للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

(س ٢١) من صاحب الإمضاء في (ميت غمر)
سيدي الأستاذ الجليل، محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، حرسه الله،
تحية الله وسلامه إليك وبعد:
الدين الإسلامي الذي جاء فاصلاً بين الحق والباطل، وعلم الناس أن هناك
إلهًا لا يطلع أحدًا على غيبه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، الدين الإسلامي الذي أنقذ
الناس من جاهليتها الأولى، وأبطل الخرافات والاعتقادات الباطلة، دين هدى لمن
يريد أن يهتدي، دين توحيد لمن يريد أن يوحد ربًّا واحدًا، دين وجهة واحدة لمن
يريد أن يولي وجهه شطره، إلا أن الناس الذين يدينون به وينتسبون إليه لم
يحافظوا عليه ولم يحترموا تعاليمه.
وبذلك حقت علينا كلمة العذاب؛ لأن أكثر المسلمين لا يعقلون.
سيدي: أكتب إليك هذا وأنا في ذهول مستمر وحزن دائم لما وصلت إليه
حالة المسلمين، حتى أصبحت حياتنا الدينية والدنيوية تشبه الكفار من كل الوجوه.
وإن المنشور المرسل طي هذا الكتاب لأكبر دليل على صدق هذا القول، حتى لا
يقال بأننا نكتب على غير حق، فهل يصح يا فضيلة الأستاذ لأمة دينها الإسلام،
وكتابها القرآن، أن يوزع بينها هذا المنشور ويلصق على أبواب بيوت العبادة؟
فباسم الإسلام الذي وقفت حياتك على خدمته، والمحافظة عليه، وباسم العلم الذي
أخذت منه قسطًا وافرًا، وبحق ما لك علينا من فضل بمباحثك الدينية القيمة، التي
كثيرًا ما هدت ضالاًّ وعلمت جاهلاً، أن تبين لنا صحة هذا المنشور , وأصل
مصدره والغاية التي يرمي إليها ناشره، وذلك يكون بنشر الرد بجريدة الأهرام حتى
يطلع الناس عليها، ويقفوا على حقيقتها، ولك من الله حسن الجزاء، ومن الناس
أجمل الثناء، وإنا لذلك لمنتظرون، والله المسؤول الذي بيده المصير أن يتولاك
برعايته. واقبل احترام وإخلاص مسلم معجب بعلمك ودينك.
ميت غمر في ٢٧ مارس سنة ١٩٢٤ ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... زكي محمد عبد الله ... ... ... ...
... ... ... معاون سلخانة ميت غمر وأمين مخزن البلدية
وهذا نص الوصية المزورة المرسلة مع هذا السؤال.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين على القوم الكافرين , وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء
والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه وصية من المدينة المنورة
عن الشيخ أحمد خادم حرم النبي الشريف قال: كنت ساهرًا ليلة الجمعة أتلو
القرآن وبعد تلاوته قرأت أسماء الله الحسنى , فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم
فأخذتني سنة من النوم , فرأيت الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذي
أظهر الآيات القرآنية والأحكام الشرعية؛ رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى
الله عليه وسلم فقال لي: يا شيخ أحمد. قلت: لبيك يا رسول الله , ويا أكرم خلق الله.
فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة , ولن أقدر أن أقابل ربي ولا
الملائكة، ووَقْف على قدم؛ لأنه مات من الجمعة إلى الجمعة مائة وستون ألفًا على
غير الإسلام وواحد مات على الإسلام , فنعوذ بالله من شر ذلك، وصار غنيهم لا
يرحم فقيرهم , وأصبح كل شخص لا يسأل إلا عن نفسه , وقد ارتكبوا المعاصي
والكبائر والزنا، وأنقصوا المكيال والميزان , وكثرت المعاصي وأكلوا الربا وشربوا
الخمر , وتركوا الصلاة ومنعوا الزكاة. فهذه الوصية لأجل أن يتعظوا؛ لأني في
شدة التعب من أجلهم، فأخبرهم يا شيخ أحمد قبل أن ينزل بهم العذاب من ربهم
العزيز الجبار وتغلق أبواب الرحمة، فنعوذ بالله من شر هذا القرن وأهله؛ لأنهم
عن طريق الحق ضالون، وبالله تعالى يشركون، وبالدين الحنيف ينكرون،
وبأديانهم الباطلة يمجدون. وإن الساعة قد قربت، وفي سنة ١٣٤٠ هجرية تخرج
النساء من غير إذن أزواجهن , وفي سنة ١٣٥٠ هجرية تظهر علامة في السماء
مثل بيض الدجاج وهي علامة القيامة، وفي سنة ١٣٧٠ هجرية تغيب الشمس ثلاثة
أيام بلياليها , وبعد ذلك تشرق من المغرب , وتغلق أبواب التوبة، وفي سنة ١٣٨٠
هجرية يرفع القرآن العظيم من صدور الرجال، ويظهر المسيخ الدجال، وتتفاتن
النساء والرجال، ويعود الإسلام كما كان خرابًا. فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه
الوصية , وعرفهم بأنها منقولة (بقلم القدرة من اللوح المحفوظ) .
ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل، كتب الله له قصرًا
في الجنة , ومن لا يكتبها ولا يرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن لا
يعرف أن يكتبها يأمر كاتبًا بكتابتها بثلاثة دراهم، ومن كتبها وكان فقيرًا - أغناه الله،
أو كان مديونًا قضى الله دينه عنه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه
الوصية، ومن يكتمها عن عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة.
وقال الشيخ أحمد: والله العظيم ثلاثًا، إن هذه حقيقة، وإن كنت كاذبًا أخرج من
الدنيا على غير الإسلام , ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار , ومن كذب بها كفر،
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (مؤمن مصدق)
(جواب المنار) : جاءنا هذا السؤال فقدمنا عليه في النشر والجواب أسئلة
أخرى جاءت قبله، ثم أطلعنا قلم التحرير في جريدة الأهرام على كتاب يقترح فيه
مرسله نشر هذه الوصية في الأهرام , ومطالبة العلماء ببيان ما يجب في شأنها
فتذكرنا أننا قد سئلنا عنها هذه الوصية.
هذه الوصية فرية ملفقة سبقها أمثال لها كثيرة , وكلها معزوة إلى اسم الشيخ
أحمد خادم الحرم النبوي الشريف أو خادم الحجرة النبوية الطاهرة، وأذكر أني
رأيت أول وصية منها بين أوراق لوالدي من زهاء أربعين سنة أو أكثر، فصدقتها
واهتممت بأمرها , وكان ذلك قبل طلبي للعلم بل في أول العهد بالقراءة.
ومنذ عشرين سنة أرسل إلى أمين أفندي السرجاني، الصائغ المشهور بمصر
وصية أخرى منها , وسألني عن رأيي فيها فنشرتها في باب الفتوى من المجلد
السابع (غرة شعبان ١٣٢٢) وأجبت عنها بما سأعيده هنا، ثم أرسلت إلي نسخة
أخرى من السويس بعد سنة ونصف من نشر تلك الفتوى , فاعتذرت عن نشرها في
فتاوى (ج ٣ م ٩ الذي نشر في ربيع الأول سنة ١٣٢٤) .
والظاهر أن الذين يلفقون هذه الوصايا من الجهال يظنون أنه ربما يكون
لنشرها تأثير عظيم في المسلمين، وأنهم يقصدون النفع، ويستحلون في التوسل إليه
تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم , كما كان يفعل بعض الوضَّاعين
لأحاديث الترغيب والترهيب، مع علم أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من
كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار) فإنه روي متواترًا في الكتب الستة
وغيرها من المسانيد والمعاجم عن عشرات من الصحابة. ثم ينسخها بعض العوام
حيث لا مطابع , ويطبعونها في مثل هذه البلاد؛ لتصديقهم بما في آخرها من الوعد
والوعيد، ومن العجب أن الذين يجددون تلفيق الوصية لا يتركون اسم الشيخ أحمد
كأنه خالد في الحرم النبوي الشريف , وكأنه أعطي خدمة الحجرة الطاهرة خالدة
تالدة , لا تؤثر فيها أحداث الزمان ولا مرور السنين ولا تغير الحكومات. ويلوح
في ذاكرتي أن بعض زوار المدينة سأل عن الشيخ أحمد هذا منذ سنين كثيرة , فلم
يجد في الحرم النبوي من يعرفه!
