للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إلى علماء الإسلام الأعلام [*]

(في الآستانة وسائر الولايات العثمانية ومصر وتونس والمغرب والنجف
وفارس والقوقاس وقزان والهند وسائر البلاد الشرقية) .
كنتم وكانت الأُمة الإسلامية بكم خير أُمة أخرجت للناس؛ تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر، فيخضع لكم الملوك والأمراء، وتهتدي بكم الدهماء، كنتم فبِنْتم
أو كدتم، وبعدتم عن الأمة وبعدت الأمة عنكم، فسرى الإلحاد إلى خواصها؛ لأنكم
لستم أنتم الذين تتولَّوْن تعليمهم، واستشرى الفسق والفساد في عوامّها؛ لأنكم تركتم
وعظهم وإرشادهم، فأنتم مسئولون في الدنيا والآخرة عن أُمة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم، فبما تجيبون، وماذا تقولون؟
إذا أضعتم الأُمة أضعتم أنفسكم، ولا تغرنكم هذه البقية الضئيلة من احترام
الحكام لكم، واعلموا أن كل ما لكم الآن من بقايا الشرف والرزق يكون حينئذ على
شرف الزوال، وإن منكم من حمله الشعور بذلك على تعليم أولاده في مدارس
الحكومة أو مدارس الجمعيات النصرانية؛ ليكون آمنًا مطمئنًّا على رزقهم وكرامتهم
في مستقبل أيامهم، وإن أحدكم ليصوم وأولاده في الدار مفطرون، ويصلي وهم لا
يصلون ولا يتطهرون، أرضيتم لكم ولهم بالحياة الدنيا من الآخرة، أم تزعمون أنكم
قمتم بما يجب عليكم في هذه التربية الخاسرة.
إنكم حُرِمْتم في بعض البلاد من جميع أعمال الحكومة إلا القضاء في بعض
الأمور الشخصية، ولَلقاضي منكم بالشريعة الأحمدية أقلُّ قيمة وراتبًا من القاضي
بالقوانين الوضعية، وحرمتم في بعض البلاد من أكثرها، وستُحرَمُون فيها إذا بقيتم
على حالكم من باقيها، بل سُلبتم ما هو خير من ذلك؛ وهو التعليم العام في مدارس
الحكومة ومدارس الأمة، فلم يبق لكم إلا قليل منها في بعض البلاد التي للتعليم
الديني فيها بقية رسمية؛ هي كالعضو الأَثري الذي لا عمل له ولا تأثير في
المصلحة العامة.
ما ظلمكم أحد ولكنكم ظلمتم أنفسكم أولاً؛ فأَغْرَيْتم الناس بأن يظلموكم، فإن
كانوا لما يفعلوا في بعض البلاد فسيفعلون وسيفعلون، وإن كانوا قد فعلوا فما فعلوا
لا يذكر في جنب ما سيفعلون، وفي أيديكم الآن أن تمنعوا أنفسكم، وتحفظوا
كرامتكم، وتَستحْيوا الزعامة الروحية الاجتماعية لكم في أمتكم، وإن لكم الآن في
عهد حكم الشورى في الدولتين العثمانية والفارسية لَفرصة إن اغتنمتموها كانت
القاضية لكم، وإلا فهي القاضية عليكم، وعلى الأمانة التي في أيديكم، فكونوا ركن
هذا الحكم الركين، وحصنه الحصين، تستعيدوا في ظله مجدكم ومجد ملتكم وأمتكم.
ظلمتم أنفسكم أنكم لم تنظروا فيما تجدَّد للأمة والدولة من الحاجات في هذا
العصر، وما ساقتها الضرورة إلى اقتباسه من العلوم والفنون، وما يجب عليكم من
حفظ مرتبة التعليم والتربية لأنفسكم، فإنكم لو نظرتم في ذلك لسارعتم إلى تعلم
جميع العلوم والفنون التي لا بد للأمة والدولة منها؛ لتحفظ نفسها في هذا العصر،
ثم لاحتكرتم تعليمها إياه مع التربية الدينية التي تحفظ عليها آدابها وأموالها وصحتها
وجامعتها الملية، إنكم لم تفعلوا ذلك، ولو فعلتموه لكان خيرًا لكم ولأمتكم ودولتكم،
ولماذا لم تفعلوا؟
رأيت منكم من يعتذر عن إهمال العلماء لمثل هذا الأمر الجليل؛ باستبداد
الحكام، ورأيت منكم من يعتذر بجهالة العوام، وعدم معرفتهم لقيمة العلماء الأعلام
ورأيت منكم من يدعي أن العلماء لم يقصروا في شيء؛ وأنهم قائمون بما يجب
عليهم، ولكن الزمان قد فسد خلافًا لقول الشاعر:
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
ورأيت منكم الحائر الذي لا يدري كيف يعتذر، ورأيت وسمعت ما لا يتسع هذا
المقال لشرحه، وإني أذكر السبب الذي أراه أبًا لجميع الأسباب، والعلة التي أراها
هي أم جميع العلل.
