى وأن نقول له ترام؛ لأن كلا استبداد بوضع اسم لمسمى لم يكن له وجود قبل الآن. إلا أن وجه الضرر في الأول ظاهر كما يتضح وجه المنفعة في الثاني، فإنا في الأول نجري على خطة لا أساس لها مع وصف الخروج عن أوضاع المتقدمين. وفي الثاني نجري على خطة اتبعها سلفنا مع الوضاحة التامة في الاسم والمسمى، ولا أدري بعد ذلك ما الذي يدعونا إلى تعسف الطرق. لعلهم يرون في ذلك رأيًا، فيقولون: إنا باتباع الطريق الأول حافظنا على ما بين دفتي القواميس، فلم نحد عنه قيد شبر ولم نخرج عما نطق به العرب في بواديهم، وفي ذلك من احترام الآباء وإقناع الناس بغنى اللغة العربية وثروتها حتى لا يهزأ بنا هازئ فيقول: إن لغة تربو عدة كلماتها على الثمانين ألفا محتاجة إلى ما يكملها ويسد ثلمة فيها. أما دعوى أن هذا محافظة على ما هو عندنا فغير صحيحة؛ لأنها إنما تكون بالمحافظة على الاسم والمسمى الذي وضع اللفظ بإزائه، وإذا لم نفعل ذلك كنا قد خيلنا على الناس تخيلاً لا قيمة له، وارتكبنا في التغيير من أوضاع القواميس ما لا يخفى، لأنا إذا كتبنا لفظًا من هذه الألفاظ التي اخترنا التوسع فيها واستعمالها لشيء جديد، أنذكر في قواميسنا معنييها القديم والحديث، فنكون ابتدعنا وأوقعنا السامع والمتعلم في حيرة؟ أم نترك ذكر المعنى القديم ونقتصر على الحديث؟ ووصف هذا بالإفساد في لغة المتقدمين واضح لا يحتاج إلى بيان، وخير منه أن نذكر لفظ ترام مثلاً بعد الاتفاق على لفظها، ونذكر بجانبها معناها وأنها مما عرب للدلالة عليه، ونبين تاريخ تعريبها فيكون ما وضعه المتقدمون معروفًا وحده، وما ألحقه باللغة المتأخرون معروفًا وحده، وهذه هي المحافظة الحقيقية على ما ورثناه من سلفنا. وأما أن يغتر مغتر بكثرة ألفاظ اللغة حتى لا نحتاج إلى مزيد، ففيه غلطتان كبريان، فإن الثروة المزعومة لا نقول بها؛ لأنا إن طرحنا منها المترادف ما وجد معنا بعد ذلك أكثر من الثلث لهذا العدد، فكثيرًا ما تجد المعنى الواحد له اسمان فأكثر إلى خمسمائة اسم؛ كما قالوا في السيف والخمر والهر والعسل وما شاكل ذلك، وهذه ليست بثروة. والثروة التي أسلم بها إنما هي في أسماء المعاني، وليست داخلة في موضوع بحثنا وأما عدم الحاجة إلى مزيد فهذا لا تدعيه لغة من لغات الأمم الحية؛ لأن الأمم كلما كثرت حاجاتها وتجددت اضطرت إلى المزيد من الألفاظ في اللغة، وهذا هو سر الحركة الدائمة في لغات الإفرنج، ترون مجامعهم في شغل دائم لا يأنفون أن يجدوا يومًا ما في لغتهم كلمة زائدة دلت على معنى جديد، وأكثر أحوالهم الاستعارة من غير لغتهم، وإذا كنا نرى عقولنا قد وقفت عن الاختراع، فإنا نرى أنفسنا في حاجة إلى استعمال المخترعات والتعبير عنها. نرى رجال الجرائد وهم الذين يرجع إليهم معظم الأمر في الإحياء والإماتة للألفاظ، قد عرض عليهم في بعض الأوقات كثير من الألفاظ، فهجروه واستمروا على استعمال ما وضعه الواضعون في جرائدهم، فلا يزالون يستعملون تلفون مع إنه قد ترجم لهم بكلمة (مسرة) ولم أرها في جريدة من الجرائد يومًا واحدًا ويستعملون أتومبيل ولا يستعملون سيارة؛ لئلا يختلط عليهم الأمران السيارات السماوية والسيارات الأرضية إلى كثير مما يماثل ذلك، وهذا اعتراف منهم أو على الأقل شعور بأن طريقة الترجمة والتوسع ضررها أكثر من نفعها وأن طريق التعريب أوضح مسلكًا. *** النتيجة بعد أن بيَّنت لحضراتكم ما قام في نفسي على لزوم السير في طريق التعريب أقدم لحضراتكم مقترحي حتى تتناولوه بالبحث ليتمحص