للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين الأفغاني


المقالات الجمالية
(٢)
الشرق والشرقيون
(الشعبة الثانية من المقصد)
في الشواهد التاريخية، على إضاعة الممالك الشرقية
تأمل فيما أقص عليك من أعمال الشرقيين من قبل , حتى تعلم أنهم هم الذين
بحيدانهم عن سنة العقل قد أوقعوا أنفسهم في الذل الدائم، وجلبوا بعدم تدبرهم في
عواقب أمورهم الخراب والدمار إلى بلادهم، وأضعفوا بسوء سياستهم سلطنتهم
القوية، ومكنوا أعداءهم من بلادهم جهلاً منهم بنتائج أعمالهم , وهاهو ذا:
إن العثمانيين قد اتفقوا مع الروس على مقاسمة البلاد الإيرانية حينما تغلّب
الأفغانيون على أصفهان أيام (شاه سلطان حسين) , ولو نظروا بمنظار التدبر إلى
الأمة الروسية وما لها من علاقات مع اليونانيين والرمانيين والسربيين والبلغاريين
وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانية وما يمكنها أن تحوزه في مستقبل أمرها من
القوة والبسطة لَمَا اختلجت ببالهم محالفتها، ولا خطرت في أذهانهم مؤامرتها؛
بل كانوا يسعون في قلع أسها قبل استحكامه، وقطع شجرتها قبل أن تشج عروقها.
وإنهم جاهروا الإيرانيين بالحرب من طريق بايزيد إذ كان عباس مرزأ
بجيوشه يقاومون الروسية ويدافعونها عن بلادهم، فوهنت قوتهم، وضعفت
مريرتهم، واستملك الروس بسبب هذا الاقتحام أكثر بلاد أذربيجان، ولو استشار
العثمانيون عقولهم وقتئذٍ لأشارت عليهم بأن ضعف الإيرانيين وقوة الروس هما
معًا علة تزعزع أركان السلطنة التركية، ولكنهم اتبعوا خطرات أنفسهم، وزينت
لهم أوهامهم، وظنوا أنهم يحسنون صنعًا، فأسرعوا في هلاك أنفسهم وهم لا
يشعرون، وكان عليهم - اهتداء بنور العقل، وسلوكًا في مسلك السياسة الحقة [١]- أن
يلاحظوا الجامعة القوية التي بينهم وبين السلطنة الإيرانية، فيتفقوا معها على كَبْحِ
شَرَه الروسية وإضعاف قوتها، أمنًا من غوائلها، وحذرًا من آفات مطامعها.
وإنهم أي العثمانيين جبهوا سفير (تيبوسلطان) سلطان (ميسور) بالرد حين
عرض عليهم من طرف سيده استبدال البصرة ببعض البلاد الهندية [٢] التي كانت
في حوزته، وامتعضوا من هذا الطلب , وردوا السفير خائبًا وكان غرض
(تيبوسلطان) من طلبه هذا أن يكسر سورة الإنجليز ببسط السلطة العثمانية في الهند
وتمكينها منها.
وذهل العثمانيون تهاونًا منهم عن العلاقات التامة التي بينهم وبين
الهنديين , وأن سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا
معارضة تحت لوائهم , وقدروا حينئذ على قدع الحكومة الإنجليزية عن تطاولاتها في
الهند، وسدوا عليها طرق فتوحاتها في المشرق، وما شعروا تساهلاً في السياسة ,
وتغافلاً عن منهج العقل أن بسطة الحكومة الإنجليزية في آسيا توجب تحكمها في
بلادهم , وطمعها في الاستيلاء عليها , كما وقع الآن حتى مكنوا عساكرها مدة
طويلة من شق الأراضي المصرية ذاهبة إلى أقاصي المشرق للتغلب عليها.
وإن شاه إيران (فتح علي شاه) إرضاء للإنجليز هدّد الأفغانيين بالحرب ,
وقتما أرادوا أن يزحفوا على الهند؛ لانتزاعها من أيدي الإنجليز , ولو استنار
الإيرانيون وقتئذ بنور عقولهم؛ لانكشف لهم أن قوة الإنجليز بالهند إذلال لهم وخطر
على بلادهم، ولعلموا أنهم والأفغانيين غُصْنا شجرة الإيران [٣] وقد تشعبوا من
أصل واحد ونشئوا في أرض واحدة، تجمعهم وحدة الجنسية، وتؤلفهم الأخوة
الحقيقية، وأنهم متساهمون في العز والشرف، ومتشاركون في الذل والهون، وما
فرقت كلمتهم إلا أوهام واهية , نشأت عن الظنون الدينية , وليست منها في شيء ,
ولو راجع كُلٌّ عَقْلَه لرأى وجوب اتفاقهم تحت الوحدة استرجاعًا لمجدهم السابق،
وتداركًا لما فاتهم بسبب الشقاق من الشرف والفخار , وعلو الكلمة بين الأمم.
وإن الأمير (دوست محمد خان) أمير الأفغان قد جعل بلاده - تعاميًا منه -
عرضة لهجمات الإنجليز , فإنه بعد المحالفة مع (ربخت سنكت) [٤] ومعاهدته
على مقاومة الإنجليز , قد تركه اغترارًا بالمواعيد الإنجليزية في ميدان الحرب
وحيدًا , وتقهقر بعساكره فانهزمت جيوش رنجت , وتغلب الإنجليز على جميع
أراضي البنجاب المتاخمة للأفغان، ولو استهدى الأمير (دوست محمد خان) إذ
ذاك عقله وسلك في سياسته سلوك بصيرٍ يتدبر نتائج أفعاله قبل أن يتسرع فيها؛
لتحقق لديه أن صيانة بلاده من هجمات الإنجليز إنما يكون ببقاء الحكومة البنجابية
حريزة , حتى تكون سدًّا مانعًا بين أفغانستان وبين الحكومة الإنجليزية , فكان يدافع
عنها كما كان يدافع عن حكومته.
وإن نواب البنجاله ونواب (الكرناتكر) قد مهدوا للإنجليز سبل دخولهم في
الأراضي الهندية , وإن نواب (لكنهو) أيد مقاصدهم في إذلال السلطنة التيمورية
وأن نواب (دكن) قد أعانهم على إبادة حكومة (تيبوسلطان) وإدلال راجة (بروده)
وقهر الذين قاموا سنة ١٨٥٧؛ لإنقاذ بلادهم , ودفع شر المتغلبين عليها من
الإنجليز [٥] , وكل هؤلاء جهلاً منهم بمنافعهم وعمى عن نتائج أفعالهم المضرة
مكنوا الحكومة الإنجليزية ثقة بمواعيدها مِن الأراضي الهندية، وجعلوا على أعناقهم
نير العبودية، وما عقلوا أن قوام كل بالآخر، وأن بقاءه قد نيط ببقائه، وأن كلا
للآخر بمنزلة العضو من الجسد , فإذا تمكن الداء من عضو سرى في الجميع ,
ولزم منه انحلال البدن كله، والآن نرى الحكومة الإنجليزية بعد استعبادهم , وسلب
أموالهم , ونزع أيديهم عن الملك تعارضهم في ديانتهم , وتزاحمهم في تجارتهم،
وتعاقبهم على نياتهم , وتعاقبهم على أعمال آبائهم [٦] .
وإن أهل بخارى فرحوا بتسلط الروسية على قوقند - والتركمان تبجحوا بغلبتها
على بخارى - والأفغان والفرس قد سروا من استيلائها على التركمان , وكل هذا
غفلة منهم عن المضار التي تنشأ عن قوة الروسية وبسطة سلطتها في تلك الأراضي،
وقد ألقاهم جهلهم بمصالح أنفسهم وإغضاؤهم عن الاستنارة بنور عقولهم في
التهلكة، وأشرفوا كلهم بغرورهم على الزوال والاضمحلال.
وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا ببصيرتهم إلى أركان سلطنتهم المتداعية
إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت أن تنهد بما أَلَمَّ بها
من المصائب، وعلموا بتدبرهم أنّ البلايا تترصدهم من جوانبهم لما تقحموا غرورًا
وضلالة في خلع عبد العزيز , وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم، وتغتنم هفواتهم،
ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة الإنجليزية قد
جلبوا الهلاك والاضمحلال على أمتهم ويظنون أنهم هم المصلحون.
