للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسئلة والأجوبة الدينية

(١) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل المحاورة بين
المصلح والمقلد حقيقية أم خيالية؟ فإن كانت خيالية هل يوضع الخيال موضع
اليقين في أمر من أمور الدين؟ وإن كانت حقيقية فمن المقلد ومن المجتهد ولما
يخفيان أنفسهما؟ وهل جُمِعَتْ في هذا المجتهد شروط الاجتهاد من الإسلام والعدالة
... إلخ؟
(ج) ليراجع السائل جواب السؤال في الصفحة ٦٨ من الجزء الثاني من
منار هذه السنة، فقد بيَّنا فيه أن من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد
كأساتذة المدارس، ومنهم من يخفي اسمه إذا كتب ليعلم الناس الحكم على القول
بذاته، ومعرفة الحق بنفسه دون قائله كما هو الواجب، ومنهم من يكتم اسمه لغير
ذلك ولا يتوقف عن قبول مثل هذا إلا من لا يستطيع فهم الحق بنفسه؛ وإنما هو
مفطور على التقليد بغير بصيرة، وليس المقصود من المحاورة حمل الناس على
العمل بقول أحد المتناظرين؛ وإنما المقصود بها فتح باب معرفة الحق بدليله لمن
هو أهل لذلك، هذا ما نجيب به على فرض أن المحاورة واقعة فعلاً، وإذا كانت
المحاورة غير واقعة، بل مفروضة، فأي حرج في بسط المسائل الدينية والعلمية
وشرحها بأسلوب السؤال والجواب والرد والاعتراض وهو أسهل الأساليب وأنفعها؟
ومن يتوهم أن هذا يحوِّل المسائل اليقينية إلى تصورات خيالية والبرهان هو
العمدة فيها؟ مثل هذا الوضع معهود من أكابر العلماء الذين يقلدهم السائل، ويقلد
من دونهم؛ ولكنه ذهل عن ذلك فكتاب (القسطاس المستقيم) للإمام الغزالي هو
بهذا الأسلوب، وكذلك مقامات الحريري وفيها ما لا يُحصى من أحكام الدين في
الفقه والآداب والمواعظ، وقد علم رحمه الله تعالى أن سيعترض عليه فقال في
خطبة المقامات:
(على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي،
لا أكاد أخلص من غُمْرٍ جاهل، أو ذي غِمر متجاهل، يضع مني لهذا الوضع،
ويندد بأنه من مناهي الشرع، إلى أن قال: فأيُّ حرج على من أنشأ ملحًا للتنبيه،
لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من
انتدب لتعليم، وهدى إلى صراط مستقيم) ... إلخ.
وأما ما ذكره من شروط الاجتهاد التي وضعها المقلدون، فسيرى البحث فيها
في المحاورات إن شاء الله تعالى، وحسبه أن يعلم هنا أن إيراد المسائل بصورة
المناظرة لا يجعل اليقين خيالاً، وأنه لا حرج فيه، بل فيه أجر إحسان العمل
وتقريب العلم من الأفهام وهذه هي شبهته من تصوره أن المحاورة غير واقعة.
***
(٢) ومنه: هل يجوز لغير المجتهد أن يقلد المجتهد في معرفة الأحكام
الشرعية العملية من مذهبه؟ ... إلخ.
(ج) ذكرنا من قبل أن التقليد هو الأخذ برأي أحد من غير معرفة دليله،
فلا معنى للتقليد في المعرفة إلا أن يريد بالتقليد السير على طريقة المجتهد التي بنى
عليها مذهبه في الاستدلال والاستنباط، كما فعل أصحاب الإمام أبي حنيفة مثلاً،
ولا شك أن هذا جائز؛ لأنه تعلُّم وليس هو بتقليد، فسقط قوله في تتمة السؤال أن
الإمام أبا يوسف لم يدَّع مرتبة الاجتهاد المطلق، ولو لم يدعها لم يكن إمامًا يقتدى
به، إذ لا يقول أحد بتقليد المقلد، وقوله إن الوقت خلا عن المجتهد المطلق دعوى
لا دليل عليها، فهل عرف هو جميع المسلمين، وهم يعدون بمئات الملايين وتحقق
أن كل واحد منهم مقلد، وترون أجوبة بقية الأسئلة التي في ضمن هذا السؤال في
المحاورات؛ لأنها وفَّت هذا الموضوع حقه، والمعهود في الأسئلة والأجوبة التي
تنشر في الجرائد الاختصار، والملل والسآمة يتولدان من التكرار.
