للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سكة الحديد الحجازية

(استولت السلطة الفرنسية في سورية على ما فيها من سكة الحديد الحجازية ,
التي هي وقف إسلامي خاص بالبلاد المقدسة , استولت على إدارتها وأدواتها
وأموالها , وجعلتها تابعة لشركة الخط الحديدي الفرنسية بين الشام وحماه , وقد
كتب إلينا كاتب سوري من أعلم الناس بتاريخ هذه السكة المقالة الآتية في سبب
إنشائها , وإثبات وقفيتها وبيان حالها , واغتصاب السلطة الفرنسية لها , وهذا
نصها) :
إن الدولة العثمانية لما رأت أن المسلمين الساكنين في ممالكها , والمتفرقين
في أنحاء كرة الأرض كمسلمي تونس والجزائر وفاس في المغرب، ومسلمي
الهند والأفغان وإيران والصين , وسائر المشرق , يأتون من كل فج عميق في
كل سنة؛ لأداء فريضة الحج , وزيارة حرم الرسول المصطفى صلى الله عليه
وسلم وقبره الشريفين , ورأت ما يعانيه أولئك الحجاج من بعد المسافة وتحمل مشاق
الطريق المملوء بالمصاعب والمتاعب , وركوب متون الإبل لقطع تلك الصحاري
الشاسعة - ارتأت [١] أن تمد سكة حديدية تمتد من حيفا ومن دمشق إلى المدينة المنورة.
وقد كان لهذا الأثر الجليل مقصدان:
(الأول) إجابة إلحاح مسلمي الأرض على مقام الخلافة في ذلك الوقت بهذا
العمل؛ ليتمكنوا من أداء فريضة الحج , وسنة الزيارة بسرعة تامة وراحة واطمئنان
على أموالهم؛ إذ يوجد فيهم الشيخ العاجز والطفل الصغير , والنساء المخَدَّرات
وغيرهم من ذوي المعاذير كالأعرج والأعمى والمقعد.
(الثاني) تأمين سلطة الخليفة على الحرمين الشريفين، إذ كان كل خليفة من
خلفاء المسلمين يلقب بخادم الحرمين الشريفين , ويفتخر هو بأن يتولى هذه الخدمة
إما بنفسه أو بواسطة من ينوب عنه؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى. وإذ كان هذا العمل
العظيم يحتاج إلى نفقات طائلة وافرة , لا يمكن أن يقوم بها فرد من أفراد المسلمين ,
بل يتعذر أن تقوم به الدولة نفسها تقرر بعد الاستشارة والمذاكرة ما يأتي:
(١) تشكلت لجنة عامة لهذا المشروع , أوفدت من قبلها الوعاظ المرشدين
إلى جميع الأقطار الآهلة بالمسلمين؛ لحثهم على جمع الإعانات له، فأجيبت الدعوة
في كل قطر إسلامي , وكانت اللجنة العليا تنشر مقدار الإعانات وأسماء أصحابها
في الجرائد التركية والعربية , وغيرها من صحف العالم. وقد وضعت الدولة
العثمانية لتنشيط هذا العمل (مداليات) أنواطًا من الذهب والفضة , وسمتها باسم
إعانة السكة الحجازية , ويوجد كثير منه عند المتبرعين، كما أنها أحدثت أوراق
طوابع خاصة سمتها بالطوابع الحجازية؛ لكي تلصق على كل ورقة من الأوراق
الرسمية لمعاملات الدولة على كل سند وعقد ينظم بين عاقدين , لا فرق بينه وبين
الطوابع المختصة بالديون العامة , ولا تزال هذه الطوابع إلى يومنا هذا تلصق
ويؤخذ رسمها على جميع الأوراق والمستدعيات , التي ترفع إلى المقامات الرسمية
في تركيا وفى المقاطعات التي انفصلت عنها في أثر الحرب وتقرر انسلاخها عنها
بموجب معاهدة لوزان الأخيرة.
(٢) قبل وقوع الحرب الأخيرة حصل اعتراض من سفراء الدول الأجنبية
على إلصاق طوابع الإعانة الحجازية على الأوراق التي تتقدم من طرف رعايا
الأجانب , وكان من حجج اعتراضهم أن هذه الطوابع وضعت؛ لإعانة دينية
إسلامية , فلا يجب على الأجانب دفعها , وبناء على هذا الاعتراض قررت حكومة
الآستانة وقتئذ أن إلصاق الطوابع الحجازية على الأوراق المتعلقة بالأجانب أمر
اختياري لا إجباري , وبلغت جميع ولاياتها هذا القرار , وهذه التبليغات لا تزال
محفوظة في الدوائر الرسمية.
(٣) في ١٨ أغسطس سنة ١٣٣٠ (الموافق سنة ١٩٢١) صدر قانون
بإلحاق السكة الحجازية بنظارة الأوقاف بناءً على كونها من الأوقاف الإسلامية
الموقوفة على الحرمين الشريفين , وفيه أن ريعها يصرف قسم منه على تأمين دوام
عمارتها. والقسم الآخر يصرف على الخيرات والتحسينات في سبيل استكمال
استراحة حجاج بيت الله الحرام , وتأمين راحتهم في حلهم وترحالهم.