وإن إسماعيل باشا حبًّا بالاستقلال , وعمى عن نتائج أفعاله السيئة , التي
نشأت عن حرصه على اسم الملك قد ألقم الإفرنج جميع أموال مصر , وما استدانه
من صرافي الأوربا (؟) بالأرباح الباهظة، ثم سعى الإفرنج في خلعه عن الملك
ونفيه عن الديار المصرية؛ إرادة استملاكها ووضع اليد عليها , ولو تَرَوَّى في حالة
الشرقيين , وتأمل فيما أصابهم من الذل والصغار؛ لأجل تفرق كلمتهم لازداد
خضوعًا لسلطانه , وسعى صيانة لنفسه في تشييد مباني سلطنته ونزع من قلبه حب
الاستقلال، وعلم أن الذين لا يَفْتُرُون عن السعي في فتح الممالك لا يمكن أن
يساعدوه في مقاصده , وأن وزراء توفيق باشا جهلاً بمقدار أنفسهم، وعجبًا بآرائهم
الفاسدة , واتباعًا لأوهامهم الباطلة قد جلبوا الإنجليز بغاية جهدهم إلى القطر
المصريّ وملّكوهم إياه، وهم يظنون أنهم يستظهرون بهم على أعداء الخديوي، فلو
تدبروا في سياسة الحكومة الإنجليزية ورأوا أطماعها في أرض مصر , لَمَا جلبوا
هذه المصيبة على أنفسهم وعلى خديويهم وعلى سلطانهم , ولما ألقوا أنفسهم في فم
الأسد خوفًا من وعوعة الكلب.
***
فقد ظهر من كل ما ذكرته من سير الشرقيين قدحًا في معاملاتهم أنهم ما سلكوا
في سياستهم سبيل الرشد والهدى، وما استفادوا من عقولهم شيئًا، ولا تدبروا في
عواقب أفعالهم ونتائج أعمالهم، ولا نظروا بنور البصيرة في حالهم ومآلهم، بل
تاهوا جهلاً منهم بمنافعهم في بيداء الغواية، وحادوا عمى عن غاية مسيرهم في تيه
الضلالة , حتى خرّبوا بأيدهم ديارهم، وأبادوا بسوء تصرفهم بلادهم، ومكنوا
الأجانب بمساعيهم الفاسدة من رقابهم. وكان الواجب علي أحفادهم الذين احترقوا
بنارهم، وتدنسوا بعارهم أن يعتبروا بالمصائب التي جلبتها عليهم غفلات أسلافهم
وأن يتقو البليات التي قادتها الغباوة إلى آبائهم، وأن يسعوا في جمع الكلمة، وأن
يتحذروا عن الشتات والتفرقة وضواء، يجتنبوا اراض الشخصية، ويعرضوا عن
دواعي الخطوات الوهمية، ويتنحوا عن مضال الاستبداد والاستئثار.
ولكن تراهم لسبات عقولهم يقتفون آثارهم، ويتبعون أغلاطهم، معرضين عن
العقل وإرشاده، جاحدين للحق وآياته، ارتفعت عنهم الأمانة، وفشت بينهم الخيانة،
وانقطعت بينهم عرى الوداد، وانحلت عقدة الجنسية، كُلُّ ينظر إلى نفسه ويسعى
لمنفعة شخصه، جهلاً منه أن سعادته منبثة في جميع آحاد الأمة , ولا يمكنه أن
يفوز بها إلا بسعادة الكل، ولذلك قد صاروا فقراء لا يملكون شيئًا، حائرين في
معاشهم، ضالين عن رشدهم في مبدئهم ومعادهم، وكاد أن يُقضى عليهم بذل أبديّ
وموت دائميّ، بتلاشي جنسيتهم، وتناثر جمعيتهم.
ومع كل هذا ما فاتهم أوان التدارك، ولا ضاق عليهم زمان التلافي، ولا
أوصدت عليهم الأبواب، ولا انقطعت دونهم الأسباب، ولكن قد تمكن منهم القنوط
وغلب عليهم اليأس، وفترت هممهم، وضعفت عزائمهم، واستكت آذانهم عن
استماع النصائح، وعميت أبصارهم عن رؤية الحق، وقَسَتْ قلوبهم عن الإذعان
له، فتراهم امتدادًا في غيّهم , يريقون دماء هدايتهم ويتّبعون آراء غواتهم، فلا حول
ولا قوة إلا بالله اهـ.
***
(المنار)
إنّ أمةً وُجِدَ فيها مثل هذا الحكيم الاجتماعي السياسي، وانتشرت في بلادها
أمثال هذه الحقائق الرائعة، والنذر الصادعة، لَجديرة بأن تتبين الرشد من الغي،
وتميز بين الحق والباطل، وتزيل بين الضار والنافع، فتجمع كلمتها، وتستعيد
سيادتها، ولكن الفساد الذي أطال الحكيم في وصفه بهذه المقالة قد تجاوز الحدّ الذي
تعقل فيه النذر، وتؤثر النصائح، فقد ازدادت الشعوب الشرقية الإسلامية التي وجه
إليها الخطاب تعاديًا وتدابرًا، حتى سقطت الدولة الثمانية بجهالة رجالها وضلالهم
وفساد عقائدهم وأخلاقهم، ولكن لم يفعل أحد في القديم ولا في الحديث شرًّا مما فعله
أمير مكة الشريف حسين وأولاده , فقد تجاوز جهلهم وفساد عقولهم وأنفسهم كل حد؛
بأن أحدثوا ثورة عربية؛ لمساعدة الدولة البريطانية وأحلافها على إسقاط الدولة
العثمانية , واستبعاد الشعوب العربية بإغراء هذه الدولة التي بيّن لنا السيد الحكيم
بعض أفعالها في ثل عروش الدولة الشرقية، وأساليبها في الطرق الاستعمارية،
وخداعها للملوك والأمراء بالوعود الكاذبة , والعهود الغارّة، ما لا يدع مجالاً لثقة
أبلد البلداء بها، وقد استولى الإنكليز وأحلافهم من الفرنسيس على سائر البلاد
العربية العامرة، ذات الغلات الوافرة، من حدود مصر إلى خليج فارس، ولا
يزالون هؤلاء الخونة المتحلون بلقب الشرفاء , يوطدون سلطة الاحتلال في تراث
سلطنتي العرب الكبريين - سورية والعراق - ويمكنونها من الإحاطة بالحجاز
ونجد، حتى لا يبقى للأمة العربية ملجأ مستقل في هذه الأرض.
وأغرب من هذا وأعجب أنه لا يزال لهؤلاء الأفراد حسين بن علي وأولاده
أنصار وأولياء في فلسطين وسورية والعراق بعضهم من الخونة المأجورين،
وبعضهم من الأغرار المأفونين، وسيسجل عليهم التاريخ اللعنة إلى يوم الدين.
****
التشريع الإسلامي ومؤتمر الخلافة [*]
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة:
٤٨) {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: ١٨) .
الإسلام هداية روحية غايتها سعادة الدنيا والآخرة، وبدايتها ترقية العقل
بالعقائد الصحيحة السليمة من نزعات الشرك وأوهام الخرافات، وتزكية النفس
بالعبادات المشروعة , التي تعرج بها إلى مناجاة الرب تبارك وتعالى كفاحًا بدون
واسطةِ وزراءَ ولا حجاب , وبالآداب العالية ومكارم الأخلاق، التي تهنأ بها
المعيشة الشخصية والمنزلية , وترتقي شؤون الحضارة والاجتماع، حتى تعم
الأخوة جميع طبقات البشر من جميع الشعوب والأجناس، وهو مع ذلك نظام مدني
سياسي يساوي بالعدل بين جميع الأفراد وجميع الطبقات من جميع الملل والنَّحل،
ويقرن الإحسان بالعدل، حتى في ذبح الحيوان للأكل، وينهي عن الفحشاء والمنكر
والبغي، وقد أبطل السيطرة الشخصية التي كانت للملوك على الأجساد، والهيمنة
الروحانية التي كانت للكهان على العقول والأرواح، وجعل السلطان في الحقوق
بأنواعها للشريعة العادلة المستمدة من الوحي، أو المستنبطة باجتهاد جماعة أولي
الأمر، وتشاور أهل الحل والعقد، وقيد طاعة الأئمة والأمراء بالمعروف، وأرشد
بالورع الشخصي إلى استفتاء القلب، وتحكيم الضمير فيما يشتبه من الأمر.
