للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ محمد عبده

(هذا هو عنوان الفصل السابع من تقرير اللورد كرومر عن مصر
والسودان لسنة ١٩٠٥) قال:
(اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر أريد به الشيخ محمد عبده فأحببت أن أسطر هنا رأيي الراسخ
في ذهني، وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة!
لما أتيت مصر القاهرة سنة ١٨٨٣ كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي
السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق، فعين الشيخ بعد ذلك
قاضيًا في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة وفى
سنة ١٨٩٩ رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في
هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة؛ لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع ما به
من سعة العقل واستنارة الذهن وأذكر مثالاً على نفع عمله، الفتوى التي أفتاها في
ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير فقد وجد لهم بابًا به يحل
لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء [١] .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هى معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد
الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في (عليكره) بالهند منذ ثلاثين عامًا، والغاية العظمى
التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن
يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني.
فعملهم شاق وقضاؤه عسير؛ لأنهم يُستهدَفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين
من الذين يخلص بعضهم النية في النقد، ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك
حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين! .
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة!
ولكنهم قليلون وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم
ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبقَ فيهم من الإسلام غير
الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة، فهم وسط بين طرفين وغرض انتقاد الفريقين
عن الجانبين كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين غير أن
معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين؛ إذ هؤلاء لا
يكاد يُسمع لهم صوت.
(ولا يدري) إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده
شيخها وكبيرها فالزمان هو الذى يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا. وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام؛ إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا
فيه! , فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين!
ولعلهم يجدون بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف به
المعارضة التي لقيتها مدرسة عليكره الكلية المذكورة آنفاً والطريقة التي تغلَّبوا بها
على تلك المعارضة.
بعد ما وصف السيد محمود قلة اهتمام المسلمين في الهند بتعلم العلوم منذ أربعين أو
خمسين سنة قال:
(وكان هؤلاء السادة المسلمون مستاءين من قلة تقدم المسلمين في تعلم العلوم
العالية غير أنهم كانوا مستاءين من أنفسهم أيضاً ومتحسرين على العلوم التي أهملوا
تعلمها. ولكنهم لم يكونوا ممن يكتفي بالتشكي والتذمر ويقتصر على اللوم والتعنيف؛
بل إنهم لما علموا علة الشر وأصل البلوى عقدوا النية على اكتشاف علاجها أيضًا
فأنشأوا جمعية شيخها السيد أحمد خان الذي قضى العمر مجاهدًا في سبيل تهذيب
العقول بالعلوم والمعارف وجعلوا غايتها العظمى البحث عن وجوه الاعتراض التي
يعترض بها المسلمون على التعليم الذي تعلمه حكومة الهند في مدارسها ومعرفة
التعليم الذي يرجون استبداله به.
فاتضح لهم أن الرجوع إلى أساليب التعليم التي كانت متبعة في الشرق قديمًا
أضحى ضربًا من المُحال، ورأوا - على ما بهم من الإكرام والاحترام لتقاليد السلف
والاستعظام لكنوز العلوم والآداب التي توارثوها عن آبائهم - أن التعليم الذي يرقي
قومهم إلى درجة تلائم التمدن المحيط بهم ويردهم إلى مقام يشعر فيه بنفوذهم
وتأثيرهم إنما هو التعليم المبني على الاعتراف بتقدم العلوم الواسع الأبواب، الدقيق
الدروس، المحبب إلى المتعلم كل أمر بديع عجيب في علوم البلدان الأخرى وآدابها
وفلسفتها فكانت هذه السعة منهم في العقل والأصالة في الرأي أعظم خطر على
مشروعهم في بادئ الأمر لأنهم لو دعوا جموع المسلمين إلى قبول رأيهم المبني على
مبادئ لا تخالف الدين الإسلامي بالذات بل تخالف التفاسير التي يفسرها بها أكثر
المتدينين به لاستفزت الدعوة جموع المسلمين إلى المعارضة وأقامت على الجمعية
القيامة. وكانت الجمعية تعلم ذلك وتصبر عليه لانتظارها الفوز في النهاية فبقيت مدة
وليس من يؤديها عن طيب نفس حتى ضعفت المعارضة شيئاً فشيئاً أمام شجاعة
المصلحين وثباتهم. ثم أيدهم رجال خطيرو الشأن مثل المرحوم (السِّر) سلارجنك
تأييدًا ماديًّا من جهة ومعنويًّا من أخرى في اعتبار الذين يعدون الاسم العظيم
ضمانًا عظيمًا.
وكان أعضاء هذه الجمعية متخلِّقين بأخلاق تجلّهم وتنزههم عن كل غاية
شخصية فزالت الأوهام بعد إدراك حقيقة بدعتهم الرهيبة وانقلب بعض الذين كانوا
ألد خصومهم إلى أشد الأنصار غيرة عليهم. وقد مضى ثلاثة عشر عاماً [٢] على
اجتماع الجمعية لوضع مشروعها، وظني أن الذين كانوا أقوى أعضائها آمالاً في
نجاح مسعاها لم يكونوا يتصورون أنها تنجح النجاح السريع الذي عاشوا حتى
شاهدوه) انتهى.
