للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

الناسخ والمنسوخ في القرآن
(س ٧٨) السيد أحمد منصور الباز في (طوخ القراموص) : ثبت أن في
القرآن ناسخًَا ومنسوخًا , وأن من المنسوخ ما نسخ حكمه وبقي رسمه، ومنه
العكس كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة نكالاً من الله) قد ثبت في
الصحيح أن هذا كان قرآنًا يتلى. ومما نسخ حكمه وبقي رسمه , ولا يعلم له
ناسخ كما في الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا) إلخ،
فهل من حكمة ترشدنا إليها بمناركم وضاح السبل في إبقاء رسم الناسخ مع بقاء
حكمه، وفي نسخ لفظ مع بقاء حكمه , وعدم وجود ناسخ له.
(ج) قد تقدم في التفسير المنشور في هذا الجزء أهم أحكام النسخ وحكمته ,
ومنها: الإشارة إلى أن حكمة بقاء الآية التي نسخ حكمها التذكير بنعمة النسخ ,
والتعبد بتلاوتها، أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها , أو نسخ لفظها وحكمها معًا
فمما لا يجب علينا اعتقاده وإن قال به القائلون ورواه الراوون، وقد علله القائلون
به والتمسوا له من الحكمة ما هو أضعف من القول به، وأبعد عن المعقول.
واعلم أن القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو
أصل الدين وأساسه، أحكمت آياته , فلا تفاوت فيها ولا اختلاف ولا تناقض ولا
تعارض , وما ذكروه من الجمل التي قالوا: إنها كانت من القرآن ونسخ لفظها لا
تضاهي أسلوب القرآن ولا تحاكيه في بلاغته , والتصديق بذلك مدعاة لتشكيك
الملحدين في القرآن.
وقد ثبت أن بعض الزنادقة كانوا في زمن الرواية وتلقي الحديث من الرجال
يلبسون لباس الصالحين ويضعون الحديث، وكان يروج على الناس لاستيفائهم
شروط الرواة الظاهرة من العدالة وحسن الحفظ وغير ذلك، حتى إن بعضهم تاب
ورجع عما كان وضعه ولولا اعترافه به لم يعرف، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم
يتب ولم تعرف حقيقة حاله، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل
النقد. لأجل هذا لا يعتمد على الحديث إلا إذا كان مع صحة سنده موافقًا لأصول
الدين الثابتة بالقطع، ولغير ذلك من الحقائق القطعية ككون الشمس لا تغيب عن
الأرض كلها عندما تغيب عنا كل يوم، وإنما تغيب عنا وتشرق على غيرنا، إلا إذا
أمكن الجمع، ولا يؤخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند في العقائد لأنها ظنية باتفاق
العلماء والعقلاء والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم:
٢٨) ومثلها آيات في التشنيع على الكافرين باتباع الظن.
وإذا كان القرآن لا يثبت إلا بالتواتر المفيد للقطع، وكان كون الآية منسوخة
فرع كونها آية، كان لنا بل علينا أن لا نصدق بأن كون هذا القول آية منسوخة إلا
إذا روي ذلك بالتواتر من أول الإسلام كما روي القرآن.
وليس فيما زعموا أنه قرآن نسخت تلاوته شيء متواتر. وهذا الذي رووه من
حديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) مروي عن أبيّ بن كعب وروي أيضًا من
حديث أبي أمامة عن خالته العجماء وعن عمر رضي الله عنه , وليس هذا من
التواتر في شيء، وكذلك الأثر الذي فيه: (لو كان لابن آدم واد لابتغى إليه ثانيًا)
... إلخ، وفي رواية: (لو كان لابن آدم واديان) ... إلخ، فهو موقوف على
أبيّ، فإن سلمنا أن السند إليه صحيح فأين التواتر الذي لا يكون إلا برواية جمع
يؤمن تواطؤهم على الكذب؟
وجملة القول أنه لم يرو في هذا المقام حديث صحيح السند إلا قول عمر في
الشيخ والشيخة إذا زنيا، وهو من رواية الآحاد، ولذلك خالف الخوارج وبعض
المعتزلة في الرجم ولم يكفرهم أحد بذلك. وأنا لا أعتقد صحته، وإن روي في
الصحيحين، فمن أنكر عليّ من المقلدين ذلك فليكتب إليّ لأسرد له عشرات من
أحاديث الصحيحين لم يأخذ بها أئمته، وفقهاء مذهبه وسائر المذاهب الذين لا ينكر
على أحد منهم شيئًا، وحجتي واضحة وهو أن المقام مقام إثبات القرآن , وطريق
إثباته التواتر بالإجماع , فلو تواترت الرواية عن عمر أو غيره وأجمع عليها؛
لقلت بأن عمر قال ذلك، والأحاديث الصحيحة الصريحة المسندة المرفوعة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم التي خالفها الفقهاء كثيرة وهي في الأعمال التي يجب