فالإسلام هو دين الحرية الكاملة برفعه ما كان من استرقاق الملوك والرؤساء
للبشر في أمور دينهم ودنياهم، والسيطرة عليهم في تصرفاتهم البدنية، وأفكارهم
العقلية، وعباداتهم الاعتقادية، وإبطاله تمييز بعض الشعوب وبعض الطبقات من
الشعب الواحد على البعض الآخر، وبتسويته بين الملوك والأمراء، والأغنياء
والفقراء، والرؤساء الدينيين والدنيويين في جميع الحقوق الشرعية المتعلقة
بالدماء والأموال والأعراض، بحيث يقتص من القوي للضعيف، ومن الكبير
للصغير كما أمر الخليفة الثاني الفاتح الأعظم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه الرجل الفزاريّ من ضعفاء السوقة بأنْ يلطم جبلة بن الأيهم ملك غسّان بما
لطمه، إلا أن يرضيه فيعفو عنه، وكما عزّر عمرو بن العاص فاتح مصر بضرب
ولده لغلام قبطي. وأمر بأن يضربه القبطي كما ضربه، وقال في ذلك كلمته
الحكيمة التي يفاخر المسلمون بها جميع أهل الملل، ويفاخر العرب بها جميع
الشعوب والأمم، وهي: (يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)
هذا ما قاله أمير المؤمنين لقائده فاتح مصر وعامله عليها.
وليس ما ذكرته من المثل عن عمر إلا تنفيذًا لتشريع القرآن المجيد الذي جعل
العدل عامًّا، والقيام بالقسط أمرًا واجبًا، لا يحابى فيه قريب على بعيد، ولا وليٌّ
على بغيض، ولا غني على فقير، كما هو منصوص في الآية١٣٤ من سورة النساء ,
والآية التاسعة من سورة المائدة، بالصيغ العامة المطلقة التي يدخل فيها المؤمن
والكافر، والبر والفاجر , وثَمَّ آيات خاصة بغير المسلمين كقوله تعالى في قضية
لليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة:
٤٢) .
وأَبْلَغُ مِن هذا ما ورد في قضية بين مسلم ويهودي , كان المسلم فيها مذنبًا
واليهودي بريئًا , فنورد أخصر ما قيل فيها من تفسير (الجلالين) لسورة النساء
قال الجلال: وسرق طعمة من أبيرق درعًا , وخبأها عند يهودي , فرماه طعمة بها
وحلف أنه ما سرقها فسأل قومه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنه ويبرئه
فنزل {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن
لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطاً * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} (النساء: ١٠٥-١٠٩) هذا في تهديد قوم طعمة
السارق المُتَّهِم لليهودي , إذ كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى صدقهم وَهمَّ
بالجدال عن صاحبهم , لولا وحي الله تعالى له ببيان الحقيقة. ثم قال الله تعالي
لرسوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا
يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: ١١٣)
بعد هذا التمهيد أقول: إن أصول التشريع الإسلامي هي أرقى تشريع لم
يسبق بمثله. أفليس من أكبر البلاء وأعظم الخطوب في الإسلام أن تجهل بعض
الحكومات الإسلامية هذه المزاية فيه , بل تعيبه بأنه عثرة في طريق الحضارة
والقوة، وتبيح لنفسها أن تنبذه ظِهْريًّا بتدريج بطيء أو سريع , وتستبدل به تشريعًا
دونه في نفسه، ودونه في موافقته لصالح الأمة التي كان له أعظم التأثير في
تكوينها، ودونه تأثيرًا فيها ترجو من تجديد حضارتها، ودونه فيما يجب أن تتوخاه
من حسن الاتصال بالأمم المرتقية في علومها ونظمها، بله الاتصال والمودة مع
الشعوب التي تدين لله تعالى بأصول هذه الشريعة وفروعها.
أليست الأمم وليدة التاريخ وربيبته؟ أليس التشريع من مقوماتها التي تفصل
بينها وبين غيرها؛ كالفصول الطبيعية التي تفصل في عرف علماء المنطق بين
أنواع الجنس الواحد؛ كالحيوان والنبات؟
كثر بحث دعاة التجديد في الشعوب الإسلامية في هذه المسألة , وكثر إلقاء
التبعة فيها على علماء الشرع ورميهم بالجمود.
وربما يدور البحث في مؤتمر الخلافة، هذا في مسألة المذاهب والآراء في
التشريع وهي ثلاثة: رأي الملاحدة الذين يرون أن التزام الشريعة الإسلامية تدينًا
مانع من تأليف دولة قوية في أمة ذات حضارة راقية , ورأي الذين يرون وجوب
التزام تقليد أحد المذاهب المتبعة كما هو مدوّن في الكتب المتداولة مهما يكن تأثيره
في الأمة والدولة، وأنه لا يجوز استحداث شيء من العلم والفنون والأعمال إلا إذا
دلّت على جوازه , ورأي الحزب الوسط الجامع بين معرفة أحكام الشرع وحكمه
وأسراره وبين شؤون العصر، وقد فاز حزب مصطفى كمال باشا من أهل الرأي
الأول في الحكومة التركية الجديدة بعد تمهيد طويل سبقه إليه الاتحاديون وغيرهم
من ملاحدة الترك، واشتدّ النزاع بين الحكومتين الإيرانية والأفغانية , وبين
أصحاب الرأي الثاني فيهما المعارضين لكل إصلاح مدني جديد لم يعهد من قبل،
حتى اضطرت الحكومة الأفغانية إلى قمع ثورات المعارضة منهم بالقتال، وذكرت
البرقيات والجرائد أن مثيري الناس على الأمير هم العلماء، ولا غَرْوَ فمن سنن الله
في الأمم أن المتشدّدين في المحافظة على القديم المألوف ينكرون كل محدث وإن
كان معروفًا، ويسكتون على القديم وإنْ كان منكرًا، وضدهم الغلاة في طلب
التجديد , فهم يحبذون كل جديد وإنْ كان قبيحًا، ويقبّحون كل قديم وان كان حسنًا.
والحق والصواب أن في كل من القديم والجديد من المنافع والمضار ما يحكم
فيه بحسب وصفه، لا بحسب جدته وقدمه، والجديرون بصحة الحكم في ذلك هم
الذين عالجوا الأمرين من أهل العلم والبصيرة والاعتدال في الرأي، ويقل أن يوجد
في علماء الأفغان الدينيين أمثال هؤلاء , الذين يعرفون اضطرار حكومتهم إلى الأخذ
بالنظم العصرية التي بها حفظ بلادهم , ويعلمون أنه لا بد لهم من توسيع ثروة
بلادهم بالطرق الزراعية الجديدة، ومِن الأخذ بأسباب الصناعات الحديثة , وإن كل
ذلك يتوقف على العلوم الكونية , التي يُعْرَف بها ما أودعه الله في الماء والهواء
والكهرباء وغيرها من الخواص والمنافع والفنون التي يتوقف عليها صنع الآلات
التي تستخرج بها تلك المنافع , ولو عرفوا هذا كله لعرفوا أن هذه العلوم والفنون
والصناعات التي أدخلتها حكومة أميرهم في بلادهم هي من فروض الكفاية شرعًا.
وأما فقهاء الترك ومصر وتونس وأمثالهم فيعلمون هذا علمًا قطعيًّا؛ لأن
المشاهدة أثبتت لهم من الضروريات , ولكن هنالك أمورًا أخرى شعرت حكوماتهم
بالحاجة إليها قبلهم، ولا تزال خفية على أكثرهم، وهي ما يتعلق بالتشريع، فقد
تجددت للناس أقضية كثيرة بما حدث من النظام المالي والمعاملات المدنية:
كالشركات , والمصارف المالية , والمعاملات الأجنبية , والمعاهدات الدولية من
سياسية وتجارية وغيرها. اشتدت حاجة هذه الحكومات إلى وضع أحكام لهذه
الأمور , حتى وصلت إلى حد الضرورة، فلّما لم تجدها عند فقهائها لم تجد بُدًّا من
اقتباسها من بعض الحكومات الأوربية , واستتبع الضروري منها ما ليس بضروري
حتى تحول التشريع عن القواعد والأصول الإسلامية.
وغرضنا من بيان هذا أنه قد يكون من مندوبي الشعوب الإسلامية في هذا
المؤتمر من يرى أن يكون الخليفة الذي يختارونه حاكمًا بالشرع المدون في كتب
الفقه: كمندوبي جزيرة العرب وأمثالهم، وقد يكون منهم مَن يرى أن يكون مدنيًّا
يجاري في حكومته أرقى حكومات العصر في العلوم والفنون والحضارة والقوة
كمندوبي الهند وشمال أفريقية، ولا سبيل للجمع بين الأمرين، وجعل نظام الخلافة
مُتَّفقًا عليه من الفريقين، إلا بإظهار الشرع الإسلامي بقسميه التنزيلي والاجتهادي
في أسلوب من البيان، يعلم به موافقته لحال هذا الزمان في كل مكان.
