تُعرف أغراض الجرائد ومقاصدها من مجموع كلامها في الأعداد الكثيرة، ولا يصِح الحكم على مقصد جريدة بجملة واحدة، يظهر أنها ترمي إلى غرض ما؛ لا سيما إذا عُهِد منها في الكلام الكثير، تسديد سهامها إلى خلاف ذلك الغرض، أو إلى ما وراءه، وإنما أصابه السهم؛ لأنه عرض في طريقه. ويعلم جميع قرَّاء (المنار) أننا في مجموع كلامنا لم نخطئ الغرض الذي وضعناه له في العدد الأول وهو قولنا: (وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا التحامل على الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكَسْب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة.. .) ، إلى أن قلنا: (.. . وتنبيه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوروبا في الفنون والصنائع، لا على الملوك والأمراء..) إلخ إلخ. وقد بيَّنا في أعداد كثيرة من السنة الأولى والثانية، بأن الأمم الشرقية أو الإسلامية إذا لم تعتمد في تقدمها على أنفسها - لا على حكومتها - فإنها لا تنهض من هذا الحضيض إلى أبد الأبيد. ولما كان الإجمال قلَّما ينبه الغافل، والهمس لا يكاد يوقظ النائم المستغرق، صرَّحنا بهذه النصيحة بصوت عالٍ غير مرة. وأشد صيحة أزعجت السامعين قولنا - في العدد الحادي عشر من هذه السنة -: (إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقِّبوه - ولا أقول أن يدكوه - يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع، وأن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم، وسلاسل في أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا في أسماعهم، ورَينًا على قلوبهم.. .) إلخ. ثم تعجبنا من كون المسلمين الذين أظلتهم الأجانب يطمعون بأن يكون ترقّيهم على يد الدولة العلية مع أنه من الجهالة والحمق أن يعتمد العثمانيون أنفسهم في ترقيهم على الدولة من دون أنفسهم ما بالك بغيرهم؟ ! ولكن بعض الذين تمكّنت السلاسل والأغلال والقيود من أعناقهم، وأيديهم وأرجلهم، وتكاثفت الغشاوة على أبصارهم، وقوي الوقر في أسماعهم، وغلب الرين على قلوبهم - سلقونا بألسنة حداد؛ لأننا نَهينا مسلمي الهند والجاوه وأمثالهم عن الاعتماد على الدولة العثمانية، وأراهم سوءُ الفهم أن هذا ينافي ما ندعو إليه في (المنار) من ارتباط المسلمين بعضهم ببعض بجميع أقطار الأرض. ولو كان المعترِض صادقًا في حب المصلحة الإسلامية؛ لكتب إلينا حيث كان بعيدًا عنّا بما يراه صوابًا؛ لأننا قلنا - في المقالة التي ذكرنا فيها ما مرّ - إنه اعتقادنا: (ومن بيَّن لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه) وكذلك فَعَل بعضُ المخلصين من المصريين ذاكرنا وفهم قصدنا تمامًا. ومن البلاء على المسلمين أن كل إنسان يدعي كمال الفهم في علم الاجتماع الإنساني، والمعرفة بأسباب ترقي الأمم وتدلِّيها، لا سيما إن كان لديه شيء من الوساوس السياسية التي يتلقفها من الجرائد، ونرجو أن تزول هذه الأوهام بانتشار علم الاجتماع في الكتب النافعة والجرائد الصادقة. وعسى أن يَعُمّ انتشار كتاب (سر تقدم الإنكليز) الذي طُبع حديثًا، فيفهم المسلمون أن اعتماد الأمة على الحكومات القوية المرتقبة - كفرنسا وألمانيا - فيه خطر على مستقبلها، فضلاً عن الحكومات الضعيفة، فضلاً عن اعتماد الشعوب على الحكومات التي لا تحكمها، وأن مستقبل السيادة إنما هو للشعوب التي يعتمد أفرادها في سعادتهم على أنفسهم وعلى سعيهم وجدّهم، وإلى الله تصير الأمور.