للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأثير الصحافة في أخلاق الأمة

سيدي الأستاذ صاحب المنار
بمناسبة مقالكم الصريح عن حال المسلمين الاجتماعية ومكان الأغنياء وسائر
الطبقات منها ربما جاز لي أن أتعرض بكلمة وجيزة لمسألة حيوية مرتبطة بهذا
الموضوع وهي تأثير الصحافة في أخلاق الأمة.
بديهي أن الصحافة من الموازين التي تقاس بها درجة الرقي في شعب من
الشعوب، كما أنها إحدى المكيفات له وأحد عوامل الإصلاح إذا قبض على زمامها
من لهم خبرة به. ليس من الصعب على الإنسان إذا فحص حالة الجرائد في قطر
من الأقطار أن يقرر حكمًا تقريبيًّا عن مبلغ نهضة أهل ذلك القطر وشكل مزاجهم،
كذلك ليس من الصعب التنبؤ بمستقبل الحركة الفكرية في أمة ما استنتاجًا من
مشرب صحافتنا التي هي أشبه بمرب ومهذب لها. والدارس لحال الصحافة في
وادي النيل لا يتيسر له التفاؤل الحسن عن تقدمنا في الآداب والأخلاق.
عودت الصحافة المصرية الرأي العام على قبول المدح يُزَفّ لمستحقه ولغير
مستحقه بغير حساب، وعوّدت الجمهور على أن لا يعمل عملاً بغير جزاء مادي أو
غير مادي أقله المدح سطورًا لا تعد، فأصبحنا وليس بيننا مَن يعرف مبدأ التضحية
ويعمل به إلا شواذ شقوا بسمو أخلاقهم , وضاعت أتعابهم ومجهوداتهم النبيلة ,
وصار لا يعرف الإحسان إلا الأقلية الضئيلة الصالحة، ومن عداها من المتظاهرين
بالبر فمنافقون تضطرهم إلى ذلك الرهبة من الرؤساء والحكام، أو متأخرون يرغبون
في الإعلان عن أنفسهم بما ينفقونه. وليس من الغريب بعد هذا إذا أصبحت
جميع مشروعاتنا الخيرية عُرضة للفشل، كما أنه ليس من المدهشات أن يتصدى
بعض الناس للقيام بعمل خيري دون أن يكون لهم في الواقع غَيْرة عليه بل كل
قصدهم الإعلان عن أنفسهم سواء نجح العمل أم لم ينجح. ويتبع كل هذا بطبيعة
الحال إساءة الظن من بعضنا ببعض، وتعثرنا في أعمالنا، وتسابقنا إلى شهرة
كاذبة وغرور باطل، وإغراق أخلاق الأمة ومصالحها في هذا التيار.
لم يقتصر كرم الصحافة بالإطراء المتناهي على العُمَد والأعيان بل شمل أيضًا
رجال مهنة الطب الشريفة وخلطت الشخصيات فيه بالعموميات فأصبحت أنهار
الصحف مزدانة يوميًّا بالإعلانات الفخمة عن الأطباء مما يَندى له جبين الحر،
ومما ضر سُمعة هذه المهنة الجليلة في القطر المصري. وبعد هذا وذاك تشكو
الصحف من المتاجرين بالطب من أهله ومن غير أهله. فكم قرأت من أوصاف
المدح لأطبائنا ما لا يقال مثله لأوزلر أو رولستون أو أرلخ أو كارلس أو لين أو
أوجل أو غيرهم من فطاحل علماء الأطباء بأوروبا! وأتذكر أني زرت وطني منذ
ثلاث سنوات وكنت لا أزال حينئذ طالب علم فكتبت عني وقتئذ إحدى الصحف
العربية الكبرى بالقاهرة ما لا يجوز أن يكتب إلا عن ذي منزلة علمية كبيرة!
واضطررت على كره مني أن أحرر كتاب عتاب شديد اللهجة إلى صديقي المحرر..