ومن المعلوم أن الوقف في عرف الشرع عبارة عن حبس العين الموقوفة على
وجه تعود به منفعتها إلى ما وقفت له منه , وتبقى ثابتة لا تملك ولا يتصرف فيها
ببيع ولا رهن ولا هبة ولا غير ذلك , مما يخل بغرض الواقف وينافي نص الشارع.
فالأوقاف الصحيحة المماثلة لوقف السكة الحجازية لا تباع ولا تشترى , ولا يجوز
هبتها لأحد , وإن لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعيدًا كان أو قريبًا حق الانتفاع
بها في الحج والزيارة , وما يتبعهما من تجارة وحق المدافعة عنها إذا اعتدي عليها.
وليس الوقف خاصًّا بالشرع الإسلامي، فعند سائر الملل أوقاف دينية وخيرية مصونة
من كل اعتداء , ومحترمة عند سائر أهل الأديان.
(٤) كانت الحكومة الفرنسية في أثناء عقد قرضها الكبير لتركيا سنة
١٩١٤ طلبت جعل الخط الحجازي تحت إدارتها من قبيل الكفالة والضمان لذلك
المال أو بعضه , فردت الحكومة التركية هذا الطلب الشاذ ردًّا قطعيًّا بحجة كون
الخط وقفًا شرعيًّا , لا يجوز لها التصرف فيه بذلك على ما كان من احتياجها الشديد
إلى النقود في ذلك الوقت.
(٥) كان الخليفة عند إنشاء هذا الخط هو الناظر عليه بما له من حق
الولاية العامة في الشرع الإسلامي، لا بصفة أخرى.
بعد هذه البينات نقول:
إن السلطة الفرنسية في سورية لم تراع حق وقفية هذا الخط , ووجوب جعله
في يد المسلمين الموقوف على منفعتهم الدينية , فاستولت عليه في آخر شهر شباط
(فبراير) سنة ١٩٢٤ , وجعلته تابعًا لشركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها
الفرنسية , بموجب مقاولة عقدتها معها مباشرة بغير استشارة أحد من متولي إدارة
الوقف , ولم تشأ السلطة الأفرنسية المذكورة نشر تلك الاتفاقية؛ لما تعلم هي من
إجحافها العظيم بمصالح الخط , بل أبقتها سرًّا مكتومًا بينها وبين الشركة المذكورة،
ولكن تيسر لبعض المنقبين أن يعلم من أحد كبار مأموري هذه الشركة , أن حصتها
هي بنسبة ستين بالمائة من أصل ريع (واردات) الخط , ولها فوق ذلك امتيازات
أخرى من التصرف فيه كاستعمال قاطراته وشاحناته (عربات النقل) على خطها
بلا مقابل ولا بدل , ولم يسمع ولم ير في زمن من الأزمان ولا في مكان من الأمكنة
ذات القوانين والنظام , عقد اتفاقية جائرة ظالمة بهذه الدرجة المدهشة لا تأتلف مع
شرع ولا منطق ولا قانون.
على أن شركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها لم تتمكن من تاريخ تأسيسها
قبل ثلاثين سنة تقريبًا حتى الآن من تحسين شئون إدارتها وتلافي عجزها المالي
السنوي المستمر , وهي تستوفي أعشار حمص وحماه؛ لسد عجزها، خصوصًا
فيما يتعلق بخط رياق - حلب؛ إذ الكفالة الكيلو مترية بموجب صك امتيازها لأن
تكون الحاصلات غير الصافية ثلاثة عشر ألف وستمائة فرنك , عن كل كيلو متر
في السنة، علاوة على كون مقدار هذه الحاصلات زهيدًا جدًّا بالنسبة إلى
الخطوط الحديدية , لم تتمكن الشركة الذكورة من الوصول إليه والحصول عليه ,
وأما حاصلات إدارة السكة الحجازية التي نزعتها السلطة الفرنسية من يد إدارتها ,
التي لم يكن يوجد بين رجالها أحد ما من الأجانب , فلم تنقص عن ثمانية وعشرين
ألف فرنك في السنة , عن كل كيلو متر من السنين الأربع الأخيرة , وهي قد
تمكنت من أن توفر مبلغًا نقديًّا قدره (٤٧٠٥٢٢) ليرة؛ لأجل استعماله في ترميم أقسام الخط المخربة ما بين معان والمدينة المنورة , ولكن الشركة الأفرنسية
استولت على هذا المبلغ أيضًا وعلى جميع ما في مخزن الإدارة الكبيرة من
الأدوات , التي تبلغ أثمانها مائتين وعشرين ألف ليرة أخرى , وعلى جميع
القاطرات والشاحنات والعربات بما فيها , والقسم الذي تم إصلاحه وترميمه
المعد لاستئناف العمل، وتأمين السير والسفر للحجاج الكرام حتى المدينة المنورة،
كما كان متبعًا قبل الحرب.