ولا يوجد قطر إسلامي أجدر بهذا العمل من القطر المصري، فإنه عمل لا يَتِمُّ
إلا بالتعاون بين الراسخين في العلوم الشرعية ومذهب المجتهدين فيها وبين
المطّلعين على قوانين أمم الحضارة ونظمها وعلومها وفنونها , فمصر أهل للقيام
بهذا الأمر العظيم وحدها، فكيف إذا وفد عليها من علماء سائر الأقطار وزعمائها
من يكونون أفضل الأعوان لها؟ ألم تر أن كبار علماء الشرع فيها هم الذين
اضطلعوا بالدعوة إلى مؤتمر الخلافة , وتولوا الدعوة إليه، ورأوا أن يشاركهم في
إدارة العمل بعض علماء القوانين العامة والطب والسياسة وغيرهم؟ وما كان أحد
ينتظر هذا من الصنف الذي كانت تلقى على عاتقه تبعة نبذ الشريعة، وقد كان
علماء الترك أجدر منهم بالسبق إلى هذا الأمر بما كان لهم من النفوذ الرسمي في
دائرة المشيخة الإسلامية مع النفوذ الروحي في الأمة، وهم سياج الدولة التي كانت
تمثل الخلافة.
فيالها من فرصة سنحت للأمة الإسلامية ما سمحت بمثلها العصور الخالية،
فحيا الله مصر وعلماء مصر وجميع رجال الإصلاح في مصر، فقد كانوا بهذا
العمل أمة وسطًا بين أهل التفريط والإفراط في أم المصالح الإسلامية , كما كان
بلدهم وسطًا بين الأقطار الإسلامية، وسيقرب هذا المؤتمر بين المخلصين من
الواقفين على الطرفين فيجذبهم إلى الوسط، ويزيل شبهات علماء الأفغان وأمثالهم
ما يظنون من التعارض بين الشرع والفنون , التي يتوقف عليها نظام القوة وثروة
الأمة وتعزيز الدولة، كما أنها ستدحض شبهات الذين يظنون أن الشرع الإسلامي
يحول دون ارتقاء الأمم إلى أرقى معارج القوة والعزة وأوج الحضارة، ففي أي
مكان يرجى مثل هذا كما يرجى في مصر؟ أفي الآستانة التي ألغت حكومتها
الخلافة , وتبرأت من اسمها ومسماها؟ أم في مكة المكرمة وهي في اضطراب
حزبي بين حكومتين , ولم يكن في أهلها منذ قرون من يَصْلُح لِمَا ذكرنا في هذا
المقال من أعمال المؤتمر , وهو بعض وظائفه التي ستبين في هذه المجلة.
****
الوهابيون والحجاز
(٣)
بيّنا في المقالة الثانية جُلَّ الأسباب العامة لإنقاذ الحجاز من السيد حسين
المكي المستبد فيه التي يعدها السلطان عبد العزيز بن سعود موجبة شرعًا للقيام بهذا
العمل لمن قدر عليه مثله، وإذا كنا نكتب أمثال هذه المقالات في فترات قصيرة ,
نختلسها من شواغلنا الكثيرة اختلاسًا , نسينا أن نذكر في تلك الأسباب عجز
المتغلب على الحجاز عن حفظ الأمن بين الحرمين الشريفين , ونكثه للعهود التي
عاهد أعرابها عليها حين دعاها إلى الثورة والخروج على الدولة العثمانية , وهو أن
يعطيهم في كل سنة ضعفي ما كان مرتبًا لهم من الأموال التي كانت ترسلها الدولة
إلى الحجاز لإعانة أهله , فكان يعطيهم في سني الثورة , ثم منعهم بعدها كما منع
أكثر المستحقين للإعانات التي ترسل من مصر؛ فاضطروا إلى منع الناس من
زيارة حرم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من يؤدي لهم ما فرضوه بدلاً مما كانوا
يأخذونه , كما فصلناه في المنار.
***
الأسباب الخاصة بنجد لزحف أهلها على الحجاز
ونبين الآن ما نتذكره من الأسباب الخاصة بالنجديين , وهي ترجع إلى
غرض واحد هو إزالة استقلال سلطنة نجد , وجعلها تابعة لما يسميه الممالك العربية
الهاشمية، والأسباب التي نذكرها حجج ناهضة تدل على ذلك وهي:
(١) إننا عقب انكسار الدولة العثمانية في الحرب البلقانية , وضعنا مع
بعض أهل الغيرة العربية والإسلامية خطة لوقاية بلاد العرب من استيلاء الأجانب
عليها , ومنها جمع كلمة أمراء العرب , ووضع اتحاد حلفي بينهم؛ لإزالة العدوان،
والتعاون على حفظ البلاد العربية وصيانتها من تعدي الأجانب، والفصل في
المنازعات الداخلية بين أولئك الأمراء ومَن دونهم من القبائل بالتحكيم ...
وقد تولى كاتب هذه المقالات تبليغ أمراء اليمن ونجد وعسير ذلك , فجاء
منهم مكتوبات بالاستحسان وطلب التفصيل وطرق التنفيذ٠٠٠ وعهد إلى شريف
عبد الله أن يبلغ ذلك والده حسينًا إذا كان يرجح قبوله له , ولما وقعت الحرب
الكبرى , ودخلت الدولة العثمانية في حلفي دول أوربا الكبرى , وشرعت الدولة
البريطانية تخادع جميع أمراء العرب وزعمائهم؛ لتستخدمهم وتستعين بهم على
الدولة , ثم على أنفسهم لتكافئهم على ذلك بسلب استقلالهم , اشتدت الحاجة إلى
تحالفهم واتفاقهم على صيانة البلاد العربية , والاحتياط لحفظ استقلالها إذا قهرت
الدولة العمانية وانكسرت مع أحلافها، ولما انخدع أمير مكة هذا للرقية البريطانية
بسوء سريرته وجهله بشؤون السياسة صارت الحاجة إلى ذلك أشد، وقد أخبرني
ولده السيد عبد الله أنه ذكر له اقتراحي , ولكن وقعت الحرب عقب ذلك , فشغلتهم
الثورة عن إعادة القول فيه، أخبرني بهذا في مكة المكرمة بعد إتمامنا مناسك الحج ,
ورغّب إليَّ أن أكلم والده فيه , فكلمته وذكرت له شيئًا من خداع السياسة , وكون
الاستفادة منها منوطة بالقوة ٠٠٠ ولما صرحت له بالمسألة اعتذر عنها بأنه إذا
خاطب جيرانه بذلك يظنون أنه عاجز عن مقاومة الترك ويريد مساعدتهم , وأن
الرأي أن يرجئ ذلك إلى أن يستولي على المدينة , ويخرج الترك من الحجاز كله،
فقلت له: لا نكلفكم مخاطبة أحد منهم , بل نحن نتولّى ذلك , ونرجو النجاح فيه،
وإنما نرجو أن نكون على بيّنة من رأيه فيه , وثقة من رضاه وقبوله للاشتراك فيه
إذا أقنعنا سائر الأمراء ... فلم يقبل، حتى إنني قلت له: إنني أضمن لكم قبول
صاحب نجد وإذا احتيج إلى ذهابي إليه بنفسي فإنني أفعل، فلم يقبل، ثم قال أمام
بعض بطانته أو حاشيته: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا
رجل يقال له ابن سعود وغدًا لا يوجد في الدنيا ابن سعود ...
(٢) إن أول عمل عمله بعد الاستيلاء علي المدينة المنورة عقب خروج
الترك منها بعد هدنة الحرب - وقد عجز عن أخذها منهم بالقوة - أنه جمع كل ما
كان يقاتل به الترك هنالك من الجند النظامي واليدوي مجهزًا بأحدث الأسلحة , ولا
سيما المدافع والرشاشات وقنابل اليد , ووجههم بقيادة ولده السيد عبد الله إلى الشرق؛
لاسترداد الخرمة وتربة فالزحف على نجد، وكانت تلك أعظم قوة حربية اجتمعت
لهم في الحجاز , يدير حركتها زهاء مائة ضابط عربي جلهم من ضباط العراق
البارعين، ولما وصلوا إلى الخرمة باغتوا أهلها وهم في صلاة الفجر , ففتكوا بهم
وهم يصلون شر فتكة ... فاستنجد الشريف خالد عامل الخرمة الإخوان
(الوهابيين) فزحفوا على ذلك الجيش المنظم، فكانوا قضاء الله المبرم، اصطلموا
الجيش وغنموا سلاحه وكراعه وذخيرته , وقتلوا أكثر من ثمانين ضابطًا هم خيار
ضباطه وفر الشريف عبد الله منهزمًا بزي الإخوان مقلدًا لهم في كلامه.