أخذها من أحاديث الآحاد بالإجماع , وعدم اعتقاد صحة هذا الحديث لا يترتب عليه
ترك مشروع , ولا إثبات خلافه , فلا ضرر فيه، وإنما الضر في ترك ما تركوه ,
ولعلك تقول: ما هو جواب مثبتي هذا الضرب من النسخ , فأقول: قال السيوطي
في الإتقان ما نصه:
(الضرب الثالث نسخ تلاوته دون حكمه , وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً وهو:
ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل
بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه
الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق
مقطوع به , فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام , والمنام
أدنى طريق الوحي) اهـ، وهو كما ترى لا قيمة له فإن الوحي للأنبياء كله قطعي،
وبذل النفوس هنا لا معنى له. والأحكام التي رويت لنا عن الآحاد فأفادت الظن
كانت يقينية عند الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم , فإذا كانوا سمعوا
الآية من النبي، ثم فرضنا أنه أمرهم بتركها وعدم قراءتها مع بقاء العمل بها، أفلا
يقال ما هي حكمة ذلك بالنسبة إليهم وإلى من بعدهم.
* * *
مذهب العامي واتباعه الرخص
(س٧٩) ومنه: يقال: العامي لا مذهب له، فهل يجوز له أن يقلد كل
مذهب في رخصه ولو بسبب عذر ضعيف.
(ج) قولهم: العامي لا مذهب له، صحيح لا نزاع فيه , فإن ذا المذهب هو
من له طريق في معرفة الأحكام بدلائلها، والواجب على العامي أن يسأل أهل الذكر
أي العارفين بالكتاب والسنة عن كل مسألة تعرض له قائلاً: ما هو حكم الله تعالى
في هذه المسألة , فما أخبروه به عن الله وعن رسوله وجب عليه الأخذ به، إذا
اعتقد أن المسئول ثقة عارف , ولا يجوز له أن يتبع رأي أحد يخالف ذلك , فإذا
بلغه عن الشارع في أمر عزيمة ورخصة فله أن يعمل بالرخصة عند الحاجة
ويجعل العزيمة هي الأصل. ومن يسأل عن رخص المذاهب وآراء العلماء ويتبع
أسهلها عليه وأقربها من هواه فهو متلاعب بدينه.
* * *
الوصية المنامية المنسوبة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
(س ٨٠) أرسل إلينا السيد صالح السرجاني بمصر صورة هذه الوصية
وسألنا بيان رأينا لقراء المنار وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم , قال الشيخ أحمد خادم
الحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم في المنام في ليلة الجمعة وهو يقرأ القرآن العظيم , فقال لي: يا شيخ أحمد ,
المؤمنين حالهم تعبان من شدة معصيتهم , فإني سمعت الملائكة وهم يقولون: تركوا
ذكر الله سبحانه وتعالى , فأراد ربك أن يغضب عليهم , فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: يا رب ارحم أمتي فإنك أنت الغفور الرحيم، وأنا أعلمهم بذلك يتوبوا , وإن
لم يتوبوا الأمر إليك , وهم قد ارتكبوا المعاصي والكبائر , وتركوا الدعاء , واتبعوا
الزنا , ونقصوا الكيل , وشربوا الخمور , واشتغلوا بالغيبة والنميمة , واحتقروا
الفقير والمسكين ولا يعطوا الفقير حقه , وتركوا الصلاة , ومنعوا الزكاة. فأخبرهم
يا شيخ أحمد بذلك , وقول لهم: لا تتركون الصلاة , وأتوا الزكاة , وإذا مر
عليكم تارك الصلاة لا تسلموا عليه , وإذا مات لا تمشوا في جنازته , وانتبهوا
واستيقظوا , واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن , وقل لهم: الساعة قد قربت
ولا يبقى من الدنيا إلا القليل , وتظهر الشمس من مغربها , فأرسلت إليهم وصية
بعد وصية فلم يزدادوا إلا طغيانًا وكفرًا ونفاقًا، وهذه آخر وصية. فقال الشيخ أحمد:
قد استيقظت من منامي فوجدت الوصية مكتوبة بجانب الحجرة النبوية بخط
أخضر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأها ولم ينقلها كنت خصمه يوم
القيامة , ومن قرأها ونقلها من بلد إلى بلد كنت شفيعه يوم القيامة. فقال الشيخ أحمد:
والله العظيم قسمًا بالله ثلاثًا إن كنت كاذبًا فأخرج من الدنيا على غير الإسلام ,
{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:
١٨١) ومن شك في ذلك فقد كفر , وعليكم بتقوى الله تنجوا من المهالك , وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت بالتمام والكمال , والحمد لله
على كل حال , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) اهـ بنصها
المطبوع المنشور.