نفذت السلطة الأفرنسية في سورية هذه المعاملة المجحفة خلافًا للشرع الشريف
ولنص المادة (٦٠) الستين من معاهدة لوزان , ولأحكام المواد السادسة والتاسعة
من صك الانتداب على سورية , التي تقضي باحترام الأوقاف , وعدم التجاوز
عليها والتدخل في شؤونها , فهذا الاعتداء يعد اعتداءً على الشرع الإسلامي نفسه
وعلى المصالح الإسلامية الخاصة بالمسلمين , وقد تبعه الاعتداء على جماعة كثيرة
من المسلمين، فإن الشركة المذكورة قد بادرت من أول العهد باستيلائها على الخط
الحجازي في سورية بإخراج مائتين وواحد وأربعين مأمورًا ومستخدمًا فيه , فقضت
بذلك على مائتين وإحدى وأربعين عائلة , واستخدمت من عندها من يقوم مقامهم
ممن ليس له مثل ما لهم من الخبرة والتمرن على العمل؛ لأنهم شبوا في خدمة
الخط الحجازي، وتدربوا وتمرنوا فيه منذ سنين طويلة , وكانوا معدين للاستخدام
فورًا على ما يتجدد من أقسامه ويوجد من فروعه تأمينًا؛ لدوام سير الأعمال،
ومنعًا لتأخير السفر إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إن حركة السلطة الأفرنسية الواقعة هي عبارة عن ضربة متوجهة إلى قلب
الإسلام , وكان يجب عليها أن تساعد على توحيد فروع الخط مع إدارته , وتشكيل
لجنة إسلامية؛ لمراقبة سير أعماله بموجب قرار لوزان المؤرخ في ٢٧ كانون الثاني
(يناير) سنة ١٩٢٣ خدمة للمقصد الجليل , الذي أسس لأجله ولإدامة حياته ولكنها لم
تفعل هذا، ولم تترك الخط لإدارته الإسلامية المنظمة , بل شاءت أن تقضي عليه،
وأن تجعله للفرنسيين لا للمسلمين.
إن تجزئة خط الحديد الحجازي جناية عليه , لا يجوز التسامح فيها ألبتة؛
لأن بعض أقسامه يضمن بقاء البعض الآخر؛ إذ منها ذو الربح الدائم. وبعضها
لا ربح فيه في معظم السنة , وإننا نرى بعض أقسامه المثمرة كقسم حيفا بيد سلطة
غريبة غير مسلمة أيضًا , فهي تجني الثمار منه وتصرفها في غير ما وقفت عليه
الخط وما أنشئ لأجله , وبذلك يبقى القسم الجنوبي الكبير الممتد إلى المدينة المنورة
في منطقة الحجاز خرابًا , لا يقوم بالمقصد السامي الذي أسس لأجله، وهو نقل
الحجاج الكرام إلى مدينة الرسول , وتقريبهم من بيت الله الحرام، لعدم كفاية
حاصلاته لتسديد ما يحتاج إليه من النفقات , فإننا نرى في آخر إحصاء للخط
الحجازي قبل الحرب (وهو إحصاء سنة ١٩١٣) أن واردات الخط الكبير كانت
(١٩١٣٧٤) ليرة عثمانية ذهبية , وأن نفقاته بلغت (٢٢١٤٣٠) ليرة فيكون
النقص (٣٠٠٥٦) ليرة , ولكن واردات قسم حيفا كانت في السنة المذكورة
(٩٢٤٢١) ليرة، ونفقاته (٢٩٥٩٩) ليرة، فتكون الزيادة (٦٢٨٢٤) .
فيتضح من ذلك أن قسم حيفا أيضًا لازم غير مفارق للخط الكبير , وأنه بدونه
لا يمكن السير والسفر على هذا الخط المقدس بسبب العجز البالغ (٣٠٠٥٦) ليرة.
يضاف إلى ذلك أيضًا أنه إذا بقى قسم حيفا منفصلاً عن الفرع الكبير على اتصاله
بالبحر , فإن تعليمات الفحم التي تقدر بـ (١٨٠٠٠) طن ستنقل بأجرتها على هذا
القسم , وتبلغ مصاريفها (١٤٥٠٠) ليرة تقريبًا. يعني أن الخط الجنوبي الكبير
يخسر لذلك سنويًّا (٤٤٥٥٦) ليرة , وهذا الحال يكون قاضيًا على حياته مما لا
يرضاه العدل النزيه , والوجدان الطاهر اهـ.
(المنار)
يجب على العالم الإسلامي أن يرفع صوته بالاحتجاج على ما فعلته السلطة
الفرنسية في سوريا من الاستيلاء على السكة الحجازية، وسنبين هذا في جزء ثان
إن شاء الله تعالى.