أقول: في تلك المدرسة الآن ٧٠٠ طالب ولو كانت تسع غيرهم لكان فيها أكثر
منهم ومعظم الذين فيها من الهند ومنهم طلبة من بلاد الصومال وفارس وبلوخستان
وبلاد العرب وأوغندة ومويتيوس ومستعمرة الرأس، ويقيني أنه لو قصدها الطلاب
من مصر لاستُقبلوا فيها بالسرور والبشاشة وأنزلوا على الرحب والسعة! .
(وقال في أواخر الفصل الذي تكلم فيه على المحاكم الشرعية (ص١٣٢)
ما نصه:
(هذا، وإني أوافق (السر) ملكولم مكلريث على ما قاله عن الضربة الثقيلة
التي أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت الشيخ المرحوم محمد عبده فقد أشرت
إلى خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير وأعود فأبسط الرجاء
أيضاً أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته) .
اهـ.
أما ما أشار إليه من كلام السر ملكوم مكلريث المستشار القضائي في تقريره
عن المحاكم فها هو بنصه:
(ولا يسعنى ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي
بغير أن أتكلم عن مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليو الفائت، وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده! فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم
الشرعية، وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه والاستعانة بمساعدته الثمينة
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر، كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها!
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدَّر في مجلس شورى القوانين في معظم ما
أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات
القضائية؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ويبحث عن حل
يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك، وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته؛
نظرًا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية
التي اكتسبها أثناء توظُّفه في محكمة الاستئناف وسياحاته إلى مدن أوربا ومعاهد العلم،
وكانت النظارة تريد أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المُزْمَع إنشاؤها
ومراقبتها مراقبة فعلية. أما الآن فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة
للقيام بهذه المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته، فلكل هذه الأسباب أشعر أن نظارة
الحقانية ستظل زمناً طويلاً تشعر بخسارتها بفقده) اهـ. كلام المستشار.
العبرة في كلام اللورد كرومر
مَن تأمل كلام اللورد فى هذا الفصل وتلك الشذرة استفاد منه ضروبًا من
العبر والحكم تدل على أن هذا الرجل الاجتماعي الكبير قد علم من شئون
المسلمين - وهو أجنبي - ما لم يعلمه الرؤساء من علمائهم وأمرائهم، فضلاً عن
أوساطهم ودهمائهم: فرأينا أن نبين ذلك مع شيء من الشرح والرأي:
(العبرة الأولى: بيانه لحال المسلمين)
ذلك أنه قسم المسلمين إلى ثلاثة أقسام:
(الأول) المتنطعون المحافظون على كل قديم جروا عليه وهم السواد
الأعظم.
ونقول: إنه قد بلغ من تنطعهم في جمودهم على ما ألفوا أن كان من أشد
الصعوبات التي لاقتها الدولة العلية في سبيل التعليم العسكري في طرابلس الغرب
محافظة الأهالي على زيهم المعروف، وحسبانه من أمور الدين. وإن أهل مراكش
لأشد تنطعاً وجموداً على ذلك، ولا يخفى على من شاهدوا حركات العساكر في
الحرب أو في التعليم أن لبس البرنس والرداء المعروف بالحِرام من عوائق خفة
الحركة وموانع إتقان كثير من الأعمال التى تتوقف عليها البراعة العسكرية ولا
يختلف عاقلان في كون البراعة في الأعمال العسكرية، ومن أهمها خفة الحركات
والنظام في النقل والانتقال - هي أعظم أسباب الفوز والظفر. فهذه عادة ليست مما
توجبها عقائد الدين ولا عباداته ولا فضائله وآدابه فقد صارت عقبة كؤدًا في طريق
رقي المسلمين، وعزة الإسلام وحماية الدين، فما بالك بغيرها من العادات التي
تقوم على إلحاقها بالدين بعض الشبهات؟ !
وهذا القسم من المسلمين تابع في صلاحه وفساده لشيوخ العلم الديني وشيوخ
الطريق الذين ينتمون إلى الصوفية فهو لا يصلح إلا إذا صلحوا وأصلحوا أو زال
اعتقاده بزعامتهم الدينية وقيض له بعد ذلك مصلحون آخرون.
(القسم الثاني) المتفرنجون الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه.
ولله دَرّه ما أدق فكره إذ عرف أنهم مارقون من الدين ساقطون من نظر
الاعتبار لا قيمة لهم في أنفسهم، ولا صوت لهم في أمتهم، وسنعود إلى ذكر ذلك.
(القسم الثالث) المصلحون الذين يريدون إصلاح حال المسلمين الاجتماعية
مع المحافظة على الدين؛ لعلمهم أن كان فساد طرأ عليهم فمنعهم عن مجاراة الأمم
في أسباب العزة والقوة إنما هو من العادات والبدع لا من جوهر الدين.
