للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البدع والخرافات

اختلاف العوائد في التسحير
نشرنا في مناري رمضان من السنة الماضية الأحاديث الموضوعة في
رمضان وفي الصوم، وبعض البدع التي فشت بين الناس في هذا الشهر الشريف،
ومما عده صاحب المدخل - رحمه الله تعالى - من البدع تسحير المؤذنين، وذكر
أنه ينهى عنه، ثم عقد فصلاً مخصوصًا لاختلاف عادات البلاد في التسحير، قال
فيه ما ملخصه مع حفظ حروف الأصل:
(اعلم أن التسحير لا أصل له في الشرع الشريف؛ ولأجل ذلك اختلفت فيه
عوائد بعض الأقاليم، ألا ترى أن التسحير في البلاد المصرية بالجامع يقول
المؤذنون: تسحروا وكلوا واشربوا، وما أشبه ذلك مما هو معلوم من أقوالهم،
ويقرأون الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: ١٨٣)
... إلخ ويكررون ذلك، ثم يسقون على زعمهم، ويقرأون من قوله تعالى: {إِنَّ
الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: ٥) إلى قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
القُرْآنَ تَنزِيلاً} (الإِنسان: ٢٣) والقرآن العزيز ينبغي أن يُنزه عن موضع بدعة
أو على موضع بدعة) وذكر إنشاد القصائد ثم قال:
ويسحرون أيضًا بالطبلة يطوف بها أهل الأرباع وغيرهم على البيوت
ويضربون عليها، هذا الذي مضت عليه عادتهم وكل ذلك من البدع، وأما أهل
الإسكندرية وأهل اليمن وبعض أهل المغرب فيسحرون بدق الأبواب على أصحاب
البيوت وينادون عليهم قوموا كلوا، وهذا نوع من البدع نحو ما تقدم، وأما أهل
الشام؛ فإنهم يسحرون بدق الطار وضرب الشبابة والغناء والهنوك والرقص واللهو
واللعب وهذا شنيع جدًّا.. . وأما أهل المغرب فإنهم يفعلون قريبًا من فعل أهل
الشام، وهو أنه إذا كان وقت السحور يضربون بالأبواق سبعًا أو خمسًا فإذا قطعوا
حُرِّم الأكل إذ ذاك عندهم.
ثم أطال في التشنيع على المغاربة كما شنَّع على أهل الشام على أن ما ذكره
عنهم غير معروف اليوم ولا سمعنا به، وذكر من عادات المغاربة العجيبة أنهم
عندما يمرون بالنفير والأبواق على باب مسجد يسكتون احترامًا لبيت الله، ثم إنهم
يفعلون ذلك في منار المسجد في شهر التوبة والعبادة، ثم حذر من التمادي بالأنس
بالعادة، وردَّ على من قال إن التسحير بدعة حسنة ثم قال:
وإذا كان كذلك فينبغي أن يُنهى الناس عما اعتادوه من تعليق الفوانيس التي
جعلوها عَلَمًا على جواز الأكل والشرب وغيرهما ما دامت معلقة، وعلى تحريم
ذلك إذا أنزلوها، وذلك يُمنع فعله لوجوه. وذكر أربعة وجوه:
(١) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض إيقاد النار ولا ضرب الناقوس
ولا النفخ بالقرن للإعلام بالصلاة، ورضي بالأذان فكان علامة للصلاة والصوم.
و (٢) أن في ذلك تغريرًا لجواز أن تنطفئ بنفسها فيراها من يكون مضطرًّا
لنحو أكل أو شرب فيمتنع ويتضرر.
و (٣) أنه قد ينساها أو ينام عنها الموكل بها حتى يطلع الفجر.
و (٤) أنها قد تشتبك ولا يقدر الموكل بها على خلاصها.
ونحن نقول: إن المؤلف رحمه الله تعالى قد شدد جدًّا، حتى جعل بعض
العادات بدعًا دينية، والبدعة إنما تكون حرامًا إذا كانت في الدين، وأما التفنن في
العادات المباحة فليس بمحرم إلا إذا فعل باسم الدين أو ظنه الناس من الدين، ولا
شك أن صرف أموال الأوقاف لا يجوز في غير مشروع.
***
مستقبل الإسلام في رأي
المسلمين الجغرافيين
عثرنا بالمصادفة على مقالة في جريدة اللواء عنوانها (مستقبل الإسلام)
وهي لرجل جزائري منحته الجريدة لقب (العالم) وذكرت أن مقالته نشرت في
(مجلة المسائل السياسية والاستعمارية) ويظهر لمتصفح المقالة أن كاتبها تلقى
خواص الإسلام ومزاياه من المسلمين الجغرافيين، لا من الكتاب والسنة وسيرة
السلف الصالح؛ ولذلك لم يفده ذكاؤه في التمييز بين ما هو من الإسلام، وما هو
من جماهير المنتسبين إليه اليوم، فغلط كثيرًا، ونسب للإسلام ما هو بريء منه.
