(النبذة الثانية من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
قال: لما قضيت الخمسين من عمري سألت الحكماء الذين عرفتهم عن كوني الخاص وعن معنى حياتي. فكان الجواب أنني عبارة عن ذرات اجتمعت ببعضها وأن حياتي خلو من المعنى بل إنها رديئة. فداخلني اليأس من هذا الجواب وكاد يحملني على الانتحار ولكنني ذكرت حالتي في عهد الطفولية حينما كان الإيمان راسخًا في قلبي وكان للحياة معنى عندي، ثم نظرت فرأيت جمهور الناس حولي راضين بالإيمان ولم يبطرهم المال فيجرهم إلى الفساد؛ فلذلك يعيشون عيشة حقيقية مملوءة بالمعاني فكان بعد ذلك كله أنني بدأت أرتاب في الجواب الذي أوحت به إلي حكمتي وحكمة أمثالي وعاودت النظر كرّة أخرى عساني أدرك الجواب الذي تجيب به النصرانية أولئك القوم الذين كنت أراهم عائشين عيشة حقيقية. فطفقت حينئذٍ أدرس النصرانية كما كنت أراها في حياة الناس وشرعت في مقابلة هذه النصرانية المعمول بها على الأصول المنبعثة عنها. وهذه الأصول إنما هي الأناجيل، وقد وجدت فيها هذا المعنى الذي يسمح للناس أن يعيشوا عيشة حقيقية. ولكني رأيت فيما آلت إليه النصرانية في هذه الأيام كما يرى الناظر في الينبوع. رأيت ماءً صافيًا مشوبًا بالأكدار والأوحال، وهذه الشوائب هي التي حالت بيني وبين رؤية صفاء هذا الماء إلى الآن. رأيت حينئذ أنني خلطت بين سمو العقيدة النصرانية وبين العقيدة العبرانية والعقيدة الكنائسية وأن كلتا هاتين العقيدتين أجنبيتان عنها بل مخالفتان لها. فشعرت بما يجده الرجل الذي يعطونه كيسًا من التراب ولكنه بعد الكد والكدح والتعب والنصب يعثر فيه على بضع لآلئ تعلو قيمتها الوصف والتقدير، فمثل هذا الإنسان لا يرى أنه قد أذنب في نفوره من التراب وكذلك الذين جمعوا تلك اللآلي مع بقية ما حواه والكيس وحفظوه بما فيه من ثمين ومبتذل ليسوا أيضًا بمذنبين، بل يستحقون الإجلال في محل الإكرام والإجلال. ثم هو يتساءل بعد ذلك عما يجب عليه فعله بهذه الدراري الغالية التي وجدها مختلطة بالأوحال والرمال. وهذا لعمري موقف حرج. ولقد لبثت فيه إلى أن أدركت في أحد الأيام أن هذه الأحجار الكريمة لم تكن دائمًا مختلطة بما يشوبها من الأكدار وأنه يتسنى تخليصها منها وتمييزها عنها. لم يكن لي علم بماهية النور وكان يخطر ببالي أن هذه الحياة ليس فيها أدنى حقيقة على الإطلاق ولكنني لما أدركت أن النور وحده هو حياة الناس طفقت أبحث عن مطالع النور وقد عثرت عليها في الأناجيل بالرغم مما أدخلته الكنائس فيها من شوائب التوفيق والتطبيق. فلما وصلت إلى هذه المشارق التي ينبعث منها النور انبهرت من شدة ضيائها ثم وجدت فيها بعد ذلك الجواب السديد عن المسائل التي كانت تخالج فؤادي فيما يتعلق بمعنى حياتي وحياة سائر الناس، وقد ألفيت هذا الجواب مطابقًا من كل الوجوه للجواب الذي نالته الأمم الأخرى بل هو في نظري يزيد عليه زيادة عظيمة، ولقد كنت أبحث عن ماهية الحياة وعن حل مسألة لاهوتية أو تاريخية ولذلك لم يكن يعنيني العلم بالذي كتب الأناجيل ولا بوقت تسطيرها ولا بما إذا كانت هذه الأسطورة أو تلك الأمثولة صادرة