ولا تزال الصحف تعوّد طلبة العلم الناشئين حب الظهور الضار ولا سيما الطلبة في
أوروبا. وإنني مع اعترافي بأن منا بعض المتفوقين الحاصلين على شهادات علمية
عالية جليلة المنزلة وهم قليلون، وأن منا بعض المتفوقين على أقرانهم الأوروبيين
في امتحانات المسابقة للجوائز العلمية وشهادات الشرف وهم أقل وأندر، أرى أن
كل هذا لا يجيز للصحف أن تبالغ في فوز فائز وتنعته بأكبر النعوت التي لا تناسب
مركزه؛ لأن هذا مُزر بكرامتها وكرامة الممدوح ومؤد إلى فساد أخلاق الناشئة.
فهذه يا سيدي الأستاذ علة من علل اجتماعية كثيرة سببتها الصحافة بتهاونها
بدل أن تقضي عليها وعلى أمثالها بالموعظة الحسنة والقدوة الصالحة، وأدت إلى
الكثير مما تشكو ويشكو منه الغيورون المصلحون الذين لا نعرف أقدارهم إلا متى
حرمنا من مساعيهم فنندم بُرهة على التفريط حين لا ينفع الندم، ثم نستمر في
ضلالتنا، ومعظم الصحف تجارية في ذلك حرصًا على مودتنا لها، بدل أن تزجرنا
وترشدنا حبًّا في نفعنا. فحبّذا لو وجهتم عنايتكم بالإصلاح شطر رصفائكم الأفاضل
مرة قبل أن يستفحل الداء فقد أشرفنا على عهد لا يكاد يستطيع شريف النفس أن
يضمن النجاح لعلمه بعقله وجدّه في هذه الفوضى ما لم يقرن ذلك بالإعلان عن نفسه
والسمسرة في هذا السبيل. وإذا كان أحد أسباب هذا المصاب الجهل وضعه-
الأخلاق فثاني الأسباب هو انحطاط الصحافة.
... ... ... ... ... ... نادي مستشفى سانت جورج بلندن
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب)
(المنار)
أحسن الكاتب وأصاب، ولا رجاء في إرجاع الصحف بالنقد إلى مَحجة
الصواب؛ لأن أكثر أصحابها لا يقصدون الإصلاح، وجميعهم يقصدون الكسب
والجاه، والذين يميلون إلى الإصلاح منهم يتحرون في كلامهم ما لا يسوء القُراء
كالمسائل النظرية والإرشاد المجمل. ثم هي تمدح من يستحق الذم، وتسكت عما
يجب من النقد. ولا يتسع هذا التعليق الوجيز للإطالة في تأييد رأي الكاتب في
جنايتها على الأخلاق، ولكنني أنقل فيه كلمة تغني عن مقالات:
حدثني شيخنا الشيخ حسن الجسر عن حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني وكان
قد لقيه في الآستانة بعد إنشاء جريدة طرابلس الشام التي كان الشيخ شريكًا ومحررًا
فيها، ولكن مقالاته فيها لم تكن تعزى إليه قال:
قال لي السيد: إن جريدتكم (طرابلس) قد جمعت بين الكفر والإيمان، ترى
في صدورها مقالة في مدح الصِّدق وذم الكذب مثلاً وأكثر ما فيها بعد تلك المقالة
كذب - وأشار إلى ما يذكر كل عدد من إطراء رجال الدولة والحكومة وغيرهم من
الوجهاء- فقلت له: إن مدير الجريدة يفعل هذا على سبيل التقية (وذكر الشيخ أنه
تنصَّل من مهنة الصحافة) فقال له السيد: التقية مذهب الشيعة.. وأنكر على
الشيخ تنصُّله من الصحافة وقال: أنا صحفي. ثم قال وهو المراد: إننا لا نخطو
خطوة واحدة إلى الإمام إلا إذا أعطينا كل ذي حق حقه فسمينا العالِم عالمًا،
والمُصلح مصلحًا، والمفسد مفسدًا..