(٣) إن السيد حسينًا لم يقترح على الإنكليز في (مقررات النهضة) أن
يؤسسوا المملكة العربية , ويتولوا حمايتها وصيانتها (من الداخل والخارج) إلا لِمَا
في قلبه من العداوة لابن سعود والخوف منه، وهو هو الذي يعنيه بقوله في مادة
الحماية الذي ذكرناه في المقالة الثانية (أو حسد بعض الأمراء) فابن سعود أولى
الناس بثل هذا العرش المبني على جعل الحرمين تحت حماية غير المسلمين خوفًا
منه، وها نحن أولاء نقرأ في جميع الصحف ما جاء في البرقيات من (لندن) من
استغاثة الشيخ حسين هذا بالدولة البريطانية ومطالبتها بإنقاذ الحجاز من الوهابية،
فالإنكليز يتنصلون من الاعتراف أمام العالم الإسلامي بحمايتهم للحجاز؛ لما يعلمون
من كراهة المسلمين لذلك , وعدّه اعتداءً عليهم في دينهم وهو لا يستحي من الجهر
بمطالبتهم بذلك ومكافأتهم عليه بتوقيع (المعاهدة البريطانية العربية) على علاتها،
وإنْ كرِهَ أصدقاؤه من أهل فلسطين تضمنها لاعترافه بالانتداب البريطاني ووطن
اليهود القومي في بلادهم، وكره جميع المسلمين ما جعل للإنكليز فيها من الحقوق
في الحجاز وفي معاملة الحجاج! ومتى كان يبالي بالمسلمين أو غير المسلمين إذا
رضي عنه الإنكليز؟ ولكن مِن مصلحتهم الآن أنْ لا يرضوا عنه ولا ينصروه ,
وهم أعرق الناس في بناء سياستهم على المصالح لا كما يصفهم بأنهم يعملون
بمقتضى (الحسيات) بالمعنى الذي يفهمه هو.
(٤) إن هذا الرجل قد شرع منذ سمى (نفسه) ملك العرب وصاحب
الممالك العربية , وبايعه مستضعفو مكة وجدة في الجهر بالملك وفي السر بالخلافة
الإسلامية (كما قالوا أخيرًا عند تجديد البيعة) ؛ شرع يطعن في دين الوهابية
وعقائدهم , ويرميهم بالكفر وتكفير المسلمين تمهيدًا لقتالهم وأخذ بلادهم , ولم يكتف
في ذلك بما نشره في جريدته (القبلة) بلسانها؛ بل صرح بذلك مرارًا في مقالاته
ومنشوراته الرسمية؛ كالمنشور الرسمي الذي نشره في العدد ٢٠٢ المؤرخ في ٢٤
شوال سنة ١٣٣٦ , والمنشور الرسمي الذي أصدره في غرة ربيع الأول سنة
١٣٣٧ , والمنشور الرسمي الذي نشره في عدد ٨ جمادى الأولى سنة ١٣٣٧.
وقد صرح في المنشور الثاني بعزمه على محو بدعة الوهابية (خدمة للدين
وتنزيهًا له مما في هذا الزيغ والضلال , وسلامة البلاد من سيئاته) وذكر في الثالث
أنه معهم في موقف دفاع ثم قال: (فنحن نحرر منشورنا هذا علاوة على ما سبق؛
ليعلم القاصي والداني أنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئهم فلا بد
للسلطان من قتالهم بكل موجوديته) .
وهذان النصان الرسميان إنذار بأنه يرى وجوب قتالهم؛ لأجل دينهم وإكراههم
على ترك عقائدهم وما يدينون الله به , وأنه هو سلطان المسلمين , ويفعل هذا
أصالة ونيابة عنهم، فإذا كان صرح بهذا والدولة العربية التي اقترح على العظمة
البريطانية تأسيسها له وهم من الأوهام , والخلافة التي رضيها له ملك الإنكليز حلم
من الأحلام , فماذا عسى أن يفعل بهؤلاء النجديين إذا استقر ملك أولاده في العراق
والشام، ورضي الإنكليز بأن يؤلف بهم الوحدة العربية وقد سبق فادعى لنفسه الخلافة
الإسلامية؟ اللهم الطف بعبادك وارحمهم برحمتك، وأنقذ من هذا الطاغوت أهل
حرمك، ولا تسلطه على أحد من خلقك (كتبت هذه المقالة قبل وصول خبر خلعه
ولكن تأخر نشرها) [**]
قلنا في مقال سابق: إن رميه الوهابيين بالمروق من الدين، واستحلال دماء
المسلمين، قد اتبع فيه سلفه الطالح عند ظهور أمرهم في فجر القرن الثالث عشر
للهجرة، ونذكر هنا ما فاتنا هنالك من شهادة التاريخ على ذلك؛ لاتحاد العلة
والمعلوم في فساد الأول والآخر، ولأنها من الشواهد على ما قيل: من (أن التاريخ
يعيد نفسه) :
قال المرحوم محمود فهمي باشا المهندس المصري في الجزء الأول من
تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام على الوهابية:
(ومن بعد مدة استمرت في محاربات شديدة، ووقائع عتيدة، دخل جميع
بلاد العرب في العقائد الوهابية، أي العقائد الإصلاحية للديانة الإسلامية، وصارت
نجد أيضًا في حالة سياسية مدنية جديدة، وبدل أن كانت جهاتها منقسمة إلى عدة
عشائر وشعوب صغيرة منفصلة عن بعضها [٧] ومستمرة في حروب وكروب بين
بعضها [٨] صارت مقر دولة قوية، وسلطنة سياسية، مثال سلطنة الخلفاء القدماء
ولرئيس هذه الدولة السلطة في الأعمال الدينية والدنيوية.
و (مع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم
يَعْتَدُوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت
قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو
انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة. وفي سنة
١٧٨١ بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة،
فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الحسد في قلب الشريف غالب، وفي
ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف مكة [٩] بعد الشريف سرور ,
أعلن حربًا على الوهابية , وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو
متقطعًا بهدنات صغيرة قصيرة المدة , ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع
الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة يمكنه أجراؤها في تمكين الدولة
العثمانية من دخول عساكرها في بلاد العرب؛ لأجل الوقوع بالوهابيين [١٠] إلا
وأجراها وأثبت [١١] أنهم من الملحدين الكافرين , وأن معاملتهم في قوافل الحجاج
التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة بالدين اهـ. المراد منه هنا بحروفه على
ما فيه من غلط لغوي (راجع ص ١٧٣ و١٧٤ منه)
ثم قد أعقب هذا الافتراء والإفساد أن أمرت الدولة العثمانية حكومة بغداد بقتال
الوهابيين ففعلت , فلما اشتغل الوهابيون بقتال الدولة ودخلوا العراق , زحف
الشريف غالب على نجد واستولى على قرية فيها , فكان هذا هو السبب لزحف
الوهابيين على الحجاز وفتحه. والآن يريد خلفه حسين أن يهيج عليهم العالم
الإسلامي كله والعالم الأوربي أيضًا , بما يرسله من البرقيات التي يلفقها بأسماء
مجهولة لحجاج رعايا الدول الأوربية، أو معروفة كلجنة مؤتمر الجزيرة التي ألفها
بمكة للفساد والإفساد في البلاد العربية، فهو الذي كتب تلك البرقيات , وهو الذي
أرسلها إلى البلاد والأقطار والصحف ووكلاء الدول وجمعية الأمم [***] , من غير
أن يُكَلَّفَ أحدٌ منها قرشًا من أجورها، ومن غرائب غفلات البشر أن وجد منهم من
يصدق ما قيل فيها من اتهام الوهابيين بارتكاب الفظائع التي لا يستبيحون شيئًا
منها، وحسبهم أنها شهادة ممن عرف بالكذب على عدوه , وأقرب ما اشتهر من
كذبه في جريدته (القبلة) , ومن كذبه في منشوراته الرسمية ادعاه مبايعة العالم
الإسلامي له بالخلافة حتى مدن مصر المشهورة.
(٥) شن الغارات عليهم وبدأ بقتالهم عند كل فرصة سنحت له، وأكبر
هذه الغارات زحف ولده عبد الله بأكبر قوة اجتمعت له بعد إخلاء الترك للمدينة
المنورة , عقب هدنة الحرب العامة وهي التي ذكرناها في السبب الرابع آنفًا ,
وأوسطها زحفه على منطقة عسير في إثر وفاة السيد محمد علي الإدريسي الذي كان
قد تخلى عنها لسلطان نجد، وفي إثر تنكيل الوهابية بحملته , هنالك وقعت حادثة
حجاج اليمن الذين اعتقد الوهابيون أنهم نجدة منه , فأطلقوا عليهم الرصاص، وبعد
أن عرف الأمر اعتذرالسلطان عبد العزيز للإمام يحيى عن هذا الخطأ , واتفقا على
حفظ المودة بينهما بتعويض مقبول معقول، ولكن حسينًا كان أمطر العالم كله
برقيات في التشنيع على الوهابيين.
