للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء
(نصيحة لمسلمي بيروت عامةً وفتيانهم الشجعان خاصةً)
إنني في كلامي عن البلاد السورية قد فضلتكم على غيركم، ورجوت منكم
لخير البلاد ما لم أرجُه من سواكم، وإنما كتبت ما اعتقدت، بحسب ما رأيت
واختبرت؛ تنشيطًا للعاملين، وتنبيهًا للخاملين، ذلك بأنني رأيت من احترام الحرية
عندكم، ما لم أر مثله في طرابلس ولا دمشق ولا غيرهما من البلاد، ورأيت فيكم
حركة إلى العلم والتربية، لم أر نظيرها - على ضعفها - في غير بلدكم، فحمدت
الله - تعالى -على ذلك وحمدتكم.
ثم إنني أقمت في بلدكم سبعة أسابيع متصلة بعد تينكم الزيارتين المتعاقبتين،
فرأيت فيه أمرًا استنكرته وحزنت لأجله حزنًا شديدًا، فأحببت أن أنصح لكم فيه
كتابة، كما نصحت فيه لكثير منكم مشافهة وخطابة؛ عسى أن تكون الكتابة أعم
وأنفع، ولا أقول: إن هذا الأمر المنتقد خاص بكم، وإنما أرجو أن ترجعوا عنه
بمجرد النصيحة، وربما بقي عند غيركم إلى أن تتكون الحكومة الجديدة وتستقر،
فترجعهم عنه بالقوة القاهرة، إن لم يرجعوا خوفًا منها.
ذلك الأمر المنكر: هو ما ذكرته في آخر خطاب ألقيته في نادي الجامعة
العثمانية عندكم (ونشرت محصله في هذا الجزء) ؛ وأعني به إزعاج الحرية
الشخصية في بعض الأوقات لا سيما حرية أصحاب الصحف. وقد حمدكم العقلاء؛
لاستنكاركم حادثة الشام، وحملكم على المفسدين الذين أثاروا الفتنة فيها؛ كراهية
لحرية العلم والاستقلال في فهمه ونشره. ولكن جرائد الشام الآن أوسع حرية من
جرائدكم، كما يعلم ذلك جميع القراء منكم، فهل ترضون بهذا الانقلاب؟
كاد يقع الخصام بل الالتحام بين طائفتين منكم؛ لأن شيطانًا من شياطين
الإنس وسوس إلى بعضهم: أن جريدة كذا نشرت آية من القرآن الكريم، ونشر
القرآن في الصحف إهانة له، فيجب أن يهان صاحبها حتى لا يعود إلى ذلك. ذكر
ذلك في مجتمع فيه كثير من العامة والخاصة، فاشتد في الإنكار بعض الشبان،
فانبرى للدفاع عن صاحب الجريدة آخرون من أبناء حيه، فتساهل الأولون،
وانتهى الكلام بانتداب رجلين لسؤال صاحب الجريدة عن حقيقة الأمر، ولما جاءهم
للسؤال كنت عنده، وكان هو قد خرج لحاجة، فراجعنا جريدته أولاً، فلم نجد فيها
شيئًا من القرآن، وأقنعتهما بأن الإهانة لا تكون إلا بالقصد، وأن من يقصد إهانة
القرآن بعمل عمله يصير به مرتدًّا لا عاصيًا فقط، ولا يقع هذا من مسلم، وإنما
يكتب الآيات من يكتبها؛ لأجل أن يكون في كلامه روح ربانية مؤثرة ينفع بها
القارئين. وقلت لهما: إن جميع جرائد المسلمين في مصر وفي بيروت وغيرها من
البلاد تزين بعض كلامها بالآيات الكريمة وتناولت من جرائد كانت بجانبي نسخة من
المؤيد، فأطلعتهما على عدة آيات فيها، بعضها في خطبة لأحد الأساتذة بنظارة
المعارف المصرية، ومازلت بهما حتى خرجا مقتنعين بأن من من حرك هذه
الفتنة لم يكن مخلصًا في قوله، وقبَّلا يدي بعد أن كان حديثهما معي حديث الخصم
مع الخصم، فدل ذلك على حسن نيتهما.