فمن ذلك أن الذين يعتنقون الإسلام يتولاهم (اضطراب داخلي عظيم فتقف
عندهم كل حركة، وتدخل أعضاؤهم في دور ملل شديد) ونحن نقول: معاذ الله أن
يكون هذه صحيحًا، فإن الذي يدخل في الإسلام يزول من قلبه كل اضطراب
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} (الرعد: ٢٨) ويدخل في دور من النشاط كما نشط المسلمون في العصر الأول لكل
عمل مفيد.
ومنه زعمه أن مميزات المسلم: (قنوعه بالقليل وعدم طموح أنظاره نحو
الأمور العالية البعيدة، وتفضيله الحياة المتوسطة المصحوبة بالسكون والراحة على
الحياة الرفيعة المقرونة بالمشاغل والمتاعب) وزعمه أن زهادة المسيح لا توجد إلا
في المسلمين، وكل هذه الصفات مما رزئ به المسلمون الجغرافيون؛ ولكن الإسلام
إنما يمدح من القناعة ما يزكي النفس من الطمع فيما في أيدي الناس بالباطل ولم
يسلم منه المسلمون الجغرافيون؛ وإنما وُجدت عندهم قناعة الكسل التي هي ضد
الإسلام بدليل المباينة بين أهل الصدر الأول في جدهم وكدهم وعدم رضاهم بما
دون السيادة على جميع الأمم، وما عرفوا بالسكون عن طلب المعالي والسيادة، ولا
بحب الراحة التي غلبت علينا في هذه القرون النحسة التي ضاع فيها الإسلام
والمسلمون.
ومنه زعمه أن المسلم غير ميال للسياحة، وهو إنما يصدق على المسلم
الجغرافي أيضًا، أما الإسلام الحقيقي فقد وصف الله تعالى أهله بقوله: (السائحين
والسائحات) [*] وأمرهم بالسياحة في آيات كثيرة من كتابه ولم يأمرهم بالوضوء
للصلاة إلا في آية واحدة {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (النمل: ٦٩)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ
تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) .
ولا أنكر أن هذا الكاتب أصاب في بعض ما كتبه لا سيما تنديده بما وقع فيه
المسلمون من الجهل وقبول الخرافات والأوهام وقوله إنهم لا ينقرضون، وإن
انقرض الرومان والفراعنة من قبلهم وعلل ذلك بأن الأمم التي لها دين سماوي لا
تنقرض واستدل على ذلك باليهود، وإن أدري أعالم مسلم كتب تلك المقالة أم هي
دسيسة أسندت إلى هذا اللقب لتروج بين المسلمين ويطمئنوا إلى تلك المزايا الضارة
والأخلاق القاضية بالضعف والخمول، وأنت ترى أن بحثها ليس في مستقبل
الإسلام؛ وإنما هو في وصف المسلمين إلا الكلمة الأخيرة في عدم الانقراض.
***
نبي الطب الجديد
كُتب أيضًا إلى تلك الجريدة من مديرية القليوبية: أن في مركز نوى رجلاً
يدَّعي أنه أوحى إليه جبريل عليه السلام في المنام فلقنه الطب وعلَّمه مداواة العلل
والأسقام مهما اختلفت أنواعها، واشترط عليه أن يأخذ عن كل مريض يطببه
خمسين قرشًا فقيرًا كان أو غنيًّا، ذكرًا أو أنثى، وليدًا أو كهلاً، ويدَّعي أن الوحي
أباح له الخلوة مع الرجال خمس دقائق فقط، ومع النساء أربعين! ! ! ويعلل ذلك
بأن سائر النساء مريضات بالبواسير ولا يمكن استئصال هذا الداء منهن في أقل من
تلك المدة، وهناك حالات استثنائية يخلو فيها مع المرأة دون الرجل أكثر من
أربعين دقيقة، وذلك إذا كان بها ريح يمنعها من الحمل على زعمه، ومن الناس
من اغتر بهذه الدعاوى الباطلة فصدَّقوها.
(المنار)
إن الاعتقاد بوقوع خوارق العادات على الوجه الذي يتلقفه الناس بعضهم من
بعض واعتقاد أن كل من يأتي بأمر غريب لا يعهدونه فهو مؤيد من الله - هما
الاعتقادان اللذان أعدا الناس لقبول الدجل والانخداع للحيل، وإن ذهب بذلك
دينهم ومالهم وانتهكت أعراضهم، وقد ذكرت الجريدة من إقبال النساء والرجال على
هذا المتنبي المحتال، ولكن له أمثالاً من مدعي الولاية لا ينفر عنهم أحد.