وآخر هذه الغارات حملة ولي عهد حسين الأمير علي على الوهابيين بالقرب
من خيبر , وقد مهد لذلك بخدعة هو بارع بأمثالها.
ذلك بأن أعلن عقب زيارته لشرق الأردن في أواخر العام الماضي بأنه قد عفا
عن المسجونين والمعتدين , وأباح المرور والدخول في المدينة المنورة وسائر
الممالك الهاشمية! ! وأنه لا حرج على النجديين في التجارة في بلاد الحجاز، ولما
تبعه نجله وولي عهده السيد علي أمير المدينة المنورة [١٢] إلى شرق الأردن أمره
بتأليف حملة؛ لغزو عرب ابن سعود المخيمين بالقرب من خيبر إذ يكونون وادعين
هنالك، مغترين بذلك التأمين العام والعفو الشامل، فألفها من ستمائة هجان
وأربعمائة فارس بقيادة الشريف جعفر بن سلطان ففتكت بالإخوان المتفرقين في
الأطراف , وسلبت أموالهم ومواشيهم , وهمت بالرجوع , ولكن نبأها كان وصل
إلى الإخوان الذين في جهة خيبر, فأتبعوها وفتكوا بها فتكة لم يسلم منها إلا أفراد من
فارة الهزيمة , واسترجعوا جميع ما أخذت ووصل قائد الحملة الشريف جعفر إلى
المدينة المنورة مضرجًا بدمه , فكان من سوء تأثير هذه الحملة أن زالت بقية الثقة
بأقوال (ملك جميع البلاد العربية) على ما أضيف إليه من لقب (الخلافة الإسلامية)
وانقطعت سبل التجارة بين نجد والمدينة المنورة , كما انقطعت مع مكة قبلها ,
وكان ذلك سببًا لشدة غلاء اللحم والسمن في الحجاز كله.
على أن الأمير عليًّا أذاع في جرائد سورية وفلسطين وغيرهما وجريدتهم قبلة
الكذب أن بعض الوهابيين حاولوا الاعتداء على سكة الحديد الحجازية , فأدبتهم
الجنود الهاشمية، أو ما هذا معناه. هذا ملخص ما كتبه إلينا بعض رجالهم بل
ضباطهم.
(٦) بث حسين الدسائس وإغراؤه للعداوة والفتن بين نجد والبلاد المجاورة
لها , منذ اعتقد أن الحجاز صار ملكًا له , وأنه سيكون في خاتمة الحرب ملكًا على
جميع البلاد العربية , بما كان يكتبه إلى ابن الرشيد وآل عايض وغيرهم، وهذا
أمر قد أذاعته حكومة نجد في البلاغ الذي نشره الأمير فيصل نجل سلطان نجد في
جرائد مصر وغيرها المؤرخ في ٢٠ رجب سنة ١٣٤٢ وقد جاء فيه ما نصه:
(إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة والخرمة وعسير ما
يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم , ولو أدى ذلك إلى هدم بناء العرب , ولكننا نمسك عن نشرها الآن , فإن سمح لنا ملك الحجاز
بنشرها نشرناها , وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس)
إلخ.
(٧) ما ذكر في هذا البلاغ النجدي الرسمي من بث حسين الدسائس في
بريدة من بلاد نجد , وإغرائها بالخروج على حكومتها.
(٨) إنه كان سببًا في فشل مؤتمر الكويت؛ إذ اشترط في الاتفاق مع ابن
سعود تركه لبعض بلاده كما هو مشهور [****] .
فعلم من هذه الأسباب أنها تفصيل لخطة حسين فيما سماه الوحدة العربية التي
ذكرنا نص عبارته الرسمية فيها في المقالة السابقة , وهي واضحة في أنه لا يقر له
قرار حتى يزيل سلطنة نجد من الوجود , ويجعل بلادها تابعة له , وهذا كافٍ في
عُرْفِ كل دولة وكل حكومة في العالم لمقابلته بالمثل، ولكن السلطان ابن سعود لم
يحفل يومًا ما بعداوة شريف مكة؛ لعلمه بضعفه وعجزه، أن ينال منه منالاً , وقد
صرح تصريحًا رسميًّا بأنه إنما ينقذ الحجاز من ظلمه وبغيه؛ لأجل المصلحتين
الإسلامية والعربية اللتين فصّلنا أسبابهما في المقالة السابقة , وسنيين في المقال
التالي وجه الوجوب الشرعي لهذا الإنقاذ ممن سمى نفسه (المنقذ) , ونبين أن هذا
خدمة جليلة للمصلحتين بالدليل والبرهان.
****
الوهابيون والحجاز
(٤)

بينا في المقالة الثانية الأسباب العامة التي توجب إنقاذ الحجاز من طاغوت
مكة حسين بن علي على مَنْ قَدَرَ عليه من المسلمين كأهل نجد، وفي المقالة الثالثة
الأسباب الخاصة بأهل نجد أنفسهم، ونسينا أن نعد منها منعهم من التجارة في
الحجاز , بل جاء بالعرض وهو الذي كان من أسباب شدة غلاء السمن واللحم في
مكة كما بيناه في المنار من قبل، وقلنا: إن هذه الأسباب الخاصة كافية في البعث
على القتال عند كل أمة ودولة، ولكن سلطان نجد لا يبالي بعداوة حسين له لبلاده،
ولا بمظاهرة أصحاب الألقاب الفخمة له من أولاده، الذين لم يستح كل واحد منهم
بإظهار الاحتقار له بمثل قولهم ليس ابن سعود إلا شيخ عشيرة أو قبيلة؛ وإنما هو
يرجح الواجب الشرعي والمصلحة العامة الإسلامية والعربية على المصلحة النجدية
الخاصة، ونحن نؤيد قولنا بالوثائق الرسمية حقيقة أو حكمًا كما أيدنا كل موضوع
مما بيناه في المقالات الثلاث.
نشرنا في المنار ثلاث وثائق صدرت من الرياض عاصمة آل سعود فيما بين
الحجاز ونجد من الخلاف , سبقنا إلى نشرها كثير من جرائد مصر وغيرها من
البلاد الشرقية ولا سيما العربية:
(الأولى) : بلاغ بإمضاء الأمير فيصل نجل السلطان عبد العزيز آل سعود
عنوانه (للحقيقة والتاريخ) وجْهه إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي في ٢٠
رجب سنة ١٣٤٢ , يتضمن سعي سلطان نجد في أثناء الحرب وبعدها لبناء الوحدة
العربية , ومقابلة الملك حسين له بالاستهزاء , وسعيه لنقض بنيانها بما كان يسعره
من نار الفتن والدسائس) إلخ , وقد حدثنا من سمع من لسان السلطان عبد العزيز
آل سعود أن فيما كتبه إلى ملك الحجاز أن يكون هو (أي الملك حسين) رئيس
الوحدة العربية المقترحة ٠٠٠ فهزئ به ولم يرد عليه، وفي هذا البلاغ إنذار للملك
حسين بنشر المكتوبات التي وجدت بإمضائه في تربة وعسير والقصيم في الحث
على الإفساد والفتن إذا هو مارى فيها
(الوثيقة الثانية) : بلاغ آخر منه (للعالم الإسلامي والشعب العربي) صدر
من الرياض في ٢٨ شوال سنة ١٣٤٢ افتتحه بأنه منذ بضع سنين قام نفر من
العرب يطالبون باستقلال شعبهم واتحاد أمرائه , فحمدت حكومة نجد سعيهم (قال) :
(وعرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم
في بلاد العرب , فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل الخطير , ويأخذوا على عاتقهم
مسئوليته , ويحوزوا وحدهم فخر تحرير بلاد العرب؛ فقلنا: أنجح الله استقلال
العرب أيًّا كان المحرر والمنقذ , ولكن ما كاد السيف يوضع في غمده حتى رأينا الاستقلال والتحرير وصاية وانتدابًا , وحتى رأينا شباب العرب وأحرارهم
يقادون إلى السجون ويجلون عن بلادهم , ويمنعون من الإقامة في ديارهم , فهل
الاستقلال أن يصبح العرب غرباء في بلادهم ومرافق الحياة في يد غيرهم؟ ولولا
أن الحجاز يمس شعور المسلمين احتلاله لرأينا الانتداب قد ضرب عليه) .
ثم ذكر مناوأة هؤلاء الجناة على البلاد العربية لنجد جارتهم؛ لأنها (قوية
مستقلة , لم تنفذ إليها مطامع المستعمرين) ثم قال:
(إنَّ نجدًا تمدُّ يدها لكل من يريد خير العرب ويسعى لاستقلال العرب ,
وتساعد كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب.