***
(٣) ما هي طريق الصوفية؟ ومن أهلها؟ وما أصولها وأركانها وشروطها
وآدابها وما حجتها على بحثها؟ وإذا جوَّزنا أن العهد الذي يتناقله أهل هذه الطريق
سلفًا وخلفًا لم يثبت بدليل صحيح، وأن حديث شداد بن أوس عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن أصحابه جماعة
وفرادى العهد الذي يتناقله القوم - لم يثبت عند حضرته، فكيف انخدع به أمثال
رجال الرسالة القشيرية، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده كما ذكر المنار
نفسه في العدد الثامن من المجلد الثالث.
(ج) يراجع السائل العدد السابع والثلاثين من مجلد المنار الأول فإن فيه
مقالة طويلة في التصوف والصوفية، وكيف كانوا وكيف صاروا وفيها نقل عن
الرسالة القشيرية، وأما حديث شداد بن أوس فهو في تلقين كلمة التوحيد
وليست مختصة بالصوفية؛ وإنما هي عامة لكل مؤمن بالله ورسوله ولا حاجة في
إثبات تلقين كلمة التوحيد إلى تصحيح خبر شداد، أليس من التدليس - ولا أزيد
على هذا - أن يستدل على ما يتناقله أهل الطريق مما هو مختص بهم بحديث تلقين
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلمة لا إله إلا الله لأصحابه؟ إن كانت هذه الكلمة
هي التصوف كله فكل المسلمين صوفية، وإن كان كل معناها كما يفهم الكثيرون أن
الذي خلق الخلق واحد لا شريك له في الإيجاد، فالناس كلهم صوفية أيضًا إلا أفراد
لا اعتداد بهم لقلتهم، كلا إن هذا اللقب كان يُطلق في عهد رجال الرسالة القشيرية
على الذين أخذوا بالعزائم، واتبعوا سيرة السلف الصالح في الدين، وتجنبوا البدع
التي حدثت بعدهم.
ثم ظهرت في الملة طوائف تفننت في البدع ما شاءت، وانحرفت عن صراط
السلف، وانتحلت كل طائفة منها اسم التصوف، وانتسبوا إلى أولئك الأئمة
المهديين بالقول، وخالفوهم في العلم والعمل والأخلاق والآداب، وإن أردت أن
تعرف بدعهم وضلالاتهم فعليك بكتاب المدخل لابن الحاج لا سيما أواخر الجزء
الثاني منه، وكذلك الإحياء والاعتصام، وقد بيَّن المنار بعضها وسيبين باقيها
بالتدريج إن شاء الله تعالى (راجع باب البدع والخرافات) .
أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فلم يسلك طريق التصوف انخداعًا بحديث شداد
ولا اهتداء به؛ وإنما قيض الله تعالى له رجلاً من أكابر الصالحين في أوائل توجهه
إلى طلب العلم، فكلَّفه في أوقات الفراغ أن يقرأ له رسائل كانت عنده من شيخه
ومربيه، فلما قرأ له عدة رسائل تأثر من هذه الرسائل لما فيها من تشديد النكير
على المعرضين عن هدي الدين، فانشرح صدره لأن يكون ممن تسميهم هذه
الرسائل (الإخوان) وسأل ذلك الصالح عن طريقهم فقال له هو الإسلام، فقال له
أليس سائر هؤلاء الناس على الإسلام أيضًا فما هو امتياز إخوانكم إذن؟ فأجابه
الصالح أن الإسلام ينهى عن الكذب وهؤلاء الناس يكذبون وإخواننا لا يكذبون،
والإسلام يأمر بالأمانة وهؤلاء الناس قد فشت فيهم الخيانة وإخواننا لا يخونون،
وهكذا صار يذكر له ما ينهى الإسلام عنه وما يأمر به ويذكر أدلة ذلك وأن إخوانهم
ممتثلين له، فقال له ماذا أعمل لأكون مثل إخوانكم فأمره بثلاثة أشياء: (أحدها)
أن يقرأ كل يوم جملة من القرآن مطالبًا نفسه بفهمها، وأن يراجعه فيما لا يفهمه
و (ثانيها) أن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ مع حضور القلب بغير تقييد بعدد
و (ثالثها) أن يتعلم كل علم أمكنه أن يتعلمه، وهكذا كان هذا هو التصوف الذي
يعنيه السائل، فهذا ما ندعو إليه ونسأل الله تعالى أن يوفق جميع المسلمين له.
وسيأتي الجواب عن بقية الأسئلة إن شاء الله تعالى، ونعتذر إلى السائلين
الآخرين بتقديم هذه الأسئلة على أسئلتهم التي طال عليها الزمن بإلحاح هذا السائل،
حتى أنه لم يكتف بما كتبه إلينا حتى نشر بعضه في مجلة الموسوعات الغراء، نعم
إنه عهد إلينا بعد ذلك بأن لا نجيب عن أسئلته التي نراها في الجرائد؛ ولكن ما
يُنشر لا بد أن يجاب عنه؛ لأنه تعلق به حق سائر القارئين.