(المنار)
إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن
مرارًا كثيرة , وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية.
والوصية مكذوبة قطعًا لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها
البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم يتعلموا اللغة
العربية، ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل.
فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء وأبلغ
البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم , وزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا
بخط أخضر , يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه , ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير
من أنكره. فهذه المعصية هي أعظم من جميع المعاصي التي يقول: (إنها فشت
في الأمة) وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام , وتكفير علماء أمته
والعارفين بدينه , فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها، وقد قال
المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) قد نقل بالتواتر , ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمد لكذبها، ولا ندري
أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟
أما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن، وانهماكهم في
المعاصي فهو مشاهَد , وآثار ذلك فيهم مشاهَدة , فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد
أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: ١٦) إلا أن يتوبوا , ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ,
ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له
ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع. فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدنا وهما مملوآن
بالعظات والعبر. والآيات والنذر.
* * *
كيفية فرض الصلاة والمراجعة فيه
(س٨١) عوض أفندي محمد الكفراوي في (زفتى) : أحقيقة ما يقال أو
يروى من أن الصلاة كانت أول ما فرضت خمسين صلاة، وأن النبي صلى الله
عليه وسلم راجع فيها ربه بإرشاد موسى عليه السلام حتى جعلها الله خمسًا في
الفعل وخمسين في الأجر؟ أفيدونا ولكم الأجر من الله ولا زال مناركم هاديًا
للمسلمين.
(ج) إن ما ذكر مروي في حديث المعراج، وقد اختلف فيه المسلمون على
صحة سنده، المثبتون له وهم الجمهور قد اختلفوا في كونه وقع يقظة أم منامًا ,
واستدل القائلون بأنه منام برواية شُريك عند البخاري إذ يقول النبي صلى الله عليه
وسلم في آخرها: (ثم استيقظت) وفي رواية له رأى ما رأى وهو بين النائم
واليقظان. ومسألة المراجعة على كل حال من المتشابهات، أو من الشئون الغيبية
الروحية، وقالوا: إن من حكمتها تكرار المناجاة وما يتبعها من منة التخفيف،
والله أعلم.
* * *
صحة الرؤى والأحلام
(س٨٢) ومنه: هل من سند صحيح للاعتقاد بصحة الرؤى والأحلام؟ فقد
فشت بين عامة المسلمين.
(ج) إنما يُحتاج إلى صحة السند في إثبات الأخبار المنقولة عن الآحاد ,
ولا حاجة إلى ذلك هنا؛ فإن صدق الرؤيا واقع بالتجربة وثابت بالكتاب، ولكن
ما يصدق منها قليل جدًّا، ولا يقع إلا للأقل من الناس , وهو لا يُعلم إلا بعد ظهور
تأويله بالفعل , كما وقع لمن رأى في شهر يوليو سنة ١٩٠٣ تلك الرؤيا للشيخ علي
يوسف , وكتب بها إليه , وكان في باريس , وهي أنه تزوج فكان لزواجه نبأ ولغط ,
وحكم القاضي ببطلان العقد , وطفق الشيخ علي يسعى ويتخذ الوسائل لدى الحكومة
وبعض النظار. وقد أجاب الشيخ علي يوسف صاحب الرؤيا بكتاب من باريس
يذكر فيه تأويلاً لها يصرفها عن ظاهرها، ولكنها وقعت بعد سنة كما رآها الرائي ,
وكتابه محفوظ عند الشيخ علي , وكتاب الشيخ علي في تأويلها محفوظ عنده.