الحق. (١) تكوين مجمع يعهد إليه التعريب، ينتظم ممن حيت فيه ملكة اللغة العربية ومهر في معرفة مفرداتها ولهجاتها، وإنما لزم وجود المجمع؛ لأنه لا ضرر علينا وعلى لغتنا أشد من استبداد الفرد بالوضع أو التعريب؛ إذ هو مدعاة للاختلاف وهو أضر شيء. (٢) أن يكون اختصاصه محصورًا في دائرة أسماء الأجناس والأعلام، فإذا جاءه مسمى حديث أو رأى شيئًا حديثًا مما هو موجود بيننا، ولم يسبق أن وضع له لفظ، ورأى أن في اللغة لفظًا دالاًّ عليه بنفسه أطلقه عليه وإلا عرب الكلمة الأعجمية وصيرها موافقة لأوزان العرب، سهلة على ألسنتهم، واتفق على حروفها وشكل كتابتها وأخرجها للناس بواسطة الجرائد التي هي الحاكمة حكم رجال عكاظ في العصر الأول، وهي الواسطة في التعليم والإظهار، والواسطة الثانية رجال التعليم الذين إليهم ينظر من عنده أمل في تحسين اللغة وإصلاحها وخصوصًا معلمي العربية منهم. (٣) أن يكون للمجمع سجل تقيد فيه هذه الكلمات وإزاءها مسمياتها موضحة تمام التوضيح، وأحسن ذلك ما كان بالرسم وتشكيل المسمى، ويكتب أمامها التاريخ الذي وضعت فيه، وإذا كتب قاموس من القواميس تكتب هذه الألفاظ بصفتها ملحقات للكلمات العربية ويكتب معها تاريخ تعريبها؛ لكي يبقى الأصل محفوظًا على حدة والمعرب وحده على حدة. هذا ما أمكنني أن أورده لحضراتكم أيها السادة في هذا الأمر العظيم؛ راجيًا أن تنظروا إليه بعين عنايتكم حتى تخلصونا من شر نحن فيه، وأنا وأنتم محسون به، ولا تجعلونا في هذا الدور من أدوار الحياة كالغريق يلتمس ما يخلصه ولا يجده. هذا، وأسأل الله سبحانه أن يؤيد بروح من عنده مولانا أمير البلاد وسيدها الذي هو عضد كل نهضة نافعة، أبقاه الله وأطال عمره والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمدرسة القضاء الشرعي
(المنار) نشرنا هذا الخطاب بنصه إلا كلمات قليلة صححناها؛ للجزم بأنها كتبت خطأ بسهو من الناسخ، ونحن نوافق صاحبه في جواز التعريب ونخالفه في منع ما عداه وفي جعل عمل المجمع اللغوي محصورًا في تعريب الأعلام وأسماء الأجناس، فإننا في حاجة عظيمة للبحث في الاصطلاحات العلمية الكثيرة أيضًا، فلابد من جعل موضوعه أعم مما ذكر كما علم ذلك من مقدمتنا التي قدمناها على الخطاب، ولا نبحث هنا فيما عدا الموضوع المقصود من الخطاب، ومنها إغفال ذكر توفيق باشا عند الكلام على النهضة الثانية للغة، فإن حظها منه لم يكن أقل من حظ النهضة الأولى من محمد علي باشا، والنهضة الثالثة من عباس حلمي باشا. إن عهد كل أمير من الأمراء الثلاثة استلزم عملاً، فكان العمل بقدر استعداد العاملين، ولبيان هذا موضع آخر، وقد فصلناه في تاريخ الأستاذ الإمام تفصيلاً. (ومنها) قوله في كلمات اللغة العربية: إنها تربو على الثمانين ألفا، وقوله بعد ذلك: إننا إذا طرحنا المترادف ما وجدنا معنا بعد ذلك أكثر من الثلث لهذا العدد وكأن القول الأول سبق إلى قلمه من قول بعضهم: إن مواد كتاب القاموس ستين ألف مادة، وإن ابن منظور زاد عليه في لسان العرب عشرين ألف مادة مع السهو عما في كل مادة من الأسماء الجامدة والمشتقة والأفعال. وقد نقل السيوطي في المزهر ونقل عنه الزبيدي في مقدمة شرح القاموس أن المستعمل من الكلام نحو خمسة ملايين ونصف أو يزيد. ولا حاجة هنا للخوض في ذلك، ولا في بحث المترادف ونسبته إلى سائر الكلام، ولا في غير ذلك مما يتعلق بهذا المقام، وسننقل في الجزء الآتي خطاب الشيخ أحمد عمر الإسكندري ونأتي بعده بما يعن لنا إن شاء الله تعالى.