عن المسيح نفسه أم لا. وإنما الأمر المهم عندي هو ذلك النور الذي أرسل شعاعه على الناس منذ ألف وثمان مئة عام والذي استضأت به ولا أزال أستضيء به أيضًا. أما الاسم الذي يليق بمطلع هذا النور والعناصر التي يتألف منها موجده، فكل هذه أمور لم يكن لها نصيب من عنايتي على الإطلاق. ثم أخذت أنظر إلى هذا النور وأراقب وأدرس كل ما يستضيء به، فكنت كلما تقدمت في هذا السبيل تتضح لي زيادة الفرق المتعاظم على التوالي بين الحق والكذب، وفي مبادئ عملي كان الشك لا يزال عالقًا بنفسي وكنت أحاول فنونًا من التأويلات الصناعية، ولكنني كلما واليت البحث كانت الحقيقة تتراءى لي في ثوبها الناصع الجميل. وكان مثلي حينئذ كمن يجمع قطع التمثال المتكسر، فإنه في أول الأمر يتشكك ويسائل نفسه: هل هذه القطعة مما يجب وضعه في الساق أو في الذراع؟ ولكنه متى تسنى له إعادة الساق تامة كاملة يتحقق أن تلك القطعة ليست من الساق في شيء ومتى وجد في الذراع نقصًا تنطبق عليه تلك القطعة تمام الانطباق فإنه لا يتردد لحظة واحدة في تعيين المكان الذي كان مخصصًا في أول الأمر لهذه القطعة من التمثال. فكنت كلما تقدمت في عملي يزداد هذا الشعور تمكنًا في نفسي. وإذا لم يكن الجنون قد استولى على عقلي فلا شك أن القارئ يجد في نفسه أيضًا مثل هذا الوجدان حينما يقرأ ترجمتي الكبيرة للأناجيل، فإن كل نظرية من نظرياتي مشفوعة بالدليل اللغوي وبمقارنة النصوص المختلفة ببعضها وبانطباقها تمام الانطباق على الفكرة الأساسية التي بني عليها تعليم المسيح. وربما ساغ لي الوقوف عند هذا الحد واختتام المقدمة بما أوردته إلى الآن إذا كانت الأناجيل من الكتب التي عثر عليها الباحثون حديثًا أو كانت التعاليم المسيحية لم تصادفها على الدوام من ألف وثمان مائة عام سلسلة متوالية من الأباطيل في التأويل. ولكي يفهم الناس في هذه الأيام حقيقة دين المسيح كما كان يدركها هو نفسه أرى من الواجب التنبيه على الأسباب الجوهرية التي أوجبت تلك التأويلات الفاسدة وتلك التصورات الكاذبة التي جرتها على أثرها. إن السبب الأصلي لهذه التأويلات الباطلة التي يصعب علينا معها اليوم العثور على حقيقة دين المسيح هو أن هذا الدين قد اختلط بمقالات وطقوس الفارسيانيين وبما جاء في العهد القديم من الآراء والمذاهب وكان ذلك منذ أيام بولس الذي لم يدرك قط حقيقة دين المسيح [١] والذي لم تخطر على باله أيضًا بصيغتها التي عرفها الناس بها من بعده على مقتضى إنجيل متى، فقد جرت العادة على اعتبار بولس كرسول الوثنيين وكالرسول القائم بالاحتجاج (البروتستانتي) ولقد كان كذلك في الواقع ونفس الأمر ولكن فيما يتعلق بالصيغ الخارجية فقط كالختان وغيره. بل هو الذي أدخل في النصرانية تعاليم اليهود وسننهم بضمّه العهد القديم إلى العهد الجديد وقد كانت هذه التعاليم المشوبة بسنن اليهود السبب الأساسي في تشويه العقيدة المسيحية وتأويلها على غير وجه الحق. فمن عصر بولس كان ابتداء ذلك التلمود المسيحي الذي هو اليوم عبارة عن تعاليم الكنيسة، ومن ذلك الوقت أصبح دين المسيح لا يعتبر واحدًا وكاملاً وإلهيًّا، بل مجرد