وقد قال الصوفية: إن الرؤيا الصالحة تسرّ ولا تغرّ , فلا يجوز لأحد الاعتماد
عليها والثقة بها، وقال أهل الشرع: إن الرؤيا لا تعتبر شرعًا في إثبات الأحكام أو
نفيها. فلا يجوز لمن سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام شيئًا أن
يعتد به على أنه من الدين، وذلك لعدم الثقة بضبط الرائي وحفظه لما رأى، ولأن
الشريعة قد كملت في حياته صلى الله عليه وسلم , فلا تحتاج إلى زيادة كما قال
تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣)
* * *
كتاب إصابة السهام والعادات المتبعة في الجمعة
(س ٨٣) السيد محمد البسيوني بكفر الباجور:
إني كنت بمجلس يحتوي أناسًا من أهل العلم، وكنا نقرأ في كتب دينية منها
(كتاب إصابة السهام فؤاد من حاد عن سنة خير الأنام) تأليف حضرة الأستاذ
الفاضل الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر الشريف حالاً ,
وهذا الكتاب يحتوي على أحكام دينية , ومبطل لبعض العادات الموجودة بالمساجد
مثل قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة بصوت عالٍ، والترقي فيه بين يدي
الخطيب، واللغط في الجنائز، فرأينا بعض سادتنا العلماء يعترضون على المؤلف،
وقد ألفت كتب ضد الكتاب المذكور حتى صار الآن بعض البلاد بمركزنا , وهو
مركز منوف (المنوفية) ينقسم إلى قسمين: أحدهما تبع خطة الشيخ محمود خطاب
المذكور، والآخر غير موافق له حتى يئول الأمر أحيانًا إلى نزاع رسمي بين
الفريقين، وحيث إننا لم نعرف المصيب من المخطئ , فقد حررنا هذا راجين من
حضرتكم أن تفيدونا بمجلتكم العلمية حتى نهتدي إلى الصواب , ولحضرتكم الفضل.
(ج) إن الشيخ محمود خطاب قد أهدى إلينا كتابه المذكور في السؤال ,
وقرظناه في الجزء الأول من مجلد المنار السادس، ونقلنا عنه ما ذكره في بدع
الجمعة , وكان الشيخ محمد بخيت ألف رسالة في ذلك قرظناها في الجزء الرابع
والعشرين من المجلد الخامس، وفي الأول والرابع من الأمور المشروعة في يوم
الجمعة كمؤلف الرسالة، فالسبكي هو المصيب , وقراءة مؤلفاته نافعة إن شاء الله
تعالى، وإذا أردت زيادة الإيضاح فارجع إلى الأجزاء التي ذكرناها.
* * *
وجوب الختان أو سنته
(س ٨٤) من الشيخ مصطفى الحنبلي في (حلوان) : حصل بيننا وبين
بعض النبهاء خلاف في مسألة فقهية دينية موجودة في كتب الفقه وهي (الختان
واجب على الذكر والأنثى) وردت هذه القاعدة الفقهية في شرح الدليل وشرح الزاد
للإمام أحمد بن حنبل , وعليكم بعد ذلك بكتاب المنتهى للإمام أحمد أيضًا , فأفتونا
ودام فضلكم.
(ج) إننا نطبع في هذه الأيام كتاب (المقنع) في الفقه الحنبلي , وهو من
المتون المعتمدة وعليه حاشية جليلة، وفيها عند قول المتن: (ويجب الختان ما لم
يخفه على نفسه) ما نصه (وهو شامل للذكر والأنثى , وعنه: لا يجب على النساء ,
وصححها بعضهم وعنه: ويستحب) اهـ المقصود , ومنه يعلم أن في المسألة روايات أشهرها الوجوب , وهو مذهب الشافعي , والرجال والنساء فيه سواء.
والمشهور أنه سنة. قال النووي: وعليه أكثر العلماء , ومنهم الحنفية والمالكية , وقد
جرى عليه العمل، ولكن لا يوجد حديث يحتج به في الأمر به فحديث: (ألق
عنك شعر الكفر واختتن) عند أحمد وأبي داود والطبراني وابن عدي والبيهقي قال
الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع وعثيم وأبوه كليب (راوياه) مجهولان. وقال ابن
المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع. واحتج القائلون بأنه سنة
بحديث أسامة عند أحمد والبيهقي: (الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء)
وراويه الحجاج بن أرطاة مدلس. والذي لا نزاع فيه هو ما قلناه من أنه سنة عملية
كان في العرب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وعده من خصال الفطرة وهو من
ذرائع النظافة والسلامة من بعض الأمراض الخطرة.
