للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

المكتوب التاسع من (أميل) إلى أبيه
الاستقلال في العلم، فلسفة الخلق والتكوين والاجتماع والمدنية، والاعتماد
على العقل دون الخطابة، حب الوطن. هيدلبرغ في ١٨ يناير سنة ١٨٦٠.
غادرت مدينة (بن) ونقلت كتبي (وهي كل ما أملكه تقريبًا) إلى مدينة
(هيدلبرغ) ، ومن نظام مدارس الجامعة في ألمانيا أنه يجوز لطلبتها مطلقًا أن ينتقلوا
من إحداها إلى الأخرى من غير أن يكون في ذلك ضياع لحقوقهم فيما نالوه من
الدرجات، على أن هذا التنقل يُمَكِّن الطلبة من الاختلاف إلى دروس أنبغ الأساتذة
وأشهرهم في كل من فروع العلوم البشرية.
إني إخالني تعلمت كثيرًا من دروس هؤلاء الأساتذة المفيدة ولكني كل يوم
أتبين أن تعليم المدارس بجملته لا يمكن أن يقوم لطالب الحق مقام علمه الذاتي الذي
يجري فيه على ما ترشده إليه سريرته.
أرى مذهبين يتنازعان عقول البشر أعثر عليهما أينما وجهت فكري فأجدهما
في العلم والحكمة والدين والسياسة، ومقتضى المذهب الأول أن العالم خلق مقسورًا:
أي أن كل ما فيه خصص بإرادة أزلية، وأن صور الحياة في الكائنات الحية ثابتة
لا تتغير؛ فتندمج الأصول بعضها في بعض وتنتج الفروع ناقلة مخصصات كل
نوع من مثال أزلي له، ومقتضى المذهب الثاني أنه وجد مختارًا بمعنى أن الكائنات
لم توجد من العدم بل استحالت من طور إلى طور، وأن القوى لم تسبق في الوجود
بل نمت، وأن الأنواع النباتية والمعدنية (هكذا في الأصل ولعل صوابه والحيوانية)
مستمرة البقاء غير أنها تتغير وترتقي على مقتضى نواميس طبيعية.
وإذا انتقلت من العلم إلى التاريخ وجدت الخلاف بعينه في آراء الناس، فيرى
بعضهم أن التمدن قديم وجد مع الإنسان: يعني أن الاجتماع أوجدته قدرة أعلى من
قدرة البشر، وأن أي أمة ليس لها أن تختار قوانينها وأوضاعها، وأن للحكومة مُثُلاً
لا تحيد عنها الأمم حتى تسقط في مهاوي الفوضى، ويرى بعض آخر خلافًا
للأولين أن الإنسان نشأ متوحشًا؛ أي: أنه كان قردًا متقنُ الخلقةِ فَفَرَّ من بين
الحيوانات وأنشأ على التعاقب قوانينه ومعايشه ومكانته في البرية بعد أن خلق نفسه
إن صح التعبير على هذا النحو، وأن الأمم قد مرت في أطوار نموها ببدايا أوضاع لم
تلبث أن باعدتها بتأثير الترقي الذي لا رادَّ له، فكما أن الأرض كانت بنفسها يكون
الإنسان بنفسه، ويؤلف مجتمعه بقواه الذاتية.
وإذا رجعت إلى الديانات وصدقت أقوال مؤوليها كانت كلها مُوحَاة من الله،
فإذا سألت خصومهم عن رأيهم فيها قالوا: إنها أمور طبيعية تدخل في قوانين إدراك
الإنسان المألوفة.
وكم يكون التباين أشد ومسافة الخُلْف أوسع إذا سألت أهل وطني عن آرائهم
في الأمور السياسية، وقد استخلصت من اختلاف طرق النظر هذه نتيجة، هي أني
مع بحثي في أفكار غيري وآرائه لا ينبغي لي أن أعول إلا على شهادة عقلي،
وسريرتي هذه هي السبيل التي صممت على سلوكها، وهي التي أوضحتها لي أنت
أيضًا، ويبعد كل البعد أن تكون هذه الضرورة الملجئة لي إلى الحكم بنفسي على
الأمور مدعاة إلى الكبر والصلف بل إنها تبعث في نفسي الذلة والاستكانة؛ لأني
أكون مضطرًا في كل وقت إلى الاعتراف لنفسي بأني لا أعرف شيئًا، وأنه يجب
عليَّ أن أتذرع بالإقدام وأن أوسع نطاق معارفي وأختلس من النظر في الحوادث
مقدمات اقتناعي، وأما البراهين الخطابية التي كنت أعتقد في ساعة من الساعات
أني أدرك بها ما لا حدَّ له من العوالم فقد تبين لي أنها شبيهة بتلك الأصداف
التي يتناقلها الأطفال في أيديهم ويضعونها على آذانهم متخيلين أنهم يسمعون فيها
اصطخاب البحر.
على أني لا أدرس وأبحث من أجل أن أكون عالمًا. فكل ما ينتهي إليه طمعي
ينحصر في فهم حاجات العصر الذي أعيش فيه والأخذ بناصر الحق، وهيهات أن
أنسى بلادي أو أعيش غير مبالٍ بمجاهداتها، فإني وإن ولدت في بلاد أجنبية أجد
فرنسا حيثما نظرت فإنها تبدو لي في انتصارها الكثير الذي انتشر في أرجاء الدنيا،
وأراها حتى في مصائبها التي نزلت بها عقابًا لرجل من رجالها على تغطرسه
وتجبره، هذا الوطن الذي ما رأيته في حياتي هو في نسبته إلى أمي الثانية فَلا
يُذْكَرُ إلا وَيَتََسعر جِلدي لذكره، ولا يُنْتَقَصُ إلا ويَتَبَيَّغ دمي كله انتقامًا له، وليس
الذي يبهرني منه هو غزواته ووقائعه الحربية، وإنما هو تاريخ مكافحاته ووثباته
الباسلة في طريق الحرية، وإني أحب مفكريه الذين يعملون فيه وهم يضحكون
وأعجب بكُتَّابه الذين يهيجون القلوب وهم لنور العلم يبثون، فأنا من صميم قلبي
ملك له، وبما في نفسي من الأمل في خدمته يومًا ما تجدني مغتبطًا ومعتزًّا
بالانتساب إليك. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))