ثم إن صاحب جريدة أخرى كتب في جريدته أن المسلمين مقصرون فيما
يجب عليهم من العناية بالتربية والتعليم، وما تقتضيه حال العصر من سعة الثروة،
وأن جيرانهم وخلطاءهم من النصارى قد سبقوهم في هذا المضمار. فوسوس شيطان
التفريق إلى بعض الفتيان المتحمسين قال: إن صاحب جريدة كذا قد أهان المسلمين
وفضل النصارى عليهم، فاضطربوا وغضبوا، وأخذ بعضهم نسخًا من بائع تلك
الجريدة فمزقها، وحاول طائفة منهم إهانة الكاتب بل أهانه بعضهم بالفعل، وطاف
آخرون على بعض المشتركين بالجريدة، فرغبوا إليهم أن يقطعوا اشتراكهم فيها.
وقد رأيت شابًّا يتأثر صاحب هذه الجريدة في بعض الشوارع، فلما رآني
استوقفته وتحدثت معه، ثم تركته تبعني، وسألني عما كتبه عن المسلمين فقلت له:
كتب كيت وكيت؛ ليحث المسلمين على إنشاء المدارس والعناية بتربية أولادهم،
حتى يكونوا أرقى الأمم وأعلمها، وعلى تحصيل الثروة؛ ليكونوا من أغنى الناس
وأعزهم. وأقنعته بأنه لا يعقل أن يكون قصد إهانة أهل دينه الذين يهان بهوانهم،
ويعتز بعزتهم، ويشرف بشرفهم، من غير أن يكون له فائدة في ذلك، ولا مجال
للقول بأن له فائدة أو ربحًا من الإهانة، ثم ذكرت له شيئًا من مفاسد هذا الشقاق
الذي يلقبه بعض أهل الأهواء بين المسلمين، وهو أضر عليهم لا سيما في هذا
الوقت من كل ما يتصور أن يضرهم. فانثنى مقتنعًا شاكرًا.
هذا ما تركت عليه بيروت يوم سافرت منها، وقد دخلت القاهرة ليلة الخميس
وفي اليوم الثاني من وصولي إليها صليت الجمعة في أحد المساجد، فإذا بالخطيب
فيه يصدع الناس بوعظ يقول فيه ما معناه: إنكم قد تركتم الإسلام، وأين الدليل
على إسلامكم وأنت تعملون كذا وكذا، حتى قال: وتشبهت نساؤكن بالعاهرات،
فقلت في نفسي: لو كان هذا الخطيب في بيروت لأنزلوه عن المنبر بالقوة، ومنعوه
من إتمام الخطبة.
مع هذا كله أقول الآن كما قلت من قبل: إن مسلمي بيروت أقرب إلى الخير
والاستعداد للترقي من غيرهم، وأبعد عن الفتن التي تحول دون الأعمال النافعة،
وأكثر ما ينتقد عليهم مما ذكر يقع منهم بحسن النية غالبًا، لا أعرف فيهم رجلاً واحدًا
يحب إثارة الفتن بسوء نية، ولعلة يندر أن يوجد له أقتال ونظراء في ذلك.
فالذي ننصح به لهم ولغيرهم هو: أن يعلموا أنه لا شيء أضر على الأمم من
التفرق والشقاق لأجل الخلاف في الفهم والرأي، سواء كان في أمر الدين أو أمر
الدنيا، فضرر أكبر الكبائر - كالقتل والزنا وشهادة الزور - هو دون ضرر التفرق
والشقاق في الأمة؛ لأن هذا الجرم هو المانع من وحدة الأمة وعزتها وقوتها، وهي
متى قويت تقدر على منع سائر الجرائم، ومتى كانت ضعيفة بالتخاذل لا تقدر على
منع شيء من المفاسد، ولا على إقامة شيء من المصالح. ولذلك توعد الله - تعالى-
على التفرق والخلاف بما لم يتوعد على غيره، بل جعل المتفرقين في الدين براء
من النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً
لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) وأنزل يوم تلاحى نفر من الأوس
والخزرج، وذكروا ما كان من مشاقة بعضهم لبعض يوم بعاث {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٣-١٠٥) .
فالمتدبر للقرآن يرى أنه تعالى ينهانا ويحظر علينا التفرق والخلاف، ويحتم
علينا أن نكون إخوة متحابين، ويفرض علينا مع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ومن أهان أخاه واحتقره أو آذاه؛ لأنه قال أو كتب ما يخالف رأيه، لا
يكون آمرًا بالمعروف، وهل يوجد أحد من الناس يقول: إن الإهانة والإيذاء من
المعروف؟ ؟ وإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه بأن يجادل المشركين بالتي هي
أحسن، فهل يرضى منا أن نجادل إخواننا المؤمنين بالتي هي أسوأ وأقبح؟ أما ما
قال الله - عز وجل - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: ١٢٥) أما قال مع ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: ٢١) .
