اتفقت الآراء على أن هذا المشروع الذي جاء به صاحب الدولة محمد محمود سليمان باشا هو أمثل من كل مشروع رضيت به الدولة البريطانية من قبل، واتفقت أيضًا على أنه ليس بالاستقلال التام المطلق الذي ينشده الشعب المصري، وكثر المؤيدون له في الصحف والمجالس من أفراد الشعب على اختلاف مشاربهم ومشاهدهم في السياسة، وقل الناقدون له منهم. وأما الأحزاب فاختلفت أقوالها فيه: قَبِلَه الحزب الحر الدستوري بالطبع، لا لأنه يعده ثمرة لمفاوضة رئيس هذا الحزب للدولة البريطانية فقط، بل لأن سياسة هذا الحزب مبنية على أساس الاتفاق مع هذه الدولة والقناعة منها باستقلال إداري واسع النطاق بقدر الإمكان، وما زال كبار رجاله موضع ثقة رجالها منذ أُسس إلى هذا اليوم. قَبِلَه الحر الدستوري بِعُجَرِهِ وَبُجَرِهِ، ووعد الحزب الوطني ببيان ما ينطوي عليه من المضار والخطر، وقرر حزب الاتحاد أنه صالح لأن يكون قاعدة لوضع معاهدة بين الدولتين، وكثير من الأفراد المنكرين يقول بذلك بشرط أن يبين في المعاهدة ما فيه من إجمال، ويفسر ما أودعه من إبهام، ويقيد بعض ما تضمنه من إطلاق، ووجوب تضمن صيغة المعاهدة لهذه الثلاث هو الذي أعقله وأراه. وأما الوفد أو الحزب السعدي الذي يمثل سواد الشعب الأعظم فأمسك عن بيان رأيه فيه، وقال: إن الحق في الحكم فيه للبرلمان المصري الذي يمثل الشعب التمثيل الصحيح الذي قرره قانونه الأساسي، فهنالك تحت قبة البرلمان نبين رأينا فيه، فتبارت أقلام حزب الوزارة وأقلام أشياعها في الطعن على الوفد وزعمائه، وعاد السباب والقذف بأفحش الشتائم إلى شر مما كان في عهد الشقاق الأول بين السعديين والدستوريين الذي استمر إلى عهد الائتلاف المعلوم. لقد كنت أخشى هذا وأحاذره متوقعًا له إذا وفق محمد محمود باشا بافتراص سياسة وزارة العمال في إنكلترة لإقناعها بإنصاف مصر والاتفاق معها على ما يرضاه الشعب المصري وتحفظ به المصالح البريطانية، فكتبت مقالة (الحالة السياسية العامة في مصر) التي نشرتها في الجزء الثاني الذي صدر بتاريخ غرة صفر (٨ يوليو) راجيًا أن تكون بما قررته من الحقائق الناصعة المبرأة من الهوى والتشيع تمهيدًا لائتلاف جديد نهائي يسعى له سعيه بعض الأمراء والكبراء لخير مصر ومصلحة حاضرها ومستقبلها. وقد كان حاضر مصر إلى وقت كتابة تلك المقالة شر حاضر ينذر شر مستقبل: أمة مغلوبة على أمرها بالاستبداد البريطاني الذي سلبها ما اعترف به لها من الاستقلال بقرار الوزارة البريطانية وتصديق البرلمان البريطاني، وحكومة (دكتاتورية) عطلت الحكومة الدستورية وفضت برلمانها، ورضيت أن تكون خاضعة لسيطرة أطغى مستبد بريطاني عرفته مصر، لا يرضى أن يُحل فيها ولا أن يُعقد أمر من الأمور الداخلية المحضة إلا برضاه، دع ما يمس التحفظات من قرب، أو يومئ إليها من بعد، تؤيده دولة معروفة بنقض العهود، وإخلاف الوعود، ونكث الأيمان بالتأويل، الذي تتبرأ منه جميع اللغات والشرائع والقوانين، طردت الموظفين المصريين والجنود المصريين من السودان، وانفردت بإدارته وسياسته وحدها، من بعد أن كان ادعاؤها حق المشاركة لمصر في إدارته ظلمًا واستبدادًا لا مسوغ له، فماذا عسى أن يكون مستقبل بلاد هذا حاضرها؟ كان ذنب محمد محمود عند الوفد وسواد الأمة من ورائه أنه رضي في هذه الحال السوءى التي تنذر المستقبل الأسوأ أن يتولى الوزارة ويقبض على عنق البلاد بيد من حديد، وأن يتحلى بلقب (دكتاتور) وهو يعلم أن القوة السلبية في الأمم الضعيفة تفعل ما لا تفعل القوة المادية التي يفوقها الخصم فيها أضعافًا، ويعلم أن أعظم مظهر لهذه القوة السلبية في مصر ما كان من امتناع رجال الحكومة كبيرهم وصغيرهم من إدارة الأعمال تحت سيطرة الحماية الإنكليزية في إبان الثورة، وبهذا وحده علم الإنكليز يومئذ أنه يتعذر عليهم إدارة أمور البلاد كما كانوا يديرونها في السنين الخالية بأسماء الوزراء الوطنيين الجبناء الذين أطلق الأستاذ الإمام على مجلس نظارهم لقب (جمعية الصم والبكم) وأنه كان يريد بهذه الوزارة القضاء على وحدة الأمة المعتمدة على وفدها في السير إلى الاستقلال المطلق كما قضى على حكومتها، وأن يقوي حزبه المشايع للبريطانيين في ثلاث سنين مقدرة ليكون صاحب الأكثرية في البرلمان الموعود به بعدها فيعمل للإنكليز ما يريدون. وكان عذر محمد محمود عند نفسه كما قال مرارًا وعند المؤمنين بصدق وطنيته أنه لم يكن في ذلك الحين بد من الخروج من تلك الحالة السوءى بحكومة تتزاور عن ذلك الضغط البريطاني المرهق، وتتحامى الوقوف في وجهه في إبان طغيانه؛ لأنه يجرف كل ما يصادفه أمامه لا محالة، وأنه كان يرجو أن يشاركه رجال الوفد في هذه الوزارة التي تألفت للنهوض بأعباء الإصلاح الداخلي بمعزل من ميدان المناطحة مع الإنكليز إلى أن تتحول تلك الحال - ودوامها من المحال - وأنه لم خاب أمله وبرز الوفد لمكافحته اضطر إلى الكفاح كارهًا له، وقد سمعت من بعض هؤلاء المحسنين للظن فيه من يقول في أول العهد بهذا الكفاح أنه لو علم أن سيعجز عما كان يؤمّل ويضطر إلى هذا النضال لما أقدم على تأليف الوزارة. والله أعلم. من أجل ما ذكرت هنا وهناك من الرأي في رجولة محمد محمود باشا ووطنيته، مع العلم بقلة الرجال - كنت أحب أن يقوم بما له من الحظوة عند الإنكليز التي كانت تزداد مظاهرها آنًا بعد آن بآخر تجربة في التوفيق بين مصلحتهم الأساسية في مصر واستقلالها المطلق مع سودانها، مع عقد محالفة مرضية بينهما، وأن يتفق مع الوفد على ذلك سرًّا إن لم يكن جهرًا، وأن يعلِّق بقاءه في الوزارة على هذه المحالفة بأن يستقيل إذا لم يقبلوا، ثم يتفق مع الوفد سواء قبلوا أو لم يقبلوا، وهذا هو الذي أملى علي تلك المقالة التي نشرتها في الجزء الثاني من منار هذا العام، علمًا بأنها لا ترضي جمهور حزب الوزير، ولا جمهور حزب الوفد لكراهة كل من الفريقين لإنصاف الآخر، والاعتراف بأي مزية أو فضيلة له، وإنما ترضي بالطبع محبي الحق والعدل والإنصاف من كل منهما ومن غيرهما، ولا يعنيني بعد تحري مرضاة الله تعالى إلا مرضاة من يحبون ما يحب الله من الحق والعدل، والرجاء في سعيهم للاتفاق والصلح. وقد علمت أن بعض الكتاب من أنصار الوفد انتقد المقالة في بعض صحفهم على أنني كنت فيها أقرب إلى تأييد سياستهم الأساسية في المسألة المصرية، كما أنني كذلك في نفسي على انتقادي لبعض تصرفهم، ثم رأيت هذا المنتقد في النادي السعدي في أثناء إلمامة لي به، فبهتني بأنني صرحت في المقالة بعدم الحاجة إلى مجلس النواب مطلقًا! ! ولم يمنعه إنكاري لذلك وتأييد بعض قراء المنار من أعضاء الوفد الحاضرين لي في الإنكار من الإصرار عليه؛ ولكنني علمت من غير واحد منهم أن النائب الذي طعن على القرآن في مسألة تعدد الزوجات لم يفُه بذلك في المجلس، كما قلت في المقالة؛ وإنما ذكره في مقالة نشرها في جريدة الأهرام، قال بعضهم: ولو قاله في المجلس لأقمنا عليه النكير، فأنا أستغفر الله من هذا الخطأ الذي كان عالقًا بذهني مما قرأت من الرد على ذلك النائب الملحد، ولو ظهر لي خطأ آخر لرجعت إلى الصواب بعد ظهوره بكل ارتياح، ولا أبالي من يرضيهم إلا اتباع أهوائهم، ومتى كان طالب الحق لذاته مقلدًا للأفراد أو متعصبًا للجماعات؟ وإنما أكتب أحيانًا في المسائل السياسية لأجل أن أُسمع من استطعت من الناس صوت الحق فيها لقلة من يقوله، عسى أن أكون من الصدِّيقين والشهداء. أعود بعد هذا إلى مسألة الصلح بين الوفد ومحمد محمود باشا فأقول: أخبرني بعض من قرأ مقالتي في الجزء الثاني أنه قد وجد من سعى لها سعيها وأجلهم عدلي باشا يكن، فما أفاد ذلك السعي نجاحًا. ولما حمل مشروع الاتفاق محمد محمود باشا في لندن أرسل بلاغًا إلى الجرائد قال فيه إنه نال ما نال من النجاح بجهاد الأمة وقوة الأمة لا بحوله وقوته، وإنه يدعو الأمة كلها إلى النظر فيه بعيني المصلحة لمصر لا بالأعين الحزبية، وإنه لوَّح للمخالفين المعارضين له بغصن الزيتون، فإن جنحوا للسلم والاتفاق جنح لها، وإلا فلا لوم لهم إلا على أنفسهم - أو ما هذا معناه - وقام أناس آخرون يسعون للصلح؛ ولكن الجرائد المنتصرة لكل فريق قد أسرفت في الطعن وتوسيع مسافة الخُلف، وظل الوزير نفسه معتصمًا بعصبية حزبه، فصار معنى الاتفاق خضوع الوفد له وقبوله أن تتولى وزارته أمر انتخاب أعضاء البرلمان الجديد الذي له الحكم الفصل في مشروع الاتفاق المعروض من قِبَل الحكومة الإنكليزية ليكون لها باستخدام نفوذ الحكومة وأموالها أعضاء كثيرون من الدستوريين وغيرهم يشدون أزرها، ويمنحونها من الثقة ما يرجى أن تثبت به، وتكون هي التي تعقد المعاهدة مع الدولة البريطانية وتتولى تنفيذها، فيتم بذلك مجدها ومجد أنصارها، ولعلمهم بقوة نفوذ الوفد في الأمة يريدون أن تضع هذه الوزارة قانونًا للانتخاب يكون فيه على درجتين، وتلغي القانون الذي وضعه البرلمان المقرر للانتخاب من قِبَل الأمة مباشرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة لا يثق إلا بالوفد، وتأثير نفوذ الحكومة في الأفراد المعدودين المعروفين أدنى من تأثيره في الدهماء. والوفد يأبى أن تتولى هذه الوزارة (الدكتاتورية) المطلقةُ السلطانِ إعادةَ بناء ما هدمت من حكم الدستور والبرلمان، بعد أن كان منها ما يعدونه عليها من الأعمال، ويُصر على إسقاط هذه الوزارة ونوط أمر الانتخاب بوزارة حيادية تنفذ القانون الذي وضعه مجلس النواب الأخير، ويقول: إن هذا المشروع الذي حمله محمد محمود من لندن لم يكن ثمرة مفاوضته ولا أثر سعيه، فإنه صرَّح بأنه لم يذهب إلى أوربة لأجل المفاوضة في المسألة المصرية، وأنها لم تكن تخطر له ببال، وإنما المشروع ابتداع أتى من وزارة العمال الجديدة التي أخذت على عاتقها حل جميع المشكلات البريطانية الخارجية، أعطي له ليعرضه على الأمة المصرية لأنه صاحب الصفة الرسمية، لا لأن له يدًا فيه، ويقول بعضهم: إن الوزارة البريطانية عرضت عليه ثلاثة صور للاتفاق اختار هذه الصورة منها، ومن المعقول أنه اقترح بعض التعديل والتنقيح فيها فقُبل. وقد اقترح بعض أنصار هذه الوزارة أن تستفتى الأمة في المشروع بجمع جمعية وطنية لهذا الغرض وحده؛ ولكن الحكومة البريطانية لا ترضى بهذا الاستفتاء؛ لأن شرطها أن تُعرض على برلمان مصري قانوني، فيكون له الحكم فيه، والذي استقر عليه حزب الوزارة وأنصارها أخيرًا أن تؤلف وزارة ائتلافية من جميع الأحزاب والمستقلين، ويُبنى الانتخاب على قبول المشروع أو رفضه، ويأبى الوفد هذا ويعده غير قانوني؛ لأنه يقيد حرية الأمة ويفرض عليها أن تقبل المشروع أو ترفضه بنفس الانتخاب لا برأي البرلمان المنتخب. وجملة القول: إن الوفد لم يصرح برأيه في مشروع الاتفاق، وإنه يصر على رأيه الذي بيناه آنفًا، وحزب الوزارة وأنصار مشروع الاتفاق منهم ومن غيرهم