* * *
نقض الوضوء بمس الذكر
(س ٨٥) السيد محمد بن عبد الله بن محمد البار الحسيني في (عدن) :
نروم من حضرتكم الإعراب عما ترونه في الحديثين الواردين في انتقاض
الوضوء وعدمه؛ حديث: (من مس ذكره فليتوضأ) وحديث: (هل هو إلا
بضعة منك) هل الحديثان صحيحان؟ وهل بينهما تعارض؟ وما الذي بان لكم
الحق فيه، وما الذي يجب أن نعمل به؟
(ج) الحديث الأول فيه روايات , أصحها وأشهرها حديث بسرة مرفوعًا (من
مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن
الأربعة وغيرهم , وصححه غير واحد منهم , وقد احتج البخاري ومسلم بجميع
رجال سنده، ولم يخرجاه في صحيحيهما لاختلاف وقع في سماع عروة من بسرة
قال البخاري: إن مروان حدث به عروة , فاستراب , فأرسل مروان رجلاً من
حرسه إلى بسرة فعاد إليه بإثبات الخبر عنها، ومروان مطعون في عدالته وحرسيه
مجهول، ولكن ثبت عن غير واحد من الأئمة أن عروة سمع من بُسرة بعد ذلك كما
في صحيح ابن خزيمة وابن حبان قال عروة: فذهبت إلى بُسرة فسألتها فصدقته.
قال في المنتقى: وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب، ووردت أحاديث
أخرى بمعناه.
وأما حديث: (هل هو إلا بضعة منك) فقد رواه أحمد وأصحاب السنن
والدارقطني من حديث طلق بن علي بلفظ: (الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ قال
صلى الله عليه وسلم: هل هو إلا بضعة منك) صححه عمرو بن الفلاس ورجحه
على حديث بسرة هو وعلي بن المديني والطحاوي وصححه أيضًا ابن حبان
والطبراني وابن حزم , ولكن ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني
والبيهقي وابن الجوزي , وقال قوم: إنه منسوخ. منهم ابن حبان والطبراني وابن
العربي والحازمي لتأخر إسلام بسرة على إسلام طلق، ولما كان عليه الناس من
العمل بحديث بُسرة لأنها حدثت به في دار المهاجرين والأنصار , ولأن من
شواهد حديث بسرة ما رواه طلق نفسه وصححه الطبراني عنه بلفظ: (من مس
فرجه فليتوضأ) .
وجملة القول أن حديث بسرة أصح سندًا لأن رجاله رجال الصحيحين،
وحديث طلق لم يحتج الشيخان برجال سنده، وهو من رواية ابنه قيس عنه , وقال
الشافعي: سألنا عن قيس بن طلق لم نجد من يعرفه، وقال أبو حاتم وأبو زرعة:
إنه ممن لا تقوم به حجة. فالأول أصح سندًا , ومن رأى عند المصححين لحديث
طلق ما ينفي ما طعنوا به على سنده ولم يثبت عنده النسخ , فله أن يحمله على
الرخصة كما قال الشعراني في ميزانه , ويحمل حديث بسرة على العزيمة. أما
ترجيح حديث طلق على حديث بسرة فلا وجه له ألبتة، والله أعلم.
(س٨٦) ومنه: ثم نروم الإفادة عما كان صلى الله عليه وسلم يلبسه من
الثياب في غالب أوقاته , وعما حَثَّ على لبسه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه،
وهل تتبُّع الثياب الفاخرة محمود أو مذموم؟ لا زلتم ممن أحيا السنة وأمات
البدعة.
(ج) كان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس في غالب أوقاته لباس قومه من
الإزار والرداء , ولبس أيضًا من لباس الروم والفرس، وحث على لبس الثياب
البيض، وكان أحب الثياب إليه أن يلبسها الحِبَرَة كما في حديث أنس عند الشيخين
وغيرهم، وهي كـ (عنبة) برد يماني من القطن أو الكتان سمي بذلك لأنه محبر -
أي مزين - بالخطوط والألوان، وكان من أحبها إليه كذلك القميص , كما في حديث
أم سلمة عند أحمد وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وكان يعتَمُّ ويسدل عمامته.
ولم يتسرول ولكنه قال: (ائتزروا وتسرولوا) ونهى عن لبس الحرير المصمت
إلا لحاجة كمرض، وعن المنسوج بالذهب - وتقدم تفصيل ذلك في المنار - وعن
لباس الشهرة، وعن جرّ الثوب خيلاء، وقالوا: إن المراد بثوب الشهرة ما يخالف
به اللابسُ الناس ليرفعوا إليه أبصارهم فيتيه عليهم ويفتخر بلبوسه، وهذا من
السخف والصغار فإن عالي الهمة لا يفتخر بثيابه. ولم ينه عن اللبوس الفاخر مع
حسن القصد، بل لبس ثيابًا غالية الثمن. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد ومسلم
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؛ فقال صلى
الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) أي
احتقارهم. وجملة القول: إن اللبس من الأمور العادية , والدين لا يذم لباسًا، إلا
إذا كان في لبسه ضرر في الأخلاق أو غيرها كالإسراف.