إن الله تعالى ما ذكر فرضية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مع النهي عن التفرق والاختلاف؛ إلا لأن هذه الفريضة هي سياج وحدة
الأمة وحفاظها، فإقامتها تمنع التفرق، كما قال الأستاذ الإمام: فإذا جعلنا الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للتفريق والخلاف والعداوة بين المسلمين، نكون
قد قلبنا مقصد الدين، ونقضنا ميثاقه، وقطعنا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدنا
في الأرض {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن
يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: ٢٥) .
للأمر بالمعرف والنهي عن المنكر شروط وآداب، فصلناها في التفسير
المنشور في الجزئين الثامن والتاسع من مجلد المنار العاشر، ولا يصلح لها على
الإطلاق إلا أهل العلم والعرفان فأي إفساد في الدين والدنيا شر من إغراء العامة
بالافتيات على أهل العلم، وحملة الأقلام، والتصدي لأمرهم ونهيهم. بل وجد من
شياطين الإفساد والتفريق من إغراء العامة بمنع بعض خطباء المساجد من خطبة
الجمعة! ! حدثني بذلك بعض شبان بيروت، فقلت له: إن الخطبة فريضة دينية
كالصلاة، فهل يجوز لنا أن نمنع مسلمًا من أداء الصلاة؛ لأننا غضبنا منه بحق أو
بباطل؟ إذا جاز لنا هذا، جاز لنا أن نمنع كل من أذنب ذنبًا من أداء الصلاة
والصيام والزكاة والحج، وأن نشترط العصمة في كل طاعة من الطاعات. ولا
يبيح لنا ديننا أن نقول بعصمة أحد بعد الأنبياء، وقد ختم الله تعالى ببعثة نبينا
صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم، ولم يقل أحد من المسلمين الذين يعتد أحد من
بعده؛ إلا ما قاله الإمامية من الشيعة في الأئمة الاثني عشر من آل بيت النبي
بإسلامهم بعصمة عليه وعليهم السلام.
فعلم مما بيناه: أن التصدي لإهانة الناس الذين يظن أو يعلم أنهم أخطأوا هو
من المفاسد المحرمة شرعًا، والقبيحة عقلاً، وكل من يغري بها شيطان رجيم يجب
عصيانه، والبعد عنه، والاستعاذة بالله من شره. والاجتماع لأجل هذه الجريمة
والتعاون عليها يزيد في قبحها وإثمها قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: ٢) .
بعد هذا كله، أقول لفتيان بيروت الذين يعرفون بلقب (الأبضايات) : إنكم
أيها الشجعان البواسل، قد عطَّرتم الأرجاء بمحمدة عظيمة، ظهرت منكم في أيام
إعلان الدستور، ولا تزالون تحافظون عليها، حتى أثنى عليكم العقلاء في غير
بلادكم، بما لم يثنوا به على سواكم؛ ألا وهي محاسنة خلطائكم وعشرائكم في وطنكم
من المشاركين لكم فيما عدا الدين من شؤون الحياة. فهل يليق بكم بعد فضيلة
مسالمة هؤلاء أن تتلوثوا برذيلة معاداة من يشاركم في كل شيء حتى في الدين،
فتكونوا كمن نزل فيه قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: ١٤) ؟ حاشاكم أن ترضوا بذلك عالمين به،
وإنما يغشكم الغاشون، فلا تكونوا آلة لهم في أهوائهم.
لا أقول: إنه ينبغي أن تخدموا بلدكم بإتقان كل واحد منهم لعمله فقط، فإنكم
تستطيعون أكثر من ذلك. إنكم تستطيعون أن تتعاونوا دائمًا على منع العدوان،
حتى يصير نادرًا، وتتعاونوا على إصلاح ذات البين عندما يقع شقاق أو خصام بين
اثنين أو جماعتين. ولكنكم لا تقدرون على الهيمنة على العلماء والسياسيين،
والمراقبة على الخطباء والمحررين، ونفع الأمة بإيقاف هؤلاء عند حدود لا
يتعدونها. وإنكم إذا تصديتم لذلك تضرون الأمة ضررًا عظيمًا. ولا تستقلوا ما قلت:
إنكم لا تستطيعونه؛ فإنه أمر عظيم مقدم على كل أمر؛ لأنه يتعلق بالأمن
والراحة العمومية، وهو أول شيء تطالب به الحكومة، فإذا قمتم في بيروت بعمل
لا تزال الحكومة مقصرة فيه في كثير من البلاد، فإنكم تستحقون من الناس الثناء
الجميل، ومن الله الثواب الجزيل.