رسالة للعلامة الفهامة مولوي عبد الرحمن صاحب سيستاني الهندي أحد تلامذة بحر العلوم مولانا محمد لطف الرحمن صاحب بروداني
حرر بها مؤلفها القول في (حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاعة) وبيَّن غلط الفقهاء فيها، وقد أرسلها لنا العلامة محمد لطف الرحمن، وعهد إلينا بنشرها في المنار (كي تشتهر في الأمصار اشتهار الشمس في رابعة النهار) فإجابة لطلبه ننشرها كما هي، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم) نحمده ونصلي على رسوله الكريم. اعلم أنه قد مضت الدهور وانقضت الشهور، وطالت المناظرة وشاعت المكابرة وظهرت المشافهة وزهرت المسافهة، وحبطت الأعمال وخبطت الأقوال في حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاعة، وهما شر البضاعة، فنحن نبين دليلاً كافيًا، وبرهانًا شافيًا، بلطف الرحمن، وفضل المنان. فاعلم أن الأصل في باب الحرمة الرضاعية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) معناه: أن الأفراد التي تحرم من النسب تلك الأفراد بعينها من الرضاعة أيضًا، ولا يخفى عليك أن ما يحرم من النسب هو ما تعلق به خطاب التحريم بقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} (النساء: ٢٣) فلو فرضنا أن زيدًا مثلاً ارتضع من هندة، وولد هندة المرضعة لم يرتضع من امرأة، فتحرم من رضاع زيد - بحكم الحديث - الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، فتكون المرضعة وما فوقها مصداق الأمهات للرضيع، وفروعه مصداق البنات للمرضعة وزوجها، وبناتها وأخواتها وأخوات زوجها وبنات أبنائها وبنات بناتها يكن مصاديق الأخوات والخالات والعمات، وبنات الأخ وبنات الأخت له. فهذه المجموعات السبع تحرم من رضاع زيد الرضيع، كما تحرم تلك المجموعات بعينها في النسب. وأما حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة فغير ثابتة من الحديث. فإن قلت: معنى الحديث أن كل من يحرم من النسب يحرم من الرضاع، ومما يحرم من النسب هو بنت الأخ، ولا شك أن بنت الرضيع بنت الأخ لولد المرضعة فتحرم عليه. قلت: ويحك هذا الذي أوقعك في ورطة الظلماء، إذ هذا المعنى باطل من وجهين: أما أولاً: فلأنه يلزم من هذا ثبوت حرمة مجموع الأفراد السبع من رضاع الرضيع وزيادة حرمة فرد، وهي حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة، وهو باطل إذ النص الشريف أعني قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} (النساء: ٢٣) الآية، ينادي بأعلى نداء أنه من نسب كل واحد ثبتت حرمة هذه المحرمات السبع بلا زيادة، وكذلك في الرضاع بمقتضى الحديث، وأيضًا الصورة المزعومة غير متحققة في النسب الذي قيس الرضاع عليه، فلم يكن القياس صحيحًا وبطل مقتضى الحديث وهو محال. أما ثانيًا: فلأنه ماذا أراد بقوله هذا؟ إما أراد أن تحرم في النسب بنات الأخ فقط، فكذا في الرضاع، أو أراد أنه تحرم فيه العمات والخالات وبنات الأخ وغيرهن، فتحرم بنات الأخ في الرضاع. والأول باطل؛ إذ يستحيل في النسب أن تحرم بنات الأخ وفقط، كما لا يخفى، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى. والثاني أيضًا باطل من وجهين: أما الأول: فلأنه كما تحرم في النسب بنات الأخ كذلك تحريم فيه العمات والخالات أيضًا، فيلزم أن تحرم على ولد المرضعة العمات والخالات من الرضاع. وأما الثاني: فلانه مستحيل بهذه المقدمات المسلمات: (الأولى) : أن الله بين الآية الكريمة، أعني قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (النساء: ٢٣) الآية بالواو العاطفة وهي للجمع، فإن قلت: يجوز أن تكون الواو بمعنى (أو) التي هي أداة الانفصال. قلت: أف لك، هذا الاحتمال مع كونه ههنا من المحالات يقطع دابر القوم الذين ظلموا بقولهم من حرمة