إن نجدًا ترحب بكل عربي أبي وتعد أرضها وطنًا لكل عربي سوري أو عراقي
أو حجازي أو مصري , إن نجدًا لا تطمع في امتلاك أرض خارجة عن حدودها
الطبيعية , ولكنها لا تقبل أن تستقل بلاد العرب كلها استقلالاً صحيحًا , لا يكون
لغير أبنائها سلطان عليها) .
ثم ذكر مسألة الخلافة فنفى أن تكون وظيفته روحية للتبرك , وأثبت أنها حق
لجميع المسلمين ليس لجامعة أو شعب حق البت فيها , وأنهم لذلك أنكروا على
حسين بن علي (عجلته والحط من شأنها بقبوله هذا المنصب الذي لا يليق له) .
(وقال) : (إن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب
عرض هذه المسألة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحًا)
فهذه تصريحات قطعية في رأي حكومة نجد في استقلال البلاد العربية
استقلالاً صحيحًا مطلقًا من قيود الوصايا والانتداب , التي جناها عليها بيت حسين
الحجازي , ولا يزالون يخدمون حلفاءهم في تمكينها جهارًا , ونصوص لا تحتمل
التأويل بأن أئمة نجد وحكامها يعدون جميع الشعوب الإسلامية إخوانًا لهم , خلافا لما
يفتريه عليهم حسين بن علي وأجراؤه من عدم اعتراف النجدي لأحد بالإسلام غير
الوهابيين.
(الوثيقة الثالثة) ما صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود نفسه في
مؤتمر الشورى , الذي عُقِدَ في الرياض عاصمة نجد في أول شهر ذي القعدة
الماضي سنة ١٣٤٢ , فقد اجتمع هنالك كبار علماء البلاد وزعماؤها , ورؤساء
الأجناد وقوادها في قصر الإمام عبد الرحمن الفيصل والد السلطان الذي حضر
مجلسهم، وكانوا قد كتبوا إلى والده الجليل برغبتهم في أداء ركن الإسلام - الحج -
والاستعداد لغزو ملك الحجاز وصدّ عدوانه , فأخبرهم أنه أرسل مكتوباهم إلى ولده
السلطان في أوقاتها وقال لهم: اسألوه عنها.
فتكلم عنهم سلطان بن مجاد بن حميد زعيم برقا من عتيبة , وأمير هجرة
غطفط قال:
أيها الإمام إننا نريد الحج لا محالة , ولا نستطيع أن نصبر على ترك ركن
من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه , إن مكة ليست ملكًا لأحد , ولا يحق لأحد أن
يمنع مسلمًا أو يصد مؤمنًا عن أداء فريضة الحج , إننا نريد أن نحج فإن منعنا
شريف مكة دخلنا مكة بالقوة , وإن لم يصدنا عن سبيل الله أو يلحق بنا أذى فنحن
نحج ولا شأن لنا به , وإذا كنتم ترون من المصلحة تأخير فريضة الحج فلابد من
غزو الحجاز , وتخليص البيت من سيطرة طاغية مكة الذي أرهق العباد , وضرب
من المكوس والرسوم على قاصدي بيت الله الحرام ما تبرأ منه الشريعة الطاهرة) .
فأجاب السلطان بإحالة الحكم في مسألة الحج على العلماء , فقرروا وجوب
أدائه بالرضا أو القوة إلا أن يكون في ذلك مفسدة راجحة , وسألوه عن ذلك فشرح
لهم ما كان من سعيه للسلام والأمان في الجزيرة , والعيش مع شرفاء مكة بالمحبة
والمودة , وما كان من سعي الشريف حسين؛ لإلقاء الفتن بين النجديين إلى أن قال
ما نصه:
(السلطان عبد العزيز: أيها العلماء والإخوان لقد سعيت من مدة طويلة في
بسط السلام والأمان داخل الجزيرة , فنحن لا نود أن نحارب من يسالمنا , ولا
نمتنع عن من يصافينا , لقد أحببت أن نعيش مع أشراف الحجاز كما يعيش
الجيران على المودة والمحبة , ولكن شريف مكة كما تعلمون يسعى دائمًا
لبث الدسائس وإلقاء بذور الخلاف بين عشائرنا , ولكنه كان دائمًا يبوء بالخسران ,
والله لا يترك الحق يصرعه الباطل , إن شريف مكة قد ورث من أسلافه بغضكم ,
فهو لا يفتأ يطعن في طريقكم السوي وسيرتكم المحمدية , ولا يألوا جهدًا في
الافتراء علينا والطعن على علمائنا , ولكن أهل الحق لا يضرهم من ناوأهم ,
ولينصرنهم الله ما نصروا دينه وظاهروا شريعته) .
(إن شريف مكة لم يكفه ادعاؤه الزعامة على العرب مع أنه أضعفهم , بل
قام يلقب نفسه بإمارة المؤمنين , مع أنه يعلم أن الأقطار الإسلامية كلها تبغضه ,
وأن علماءكم قد أرسلوا التلغرافات إلى مصر والهند , ينكرون عليه هذه الدعوى التي
لا نراه كفوًا لها , ولابد من وضع حد لأكاذيبه وإفساداته) .
(وأما الحج هذه السنة فلا أراه من مصلحتكم , أنا لا أقبل أن تحجوا وبكم
شيء من الضعف , أو يلحق بكم نوع من الأذى والضرر , وإني على يقين أن أخذ
مكة والمدينة لا يحتاج إلى أكبر مجهود , ولكن مكة ليست لنا وحدنا بل هي
للمسلمين كافة , وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين , فأنا لا أجيز لكم
الاستيلاء على إحدى المدن المقدسة) .
(إن شريف مكة قد لا يمنعكم من الدخول إلى مكة , ولكن الرجل لا يعدم
وسائل الشر , فقد يدس من يتحرش بكم؛ لتحدث فتنة في مكة في موسم الحج
وفيه المسلمون من كل جنس , وإني أكاد أجزم أن هذه خير فرصة له؛ ليهيج علينا
العالم الإسلامي الذي أخذ يفهمنا ويقترب منا ونقترب منه , واعلموا أن الأمر لا
يطول فاصبروا إن الله مع الصابرين) .
عندئذ قال العلماء بصوت واضح: إنه لا حرج عليكم من تأخير الفريضة هذا
العام , مادام أن أدائها قد يؤدي إلى فتنة في بلد الله الحرام. اهـ
فهذا نص قطعي رسمي من سلطان نجد في مجلس الشورى العام لبلاده في
الحامل له على إنقاذ الحجاز من هذه الحكومة الطاغوتية القيصرية؛ المسماة
بالعربية الهاشمية , لا تحتمل التأويل ولا الدعاية السياسية التي لا تعرف في تلك
البلاد , ولو في غير ذلك المجلس الرسمي , ولقد صبر سلطان نجد صبرًا لم يعهد
له نظير من قوي يُعْتَدَى عليه جميع أنواع الاعتداء الدينية والدنيوية , من ضعف
عاجز يصول ويبغي سرًّا وجهرًا , حتى يتجرأ على مطالبة هذا القوي في مؤتمر
الكويت بأن يترك لأمره جُلَّ مملكته - أعني إقليم الإحساء الذي استرده سلطان نجد
من الدولة العثمانية - وإمارة آل رشيد الذين ناصبوا بلاده العداء حتى انتزعوها من
والده بمساعدة الدولة , ثم أدال الله له منه - وإمارة عسير التي استولى عليها
بالاتفاق الذي عقد بينه وبين المرحوم السيد الإدريسي؛ وتربة والخرمة المختلف
عليهما بين حدود الحجاز ونجد , ورضي ابن مسعود باستفتاء أهلهما.
ملخص ما تقدم: إن سلطان نجد قد علم هو وأمته بعد التروي واستفتاء
العلماء أن إنقاذ الحرمين الشريفين من حسين بن علي واجب شرعًا , ولو لم يكن
لذلك من موجب إلا منع أهل نجد من الحج لكفى , فكيف إذا أضيف إلى ذلك سائر
ما أشرنا إليه فيما أجملناه في الأهرام , وفصلناه في المنار من إلحاده بالظلم لأهل
الحرمين والحجاز , وإدخاله للنفوذ الأجنبي للبلاد , وخطره على الأمة العربية وما
بقي لها من البقعة الصغيرة المستقلة في جزيرتها , وتكفيره للترك وللمصريين
كالنجديين , ثم تنحله منصب الخلافة.