يخشون في هذه الحالة أن ينتهي الأمر برفض الاتفاق؛ لأن المنتظَر أن يكون البرلمان الجديد وفديًّا كما سبق، وأن يرد الاتفاق؛ لأن الفضل فيه لمحمد محمود باشا؛ ولأنه دون الاستقلال المطلق الذي أسس الوفد للسعي له، حتى إن رضاه بما دونه يُعَدُّ سقوطًا له، ويقال إنه يرى أنه يمكنه الإتيان باتفاق خير للبلاد منه، ومن الناس من يظن كما نظن أن البرلمان الوفدي لا يرده ردًّا؛ ولكنه يتوخى خدمة البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال، ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما نخشى مغبته مما فيه من إطلاق. ولا يزال أكثر كُتَّاب الإنكليز يطعنون على الوفد ويؤيدون وزارة محمد محمود باشا وحزبه، ومنهم من يتمنون فشل المشروع بالرد، أو تأخير عرضه واستمرار هذه الوزارة على ما جرت عليه إلى نهاية الأجل الذي ضربته لتعطيل الدستور وهو ثلاث سنين تبقى بها البلاد تحت سلطان الاحتلال عسى أن تأتي أحداث الزمان بما يزيده قوة ورسوخًا، وأن جمهور الجالية الإنكليزية في مصر ومنهم مراسلو جرائد بلادهم على هذا الرأي أو الميل، قد كبر عليهم انتهاء أجل الاحتلال واستقلال مصر في إدارتها الداخلية، واعتزازها برفع ذل السيطرة الأجنبية عن رؤوسها على ما يقيدها به المشروع الجديد من احتلال ضفة القنال، وما في تقييد قوتها الحربية بالدولة البريطانية من سلاسل وأغلال؛ ولكن الوزارة الإنكليزية نفسها لا تظهر هذه المحاباة ولا تضمر مثل هذا المكر. هذا وإننا نرى رجال السياسة من الشعوب الأوروبية، وكتَّاب صحفها قد أكبروا مشروع هذا الاتفاق، وعدوه تسامحًا من الإنكليز لم يكن في الحسبان، وأنه لولا رغبة وزارة العمل الصادقة في حل جميع الإشكالات الخارجية لما عرضت على مصر مثل هذا بعد أن كانوا يعدونها من مستعمراتهم وإن لم تُسَمَّ بذلك. وأما مستقبل المعاهدة التي تعقد على أساس هذه التصريحات البريطانية فهو رهين بالطور السياسي الذي تكون عليه الدولة البريطانية، فإن عاد النفوذ الأعلى في برلمانهم إلى حزب المحافظين على التقاليد الصليبية والاستعمارية الذين يطمحون إلى استعباد جميع الشرق، والسيادة العليا على دول الغرب، فستكون هذه المعاهدة (قصاصة ورق) فيخلقون من أحداث الزمان ما يستبيحون به نقض حبلها ونكث فتلها، كدأبهم فيما وصفهم به البرنس بسمارك من التفصي من المعاهدات بالتأويل. وإن ثبت عندهم أن شعوب الشرق قد دخلت في طور جديد عرفت به نفسها، وأنه لم يعد في الإمكان أن تتصرف الدولة القوية فيها كما تتصرف في العجماوات، وأن الوسيلة الوحيدة لاستغلال ثروة بلادها أن يكون بالتراضي معها ... فستكون هذه المعاهدة نافذة بحسن النية، ووسيلة لمعاهدة تكون خيرًا منها، إما بعد انتهاء مدتها وإما قبل ذلك. هذا وما نراه في مستقبل الاتفاق والمعاهدة التي تُبنى عليه من الوجهة البريطانية وحدها، وأما الرأي فيه من الوجهة المصرية فهو يتوقف على أخلاق الشعب المصري وحالته النفسية ودرجة تأثيره في حكومته المستقلة عندما تكون تحت سيطرته وحده دون احتلال أجنبي، قبل توقفه على ما أوتي من علم بشؤون السياسة والإدارة وسائر ما تحتاج إليه الحكومة في هذا العصر، ولا مجال للبحث في هذا الموضوع الآن. والخلاصة أن الذي يعتصر من آراء الوطنيين والأجانب في شأن المشروع يثبت أنه يجب قبوله على علاته بالقيد الذي أشرنا إليه في هذا المقال من بيان وتوضيح وتحديد في مسائل السودان والعسكرية وغيرها، وأن قبوله أقرب وسيلة إلى نيل خير منه من رده، وأمره موقوف على خطة الوفد وفَّقه الله تعالى لما فيه خير البلاد.