كتب أحد المهندسين في القاهرة إلى مفتي الديار المصرية كتابًا قال فيه بعد رسم الخطاب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإني شاب مسلم مصري الجنس تعلمت في مدارس الحكومة وحصلت على الشهادات النهائية التي أهلتني أن أشتغل بوظيفة مهندس الآن، وطالما ألهاني الشباب عن تأدية الفرائض الدينية حينًا من الدهر لأمر يعلمه الله، ولما أن مَنَّ الله - سبحانه وتعالى - عليَّ بالهداية وهداني إلى الصراط المستقيم؛ قدمت لحضرتكم هذا الخطاب بصفتكم أول عالم عامل بمصر، كما أعلمه ويعلمه إخواني جميعًا، تحبون إزالة النقائص التي يقوم بها إخواننا في الإسلام سواء في القرى أو البنادر التابعة لحكومتنا المصرية التي لم تزل للآن ممتعة بحرية الإسلام، وتلك النقائص كثيرة جدًّا أهمها: زيارة الأضرحة - الخطابة يوم الجمعة بالمساجد - النذور - الأذكار. (١) زيارة الأضرحة: تعلمون فضيلتكم أن تسعة وتسعين في المائة من مسلمي القطر يعتقدون أن ساكن الضريح له اليد الطُّولى في شفاء الأمراض وتسهيل الأرزاق، بل قد أشركوه مع الله - سبحانه وتعالى - في العمل مع أنه بريء من ذلك وأنه لم يكن إلا مخلوقًا مثلنا أطاع الله وعمل بشرائعه في دنياه فأكرمه الله في أخراه، وأني واثق أن فضيلتكم تعلمون ذلك، وسمعتم بالطلبات التي تقدم لساكن الضريح، بل قد تطرفوا فانتقلوا من زيارة صاحب الضريح إلى التبرك بالمقصورة أو التابوت أو عتبة مدخل الضريح، الأمر الذي يقضي فيما بعد بتغير العقائد الدينية. (٢) الخطبة يوم الجمعة: قد رأيت أغلب خطباء المساجد ليست عندهم مقدرة تامة على أداء وظيفة الخطابة بدرجة تؤهلهم أن يبثوا في أفكار المصلين ما يلزم اتباعه وما لا يلزم شأن كل خطيب في الزمن السابق، بل إنهم جعلوا الخطبة محفوظة حفظوها حفظًا، وربما لا توافق الزمن الذي نحن فيه؛ لأن فائدة الخطابة حض المصلين على ترك ما لا يوافق الشريعة، ويأتي الخطيب بأحاديث تزجر المصلين عن ذلك، بل إن بعض الخطباء يعلو المنبر ويبتدئ بالخطبة وينتهي منها ولا يسمع له صوت إلا في الصف الأول، وربما لا يتعدى الصف الثاني. فإذا رأيتم عمل تعديل في مشايخ المساجد، وترك مسألة الوراثة واستحضار خطباء من المتخرجين من مدرسة دار العلوم - يكون أليق بالإسلام والمسلمين وتكونوا قد وفيتم الدين حقه، وجاهدتم الجهاد المفروض على كل مسلم. (٣) أرى لكل ضريح صندوقًا مخصوصًا للنذور، وما يُجمع في هذا الصندوق من فقير أو غني جاهل أو عاقل يوزع في آخر السنة على خدَمة الضريح، وترون فضيلتكم أن أغلب خدَمة الأضرحة هم أناس ذوو ميسرة عن غيرهم خصوصًا في هذا الوقت الذي عم فيه جهل الزائرين؛ فإذا وافقتم على أن يعطى ما يجمع في تلك الصناديق لديوان الأوقاف كي يصرفه في أعماله الخيرية التي يعم نفعها أو يسلم للجمعية الخيرية الإسلامية كي تستعين به على إنشاء المدارس وتربية الأيتام وعلى أن تنظروا في حالة الخدمة المستحقين الذين ليس عندهم عقارات أو أطيان وتزيدوا مرتباتهم حتى يمكنهم التعيش منها، وعلى وضع مبشرين من المتخرجين من مدرسة دار العلوم بالأضرحة كي يرشدوا الزائرين إلى حقيقة الزيارة وفوائدها - فبهذا تثابون من الله ثواب الدنيا والآخرة. (٤) الأذكار التي تقام في البلدان أرى أنها مخالفة للشريعة؛ فإذا رأيتم وضع عقاب صارم لكل شخص يحدث منه تهكم أو نقص فيها يكون أوفق، والله يهديكم ويوفقكم لفعل الخير لإخواننا المسلمين جميعًا، وفي الختام أقدم لجنابكم احترامي لمقامكم العلمي. اهـ *** (المنار) اطلعنا على هذا الكتاب فنشرناه؛ لعلمنا أنه كما قال كاتبه صدى رأي كثيرين من المهندسين وغيرهم، والشكوى من هذه البدع والتقاليد قد كثرت في هذه البلاد بكثرة المتعلمين المميزين. وأما المخاطب به وهو الشيخ محمد عبده فقد بذل جهده في مقاومة البدع بالإرشاد في دروسه العامة ومجالسه الخاصة حيث كان، وقد سعى لإصلاح حال المساجد وما يتبعها من الأضرحة بالفعل فوضع لذلك تقريره المشهور الذي اقترح فيه على ديوان الأوقاف أن يجعل خطباء المساجد، وأئمتها من العلماء المدرسين، وأن يكون التفاضل بينهم بالامتحان وغير ذلك من الاقتراحات الإصلاحية التي تحيي العلم والدين، وبعد أن أقره المجلس الأعلى، وكاد يشرع في تنفيذه عرض ما أوقف التنفيذ كما ذكرت ذلك بعض الجرائد من نحو سنة وذكرناه أيضًا. ولما كان هذا الرجل هو الذي انبرى لمثل هذه الخدم دون غيره من العلماء الذين وجد فيهم من يسعى لإبطال خدمته للإسلام، فالواجب على هذا الكاتب وعلى من على رأيه من إخوانه المسلمين أن يكتبوا بمثل هذه الكتابة إلى شيخ الجامع الأزهر طالبين منه أن يكلف طائفة من العلماء بأن يسعوا معه في المطالبة بتنفيذ لائحة المساجد والأضرحة؛ وبإبطال هذه البدع الفاشية في معاهد الدين وأعماله؛ وما كان له وجه شرعي من هذه الأعمال التي يستنكرها الكاتب وأمثاله فليبينوه لهم بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة دون أقوال المقلدين؛ ليكونوا على بصيرة من دينهم، ومتى قام بالدعوة جماعة من العلماء رُجي من النجاح ما لا يرجى من الواحد، ولهذا قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيضأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوَلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) .