وفي تصريح السلطان عبد العزيز نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده
بإسلام جميع الشعوب الإسلامية , والرغبة في التعارف والتواد معها , وبأن هؤلاء
الأمراء الحجازيين ورثوا عن سلفهم تكفير النجديين والطعن فيهم والتنفير منهم.
وقد استفتينا واستفتي غيرنا في شأن هذا الباغي (الملك حسين) في سنة
١٣٤١ , فأتى بعض علماء الأزهر بأنه من البغاة المتغلبين الذين يجب قتالهم على
إمام المسلمين , وكتبنا نحن فتوى مطولة نشرناها في المنار الذي صدر في ذي
الحجة من تلك السنة (ج٨ م ٢٤ ص ٥٩٣ - ص ٦١٦) , ونشرناها في جريدة
الأهرام أيضًا , أجملنا فيها صفاته وجناياته التي يقتضي بعضها الردة إلا أن يوجد
ما يدفعها من شبهة , وأقلها البغي والإلحاد والظلم في الحرم؛ إلى آخر ما لخصناه
في هذه المقالات , ولكننا استدركنا على من جعل حكمه حكم البغاة متسائلين: أين
إمام المسلمين الأعظم الذي يجب عليه قتاله؟
ثم بينا أن إنقاذ الحرمين من بغيه وظلمه يجب على كل من يقدر عليه من
جماعات المسلمين وأمراءهم , وأن أقدرهم على ذلك سلطان نجد , وإمام اليمن ,
وذكرنا ما يقال في المانع المشترك لهما من ذلك، وهو الخوف أن يفضي إلى تدخل
الإنكليز في الحجاز؛ لأنه جعله تحت حمايتهم؛ وقد ثبت هذا بدعوته هو وخلفه
المخذول لهم , واستنجادهما إياهم؛ لإرسال طيّاراتهم وغيرها , لقتال سلطان نجد
وإرجاعه عن الحجاز؛ وذكرنا أنه لا يرجى من إمام اليمن أن ينقذ الحجاز؛ وما
كان يقول أكثر الناس في مثل مصر وسورية من سبب امتناع ابن مسعود عن
الاستيلاء على الحجاز , وهو اصطناع الإنكليز له بالمال وتخويفهم إياه من تأليب
الحجاز والعراق وعرب فلسطين عليه إذا هو خالف رأيهم في ذلك , وقولهم: إنهم
هم الذين صرفوه عن أخذ مكة بعد سحقه لأعظم قوة ساقها عليه الحجاز بقيادة الأمير
عبد الله في تربة؛ ومن المعلوم أن سبب هذه الآراء دعاية الحجازيين وأقوال
جرائدهم المأجورة.
ثم ذكرنا أقوال النجديين في سبب ذلك وهي ترجع إلى سببين (أحدهما) :
كراهة السلطان عبد العزيز آل سعود لسفك الدماء وحبه للسلم , وأنه لذلك أخضع
آل الرشيد بالحصار الطويل في أشد أيام العسرة والغلاء. (وثانيهما) : تحرجه
وتأثمه من دخول مكة فاتحًا , وقد صح في الحديث أن القتال فيها لا يحل لأحد ,
حتى قال بعض العلماء: إن أفراد الجناة الذين يثبت شرعًا وجوب قصاصهم يجب
أن يقتلوا خارج الحرم.
ثم ذكرنا أقوال الأئمة وكبار العلماء في مسألة القتل والقتال في الحرم , وأن
الشريف حسينًا لم يبال بحرمة الحرم فقاتل الترك فيه , ولا يزال يقتل كل من يزين
له هواه قتله , ويسمي فعله حدًّا شرعيًّا , وأنّ المخرج من ذلك سهل , وهو كما قال
بعض العلماء: أنْ تحصر شقة الحرم وهي محدودة حتى يضطر المعتصم فيه إلى
التسليم؛ وقد فعل ذلك الوهابية عند الاستيلاء على الحجاز في فجر القرن
الثالث عشر للهجرة , فحصروا الشريف غالبًا وأعوانه , وقطعوا عنهم ماء عين
زبيدة , حتى اضطروا إلى التسليم , ودخل الوهابيون مكة محرمين.
وبذلك عللنا تأخرهم عن فتح مكة في هذه المرة على اختلاف أهواء الكتاب
وآرائهم في تعليله , وإرجاف أجراء الوكالة العربية الهاشمية الملكية الإمامية الخلفية
[١٣] بمصر في هذه الفرصة تارة بأنهم عادوا أدراجهم مخذولين , وتارة بانتظارهم
للإشارة المطاعة أن ترد عليهم من لندن كانتظار الملك الخليفة حسين أولاً , وانتظار
الملك علي النيابي الدستوري المدني ثانيًا.
وإنا لنعجب أن صدق هذه الفرية بعض المصريين العارفين بالشؤون العامة ,
وسيعلمون أن الإنكليز يعدون نجاح الوهابية أكبر الأخطار على مطامعهم في العرب
والإسلام.
كذلك سوغت لهم هذه الفرصة تكبير أمر هذا القتال , بإيهام الناس أنه من
أعظم الحروب تسيل فيه الدماء أنهارًا في المعارك التي تشيب لهولها الولدان وتمثيل
الوهابية للناس في صور السباع الضارية والوحوش المفترسة , تبقر البطون ,
وتدق الصدور , وتمزق الأشلاء , وتلغ في الدماء , وما حجتهم على ذلك إلا البرقية
التي طيرها مسليمة الزمان حسين إلى جميع بقاع الأرض بإمضاء؛ بل أسماء
مجهولة من سكان مكة وحجاجها , وأنفق الألوف عليها , والحق الواقع أنه لم يكن
ثَمَّ إلا مناوشات ضئيلة مرتين أو ثلاثًا , ولولا بعض اليمانيين وغيرهم في جيش
الحجاز لَمَا وقع شيء من ذلك يذكر؛ لأن أهل الحجاز مجمعون على مقت
الطاغوت المرهق الذي سمى نفسه المنقذ , وما زالوا يدعون الله بإنقاذهم منه حتى
استجاب لهم.
وقد بنى على هذه الأراجيف الخاطئة الكاذبة الدعوة إلى استصراخ أمم الشرق
والغرب من جميع الملل والنحل , إلى التعاون والسعي؛ لإنقاذ البشر من هذه
الكارثة التي تصغر دون وقائعها معركة (فردون) وغيرها من معارك حرب
المدنية العظمى , وإنما الغرض من ذلك إبقاء حكم الطاغوت الأكبر في حرم الله
تعالى , يرهق أهله ومن يرد إليه من الحجاج ظلمًا , ويميت الألوف منهم ظمأً إلخ.
وقد انخدع بهذه الأراجيف مجلس الأمور الشرعية المحلية بفلسطين المسمى
بالمجلس الإسلامي الأعلى , فطير البرقيات إلى ملوك المسلمين وجمعياتهم الدينية
وغيرها , يستصرخهم للتعاون على إيقاف هذه الحرب حقنًا للدماء ... وكذلك جمعية
الرابطة الشرقية التي رددت صدى هذا المجلس في جلسة لم تبلغني دعوتها إلا بعد
اجتماعها , ولا شك في حسن نية المجلس والجمعية , ولو صدقت أراجيف الحجاز
لكنت على رأي إخواني فيهما , فأنا وكيل هذه الجمعية وأعضاء المجلس كلهم
محترمون عندي , ورئسهم من خواص أصدقائي ومن أقرب الناس إلى رأيي.
قد طالت هذه المقالة , وكنا نريد ختم هذه المقالات بها , ولكن علمنا بعد كتابتها
وقبل نشرها أن الله تعالى قد قضى على الطاغوت الأكبر مثار الشقاق والنفاق حسين
ابن علي , وأنقذ الحجاز منه , فخرج من جدة مذؤومًا مدحورًا ولو بقي فيه ولو بعد
عزله لما أمنت شره , وسينقذه قريبًا من ولده وولي عهده وخليفته الملك علي
المهزوم المدحور , الذي لم يكد يسمى ملكًا للحجاز بعد انهزامه من الطائف أولاً
ومن الهدى ثانيًّا ومن كرى ثالثًا , حتى أبرق إلى وكيل والده ناجي الأصيل بأن
يمضي المعاهدة البريطانية الحجازية المتضمنة لإقرار الإنكليز على السيادة على
البلاد المقدسة , وتمليك رقبتها لليهود الصهيونيين , وإعطاء البريطانيين من
الحقوق في الحجاز ما قامت قيامة العالم الإسلامي على والده من أجله.
وإن لنا كلمة ختامية فيما يجب على المسلمين للحجاز وأخرى في السياسة
البريطانية مع العرب في هذا الطور الجديد.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))