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم، ولا وقع فساد في أمتكم أو
حكوماتكم، إلا وسببه تفرقكم واختلافكم، وعلته تخاذلكم وشقاقكم، وما شدد دينكم
في شيء كما شدد في حظر التفرق والخلاف، ولا أكد شيئًا كتأكيده وجوب الاجتماع
والاتفاق، فإن كان الشيطان قد سوّل لكثير من المختلفين منا أن في الخلاف قوام
عصبيتهم، وحفظ رياستهم، فقد آن لعقلائنا اليوم أن يعلموا أن هذا التفرق سينتهي
بالانقراض والزوال، إذا لم نتداركه بالاعتصام والالتئام، فاعتصموا بحبل الله
جميعًا ولا تفرقوا، وكونوا أنتم الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى
عن المنكر، وأعدوا أنفسكم لزعامة هذه الأمة بحق، واهدوها إلى مصالح الدين
والدنيا بالحكمة والرفق، كما هو شأن الإسلام في الجمع بين مصالح الدارين.
ألم تروا أن أهل الملل الذين لم يُؤمروا بمثل ما أمرتم به من الاجتماع
والتعاون، ولم يُنهوا مثلما نُهِيتم عن التخاذل والتباين، قد ألفوا جمعيات دينية،
تضاهي ثروتها ثروة الدولة الغنية، فجعلوا أزمة التربية والتعليم في أيديهم،
فحفظوا جامعة دينهم في أقوامهم، ثم جذبوا إليه كثيرًا من أهل الأديان الأخرى حتى
في غير بلادهم، ألستم أًوْلى منهم باحتكار تعليم أبناء دينكم، وبتعميم الدعوة إليه في
غير قومكم، فما لكم لا تنشطون إلى ما فيه عزكم وشرفكم، وفي تركه ذلكم
وضِعَتكم، حماكم الله تعالى ووقاكم.
يخطر في بال ضعفاء العزيمة منكم أن المسلمين لا يبذلون من المال للجمعيات
الدينية مثل ما يبذله النصارى في الغرب والوثنيون في الهند، وهذا خطأ عظيم سببه
عدم التجربة، فلو أنشأتم جمعية إسلامية وأريتم الناس ثمرتها، وأقنعتموهم بفائدتها
وجئتموهم في ذلك من أبواب مصالحهم، وأشرفتم عليهم من يفاع منافعهم،
لرأيتم أنهم أسبق من غيرهم إلى الخير والتعاون على عمل البر، فما المسلمون
الحاضرون، إلا سلائل أولئك السلف الصالحين؛ الذين وقفوا تلك الأوقاف الكثيرة
على المدارس والملاجئ والمستشفيات، وجميع ما كان يخطر في البال من أنواع
البر والإحسان، حتى إن بعضهم وقف على الكلاب، وبعضهم وقف على ضمان
المتلفات والضائعات، إلخ.
هذا، وإن لكم من الأوقاف الخيرية التي ضبطتها الحكومة كنزًا عظيمًا، وإن
في أيديكم رفع يدها عنها، وجعل إدارتها إليكم بمساعدة مجلس الأمة، فإن أوقاف
جميع الملل في تصرف رجال الدين، فهل تبقى حقوق المسلمين مسلوبة في عصر
الشورى كما كانت في عصور الاستبداد، إننا إذًا لنحن المغبونون، وإنا إذًا لنحن
الخاسرون، كلا إن لنا في نجدتكم أيها العلماء ما يجعلنا أسعد الناس في هذا العصر
وآمنهم في بلادنا من الغبن والخسر.
سارعوا إلى تأليف الجمعيات في كل قطر، ولتكن جمعياتكم متعارفة متآلفة لا
يصدنكم عن ذلك اختلاف المذاهب ولا اختلاف الألسنة ولا اختلاف الحكومات، ولا
وجود بعض المنافقين فيكم؛ الذين يُوضِعون خلالكم يَبْغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون
لهم، فيد الله على الجماعة فاجتمعوا، والاتحاد قوة فاتحدوا، واجعلوا أساس
الارتباط والاعتصام بينكم الأصول المتفق عليها والتسامح (والتعاذر) في مسائل
الخلاف، وقد فَتَح لكم هذا الباب المبارك إخوانكم علماء الهند؛ بتأسيس جمعية ندوة
العلماء، وساعدتهم الحكومة الإنكليزية على عملهم؛ ومنه التأليف بين أهل المذاهب
الإسلامية وتخريج الدعاة إلى الإسلام، فهل يليق بكم أن تنكلوا في ظل الحكومة
الإسلامية، عن مثل ما فعله إخوانكم في ظل الحكومة الإنكليزية.
يجب أن تستعينوا على خدمة مِلتكم وأمتكم في دولتي الإسلام- العثمانية
والإيرانية - بالنواب المبعوثين، وإن لكم في الاجتماع قوة لا يردّ معها طلب عادل
ولا يخيب معها قصد نافع، بل يجب أن تجتهدوا في جعل المبعوثين في الانتخاب
الآتي منكم، وممن يساعدكم على خدمة ملتكم، وإن الحكومة النيابية لا تكون
إسلامية حقيقية إلا إذا كانت الغلبة في مجلسها النيابي لعلماء الإسلام؛ أعني العارفين
بسياسته العالية، وعدالته العامة، ومساواته بين الناس في الحقوق، وإعلائه لشأن
الاجتماع، ومحافظته على الفضائل والآداب، وتحقيق هذه المقاصد كلها سهل عليكم
في هذه الحكومة، فاحْمَدوا الله أن أنقذكم من الاستبداد، وجعل الدولة للأمة التي أنتم
زعماؤها، واشكروا له ذلك بالقيام بحقوق هذه الزعامة لعلكم تفلحون.