حلقة من حلقات سلسلة الوحي العظيمة التي تبتدئ من يوم الخليقة وتمتد حتى تصل إلى الكنيسة في أيامنا هذه. وبنى على هذا التأويل الباطل تسمية المسيح بالإله ولكن الاعتراف بألوهية المسيح لا يلزم (كما يظهر) على تعليق أدنى أهمية على كلمته الإلهية أكثر من اهتمامه بكلمات التوراة والمزامير وأعمال الرسل ورسائلهم والرؤيا، بل بقرارات المجامع وكتابات الآباء [٢] . وهذا التأويل الباطل لا يسوغ مع تصور العقيدة المسيحية إلا إذا كانت موافقة لكل ما جاء به الوحي قبل المسيح وبعده بحيث يكون الغرض من هذا التأويل هو التوفيق بقدر الإمكان بين كتب مختلفة يناقض بعضها بعضًا مثل التوراة والمزامير والأناجيل والرسائل والأعمال وسائر الكتب المعتبرة مقدسة. ومن البديهي أنه إذا كان المبدأ بهذه الصفة لا يجوز لإنسان أن يطمع في إدراك تعليم المسيح كما ينبغي. وهذا المبدأ الفاسد هو الذي أوجب تعدد الآراء واختلافها الكثير في حقيقة معنى الأناجيل. إذ لا يخفى أنه يمكن حدوث عدد غير محدود من أمثال هذه التأويلات التي لا يقصد منها البحث عن الحقيقة، بل توفيق النقيضين اللذين لا يتفقان وهما العهد القديم والعهد الجديد. وفي الحقيقة أن هذه التفاسير لا تدخل تحت حصر ولأجل إظهار هذه التفاسير في مظهر يشابه الحقيقة اضطر أصحابها إلى الالتجاء إلى وسائل خارجية مثل الخوارق ونزول الروح القدس عليهم ونحو ذلك. وقد اجتهد كل واحد منهم - ولا يزال يجتهد - في التوفيق على ما يراه ثم ترى كلاً منهم يدعي بأن توفيقه هو آخر وحي صادر عن الروح القدس. مثال ذلك ما جاء في رسائل بولس وفي قرارات المجامع التي تبتدئ بهذه العبارة: (قد وافقنا ووافق الروح القدس) ومثال ذلك أيضًا الأوامر الصادرة عن الباباوات وعن المجامع المقدسة للأرثوذكسيين والبولسيين وكل هؤلاء المفسرين الكاذبين في دعوى بيان فكر المسيح. فكلهم يلتجئون إلى هذه الرسائل الشاذة المستنكرة لتأييد صحة ما يذهبون إليه من التوفيق، فهم يجزمون بأن هذا التوفيق ليس من نتائج أفكارهم الشخصية وإنما هو شهادة صادرة عن الروح القدس مباشرة. ولسنا نحاول البحث والتنقيب في هذه الديانات المتنوعة التي يزعم أصحاب كل واحدة منها أنها هي الحق دون سواها ولكننا نقول بأننا نرى مع ذلك أنها كلها تبتدئ بتقديس الكتب الكثيرة التي تضمنها العهد القديم والعهد الجديد وأنها توجب بنفسها على نفسها حدوث عقبة لا تزول في فهم الدين المسيحي الحقيقي ويترتب على ذلك حتمًا تعدد الشيع المتناقضة تعددًا لا يدخل تحت حصر. ولكن هذا التعدد الذي لا يتناهى إنما نشأ عن التزام القوم التوفيق بين عدد عظيم من آثار الوحي المتعدد فإن تفسير مذهب الشخص الواحد الذي يعتبرونه كإله لا يمكن أن يستوجب اختلاف النِّحل والشيع مطلقًا إذ لا يصح القول بتفسير التعليم الذي جاء به إله قد نزل على الأرض ويكون هذا التفسير بطرق مختلفة. فإذا كان الله نزل على الأرض لإظهار الحق للناس فأقل ما كان يصنعه أنه يبين لهم هذا الحق بطريقة يفهمها الجميع بلا التباس ولا اشتباه، فإذا لم يكن قد صنع هذا فذلك دليل على أنه لم يكن إلهًا!!! وإذا كانت