ومن دلائل كذب هذه الوصايا أسلوبها العامي , على أن الوصية الجديدة دون
ما سبقها في اللحن والاصطلاحات العامية (ومنها) وهو أقواها: زعم مختلقها أن
النبي صلى الله عليه وسلم صار محجوبًا عن ربه وعن الملائكة بسبب ذنوب
الناس , وهذه أعظم العقوبات التي توعد الله تعالى بها الفجار الكفار بقوله: {كَلاَّ
إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: ١٥) فجميع ما نعاه على المسلمين
من المعاصي هو دون الكذب على الرسول بأصل الوصية والكذب على الله ,
بزعمه أنه عاقب أفضل رسله بذنب غيره , كما يعاقب الكفار في الآخرة، وهو
مغفور له بنص القرآن، على أنه لا يعاقب أحد من الخلق بذنب غيره بالنص أيضًا ,
ومن جهله تعبيره عن التجلي الرباني بالمقابلة، كما يعبر أهل هذا العصر عن لقاء
بعض الناس لبعض.
وقوله: وفي سنة ١٣٤٠ تخرج النساء من غير أذن أزواجهن، يدل على
أن الوصية لفقت قبل هذا التاريخ , ولما وصلنا إليه لم نر شيئًا لم يكن قبله , فقد كان
كثير من النساء يخرجن قبله بدون إذن أزواجهن , ولم يخرج فيه جميعهن ولا فيما
بعده , فنقول: إنه مصداق للجملة. وما ذكر قبله من المعاصي فهو قديم أيضًا ,
ولكنه يزداد بلا شك، كما أنه قد تجدد من علم السنة ومحاربة البدع والدعوة إلى
الإصلاح الديني , والتوفيق بينه وبين الحضارة والقوة ما لم يكن.
وقاعدة هؤلاء المصلحين أن الله تعالى قد أكمل دينه فلا نزيد في الأمور الدينية
المحضة شيئًا لم يرد في الكتاب أو السنة الثابتة أو إجماع الصدر الأول، وأن أسعد
السعداء من يعبد الله تعالى كما عبدوه فعلاً وتركًا حسب الأمر والنهي , وأن
في الكتاب والسنة وهدي السلف الأول غنًى عن كل ما عداها في النصح
والإرشاد، والزجر عن الفساد، فمن كان مخلصًا في نصح المسلمين، فليعضد
هؤلاء المصلحين، فهو خير له من اختراع الرؤى الباطلة، والوصايا السخيفة
المزورة , التي صار يقل في العوام من يصدقها، وجميع الخواص يلعنون مزورها.
وإننا نذكر هنا ما أجبنا به السائل عن هذه سنة ١٣٢٢ إتمامًا للفائدة - وكانت تلك
في منتهى السخف لفظًا ومعنًى وهذا نصه:
إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن
مرارًا كثيرة , وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية ,
والوصية مكذوبة قطعًا , لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما
يصدقها البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم
يتعلموا اللغة العربية , ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة، لا حاجة إلى بيان
أغلاطها بالتفصيل , فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح
الفصحاء وأبلغ البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم , ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة
النبوية مكتوبًا بخط أخضر , يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه , ثم يتجرأ بعد هذا
على تكفير من أنكره , فهذه المعصية أعظم من جميع المعاصي - التي يقول: إنها
فشت في الأمة، وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام , وتكفير علماء أمته
والعارفين بدينه , فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها , وقد قال
المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي معتمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) ، قد نقل بالتواتر , ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمدٌ لكذبها، ولا ندري
أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟ !
وأما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن , وانهماكهم في
المعاصي، فهو مشاهد، وآثار ذلك فيهم مشاهدة , فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد أن
كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت:
١٦) إلا أن يتوبوا. ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ,
ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له
ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع , فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوآن
بالعظات والعبر , والآيات والنذر. اهـ.