بنت الرضيع فقط على ولد المرضعة إذ لفظة (أو) وضعت لأحد الأمرين في أصل الوضع، فمقتضاها: ثبوت حرمة إحدى المحرمات، لا على التعيين لكل واحد واحد، فمع كونه صريح الاستحالة يقدح ما يرومه الرائمون بقولهم من جهة مجموع الأفراد السبع من رضاع الرضيع مع زيادة حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة، إذ بنوته محال من النص، سواء كانت الواو بمعناها أو بمعنى لفظة (أو) . (والثانية) : أن العلة المحرمة في المحرمات السبع واحدة تامة. (والثالثة) : أنه لو كانت لعدة معلولات علة واحدة تامة للزم أنه إذا وجدت إحدى المعلولات وجدت العلة التامة ووجدت المعلولات الأخر ألبتة. (الرابعة) : أن الآية الكريمة موجبة لحرمة مجموع الأفراد السبع باقتضاء تلك الواو العاطفة التي تقدم ذكرها في المقدمة الأولى. (الخامسة) : أن حرمة بنت الأخ في النسب ثابتة بقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النساء: ٢٣) الآية، فمن كان محكومًا عليه فيه بحرمة بنات الأخ يجب دخوله تحت خطاب قوله: (وبنات الأخ) في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النساء: ٢٣) الآية، وإلا لم يكن ثبوتها من الله، وهو كما ترى. (السادسة) : أنه لو دخل أحد في النسب تحت خطاب قوله {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: ٢٣) لاستحال أن لا تتحقق المحرمات الباقية (أي: الأمهات والعمات والخالات وغيرهن) وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة الرابعة، وأيضا من المقدمة الثانية والثالثة. (السابعة) : أنه من كان داخلاً تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: ٢٣) في النسب يستلزم دخوله فيه تحقق المحرمات الباقية وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة السادسة. (الثامنة) : أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة) يبين ببيان شافٍ أن وزان الرضاع وزان النسب بعينه، وأن المحرمات من الرضاع محرمات من الله قطعًا. (التاسعة) : أن العلة المحرمة في المحرمات السبع من الرضاع أيضًا واحدة تامة. (العاشرة) : أنه من كان محكومًا عليه بحرمة بنات الأخ من الرضاع وجب دخوله تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: ٢٣) بحكم المقدمة الثامنة، وأيضًا منها ومن الخامسة. (الحادية عشرة) : أنه من كان داخلاً تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: ٢٣) في الرضاع يستلزم دخوله فيه تحقق المحرمات الباقية وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة الثامنة، وأيضًا منها ومن السابعة بانضمام التاسعة. فإذا تمهدت هذه المقدمات المسلَّمات نقول: إنه لو حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاع يجب دخوله تحت خطاب قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: ٢٣) بحكم المقدمة العاشرة، ودخوله فيه يستلزم تحقيق الحرمات الباقية أي العمات والخالات وغيرهن من الرضاع بحكم المقدمة الحادية عشرة، وهو محال، إذ حينئذ مصداق العمات والخالات الرضاعية لولد المرضعة، إما العمات والخالات النسبية للرضيع أو لغيره، والأول ظاهر لاتحاد العلة المحرمة فيهن، وهو باطل إذ لم تثبت من الدليل الشرعي حرمتهن على ولد المرضعة، وكونهن عماته وخالاته، فحرمتهن محال. والثاني أيضًا باطل من وجهين: أما أولاً: فلأنه يماثل قول ذي جنة: إذ استلزم حرمة بنت خالد مثلاً لحرمة عمات بكر وخالاته محال جدًّا لعدم القدر المشترك بينهن. وأما ثانيًا: فلأن العمات والخالات الرضاعية ليست بثابتة له وجودًا أو صلوحًا فيما نحن فيه، أي فيما إذا صدر فعل الرضاع من الرضيع، ولم يتحقق الرضاع من ولد المرضعة فحرمتهن محال. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))