الحقائق الربانية هي بحيث لم يقدر الإله نفسه على إبرازها في صورة يدركها الناس، فمن الطبيعي أن الناس لا يتمكنون أيضًا من الوصول إلى هذا الغرض. ومن جهة أخرى نقول: إذا كان المسيح ليس هو الله وإنما هو من عظماء الرجال ونوابغهم فإن تعليمه لا يترتب عليه أيضًا كثرة الشيع المتناقضة؛ لأن مذهب الرجل العظيم لا يكون عظيمًا إلا لكونه أوضح بصفة صريحة واضحة ما قاله غيره بطريقة مبهمة بعيدة عن الإدراك. وكل ما كان غير مفهوم في خطاب الرجل العظيم لا يمكن أن يكون عظيمًا فإن مذهب الرجل العظيم ينبغي أن يجمع الناس كلهم على حقيقة واحدة يشتركون فيها على السواء وإنما التأويل الذي يزعم صاحبه أنه صادر عن وحي من الروح القدس وأن فيه الحق وحده - هو الذي يثير البغضاء في النفوس ويوجب اختلاف الشيع والمذاهب ولا عبرة بما يقوله أصحاب بعض المذاهب من أنهم لا يحكمون بالضلال على من يخالفهم وأنهم لا يودون لهم السوء وليس في أنفسهم حفيظة عليهم، فإن ذلك مما لا يمكن أن يكون له نصيب من الحقيقة. فمنذ عهد آريوس لم يوجد مذهب واحد ولدته غير الرغبة في معارضة المذهب الذي يناقضه! وأقصى درجات الغرور والجنون أن يقال بأن هذه العقيدة هي صادرة عن الوحي ومقتبسة من الروح القدس ومن منتهى الغرور أن يقول الإنسان بأن ما يصدر عنه من الآراء إنما هو من قول الله نفسه على لسانه. ولا أرى أكذب من ذلك الذي يجيب مثل هذا الإنسان بقوله: (كلا، إن الله لم يتكلم بلسانك، بل بلساني وإنه يقول ما يناقض ما نسبته إليه على خط مستقيم) وهذه لعمري طريقة المجامع كلها والكنائس بلا استثناء والشيع على اختلاف مقالاتها وآرائها، وهذا هو الذي أوجب ويوجب الشرور في العالم باسم الدين، هذا هو العيب الخارجي العظيم، والشيع كلها تتألم من عيب آخر داخلي. يمنعها أن تكون لها صبغة واضحة مضمونة معينة. وهذا العيب يتولد من قيام هذه الشيع بإثبات تأويلاتها الفاسدة والقول بأنها منتهى ما جاء به الوحي عن الروح القدس وهي مع ذلك لا تُعنَى ببيان جوهر هذا الوحي ولا معناه بطريقة صريحة حاسمة لكل جدال مع أنها تدعي بأنها تلقته عن الروح القدس وأنها متممة لهذا الروح وهي تسمي هذه التأويلات بالدين المسيحي. فالمؤمنون الذين يسلمون بصدور الوحي عن الروح القدس إنما يسلمون في الحقيقة ونفس الأمر بثلاث جهات للوحي، ومثلهم في ذلك مثل المسلمين؛ فإنهم يعتقدون بالوحي إلى موسى وعيسى ومحمد. والمؤمنون من المسيحيين يعتقدون بالوحي إلى موسى والمسيح والروح القدس. ولكن الديانة الإسلامية تقول بأن محمدًا هو آخر الأنبياء وأنه وحده قد فسر بطريقة نهائية الوحي الذي جاء به موسى وعيسي وقد توَّجهما بإضافة الوحي الذي تلقاه. أما حالة الكنائس المسيحية فهي على نقيض ذلك بالمرة، فإنها بدلاً من أن تسمي دينها باسم الوحي الأخير الصادر لها أعني (دين الروح القدس) فإنها تقول وتؤكد بأن دينها هو دين المسيح وأنه مبني على تعليم المسيح بحيث إنها في الحقيقة ونفس الأمر تقدم لنا تعاليمها الخاصة بها وتزعم أنها تؤيدها باسم المسيح وبشهادته! (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))