من مقالات العروة الوثقى خير ما كتبه علماء الإسلام في حكمة الدين الإسلامي
إن استقراء حال الأفراد من كل أمة , واستطلاع أهوائها يثبت لجلي النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم , وإن المتعصب لجنسه منهم لَيَتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يُقْتل دون دفعه بدون تنبه منه لطلب السبب , ولا بحث في علة هذه الوجدانيات الطبيعية , إلا أنه يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم , ثم نقل قبل التمييز إلى أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه ميلاً إليه بل يكون خالي الذهن من قِبَله ويكون مع سائر الأقطار سواء , بل ربما كان آلف لمرباه وأميل إليه , والطبيعي لا يتغير , ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي , ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها الضرورات، فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة, وفي أفراده ميل إلى الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية ذكية , وسعة المطمع إذا صحبها اقتدار يطبعها على العدوان، فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض آخر , فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابًا طوالاً إلى الاعتصاب بلحمة النسب على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس فتوزعوا أممًا كالهندي والإنكليزي والروسي والتركماني ونحو ذلك؛ ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده المتلاحمة قادرًا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر , ثم تجاوزوا في ذلك حد الضرورة كما هي عادة الإنسان في أطواره , فذهبوا إلى حد أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه علمًا بأنه لابد أن يكون جائرًا إذا حكم , ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذُلاًّ تحس به النفس وينفعل له القلب , فلو زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث بلا ريب، وتبطل الضرورة بالاعتقاد على حاكم تتصاغر لديه القوى , وتتضاءل لعظمته القدر , وتخضع لسلطته النفوس بالطبع , وتكون بالنسبة إليه متساوية الأقدام , وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض , ثم يكون القائم من قبله بتنفيذ أحكامه مساهمًا للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى , وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه لعامتهم في التطامن لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه السلطة المقدسة , واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من النفوس , والحكم لله العلي الكبير. هذا هو السر في إعراض المسلمين على اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات , ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم الإسلامية , فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة وهي علاقة المعتقَد [١] لأن الدين الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق , وملاحظة أحوال النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى , بل هي كما كانت كافلة لهذا جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد , وبيان الحقوق كليها وجزئيها وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود , وتعيين شروطها حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعًا لها , ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية أو ثروة مالية , وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة , وليس للوازع أدنى امتياز عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها. وكل فخار تكسبه الأنساب , وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض , بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع , والمعتمِد عليها مذموم , والمتعصب لها ملوم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية , وليس منا من قاتل على عصبية , وليس منا من مات على عصبية) والأحاديث النبوية والآيات المنزلة متضافرة على هذا , ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من يفوق الكافة في التقوى (اتباع الشريعة) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف الأجيال من لا شرف له في جنسه , ولا امتياز له في قبيله , ولا ورث الملك عن آبائه , ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه , وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه للشرع وعنايته بالمحافظة عليه. وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم للأحكام الإلهية , واهتدائهم بهديها , وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي , وكلما أراد الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره في أبهة ورفاهة معيشة , وأن يستأثر على المحكومين بحظ زائد رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف وانقبضت سلطة ذلك الوازع. هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يعتدُّون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس , وإنما ينظرون إلى جامعة الدين , لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي , والفارسي يقبل سيادة العربي , والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني , ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وإن المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظًا لشأن الشريعة ذاهبًا مذاهبها , نعم إذا نبا في سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه , وطلب الأثرة بما ليس له من حقه؛ انصدعت منه القلوب وتخلت عن محبته الأنفس , وأصبح وإن كان وطنيًّا فيهم أشنع حالاً من الأجنبي عنهم. إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها , ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية , وثابر على رعايتها , وَأخَذَ الدهماء بحدودها , وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع لها , وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز بسطة في الملك , وعظمة في السلطان , وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين , ولا يتجشم في ذلك أتعابًا , ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير الجيوش , ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية... ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين , والرجوع إلى الأصول الأولى من الديانة الإسلامية القويمة , ومن سيره هذه تنبعث القوة وتتجدد لوازم المنعة. أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط , ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم , وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة , وهو المعبر عنه في الاصطلاح الشرعي بسعادة الدارين , وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس المتباينة والأمم المختلفة. ابيضت عين الدهر , وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضًا من المسلمين على حكم الندرة يعز عليهم الصبر , ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية , فيلجأون للدخول تحت سلطة أجنبية، على أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق , فمثلهم مثل من يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع , وإن بعض ما يطرأ على الممالك الإسلامية من الانقسام والتفرق إنما يكون منشؤه قصور الوازعين وحيَدَانهم عن الأصول القويمة التي بُنيت عليها الديانة الإسلامية , وانحرافهم عن مناهج أسلافهم الأقدمين , فإن منابذة الأصول الثابتة , والنكوب عن المناهج المألوفة أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا , فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد شرعهم , وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم الله بسطة في الملك , وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة الدين , وفقنا الله للسداد وهدانا طريق الرشاد.
(المنار) لقد وقعت مقالة التعصب التي نشرناها في الجزء الماضي أحسن موقع وأجله في نفوس قارئيها من فضلاء المصريين , ولا ريب أن سيكون لهذه ما كان لتلك , فإن الكل من ينبوع واحد وهو علم أستاذنا الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية محرر جريدة العروة الوثقى , ومن هاتين المقالتين يعرف القراء السر والحكمة فيما اشتهر عن الأستاذ من تخطئة اللاغطين بالوطنية في مصر , والإعراض عنهم لجهلهم بما ينفع الأمة ويضرها , ولكن زعماء الوطنية يوهمون الناس بأن كل من يسفه أحلامهم فهو ميال إلى مسالمة المحتلين أو مصانعتهم , وقد أساء أغرار المصريين الظن بكثير من الفضلاء لوساوسهم , ثم انجلت الحقيقة لأكثرهم , وستنجلى للآخرين إن شاء الله تعالى.