وقد أدرك اللورد بصائب فكره أن هذا القسم هو الوسط الذى يرجى خيره بين
المتنطعين في جمودهم والمتهتكين في تفرنجهم. قال: إن هذا الحزب معروف في
الهند أكثر مما هو معروف في مصر، وإن منه السيد أحمد خان مؤسس مدرسة
عليكره الكلية منذ ثلاثين عامًا. ونقول: إن الزمن الذي قام فيه أحمد خان بعمله هذا
هو الزمن الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني يبذر فيه بذور الإصلاح في مصر
بمساعدة الشيخ محمد عبده الذي تلقى عنه وتخرج على يديه (وترى في هذا الجزء
مقالتين من المقالات الإصلاحية التي تلقاها عنه ونشرها في جريدة مصر التى كانت
أنشئت بإرشاده) وكان السيد جمال الدين فيما نظن أقدر من السيد أحمد خان على
الإصلاح لولا أنه فُتن بالسياسة فحالت دون إتمام عمله في مصر، ولم تمكّنه من عمل
يُذكر في غيرها سوى ما كان يكتبه في أوربا من المقالات الموقظة؛ لذلك كان
الأستاذ الإمام جازمًا بأن مسالمة السياسة واتقاءها شرط للتمكن من الإصلاح كما بينَّا
في ترجمته , وغرضنا من هذه الكلمات بيان أن مسلمي الهند لم يسبقوا مسلمي
مصر إلى الاشتغال بالإصلاح، وإنما فاقوهم بمدرسة العلوم الكلية التي أسسها أحمد
خان وقد عزم الأستاذ الإمام أن يؤسس في مصر مدرسة خيراً منها لكن المنية عاجلته
قبل ذلك فقد مات قبل وقته كما قال اللورد! ! ! وقال كل عاقل عرفه.
وليعلم مسلمو مصر أن مدرسة العلوم في عليكره لم تنجح إلا لأن مؤسسيها
كانوا من عهد زعيمهم السيد أحمد خان إلى الآن على وفاق مع السلطة الإنكليزية
وتحسين للظن بها، فكانوا خيراً لملتهم ممن جعلهم سوء الظن والكُره بين معادٍ لعلوم
الإفرنج النافعة، وبين خائف من كل عمل نافع لملته، وأن الاستاذ الإمام كان على
هذا الرأي أي أنه لا بد لنا من العمل النافع للإسلام والمسلمين مع تحسين الظن بأن
الإنكليز لا يعارضوننا في ذلك، ولا يمنعونا مما ينفعنا إلا إذا أدخلنا فيه السياسة
وقصدنا مضارّتهم ومقاومتهم، وحينئذ نكون أضر على أنفسنا وأنفع لهم كما هي سُنة
الله تعالى في كل جاهل ضعيف يقاوم عالمًا قويًّا! . وسأوضح هذه المسألة في
موضع آخر.
أما ما أشار إليه اللورد من معارضة المسلمين للسيد أحمد خان وحزبه فلا
يتوقع نظيره من مسلمي مصر فإن أولئك كانوا يعادون جميع العلوم التي يصفونها
بالجديدة أو بالأوربية ويعدونها آفة الدين، والمصريون ليسوا كذلك وإنما كانوا
المتنطعون من أهل الجمود يخافون الأستاذ الإمام على الدين من جهة تعليمه للدين؛
إذ كانوا يظنون أنه ينصر مذهب الفلاسفة أو المعتزلة على مذهب أهل السنة، فلما
قرأ العقائد والتفسير في الأزهر زال ذلك الظن بتمادي السنين، وعلم أهل الأزهر
كافة أنه ينصر مذهب السلف على كل مذهب يخالفه ولا يقدم على ما نطق به
الكتاب ومضت به السنة النبوية قولاً لقائل.
فانحصرت بعد ذلك معارضة الإصلاح الذى كان يحاوله فيمن يعرف اللورد
وغيره من أهل البصيرة أنهم إنما يعارضونه لأسباب شخصية بل صرح اللورد
بذلك؛ لهذا كان كل شيء يخترعونه للطعن فيما يكون سببًا لزيادة عرفان الناس
بفضله حتى إن السواد الأعظم من الأمة المصرية صار معه في أواخر مدته. ولا
ينافى هذا قول اللورد: إن مريدي الشيخ وأتباعه الصادقين قليلون، فإنه يعني بهذا
الصادقين في طلب الإصلاح والعارفين بطرقه وهم قليلون بالطبع ولكن الذين
يوافقونهم ويحسنون الظن في طريقتهم كثيرون جدًّا بل هم الأكثرون. فعسى أن
يوفقهم الله للمُضي في العمل الذي كان إمامهم متوجهًا إليه وعند ذلك يظهر صدق
قولنا، لا سيما إذا علم الناس أن الحكومة وما وراءها من القوة راضية أو غير
ساخطة على عملهم!
بلغ من مقاومة السيد أحمد خان أن كان يُطعَن فيه على المنابر واستُفتي بعض
علماء الحرمين في أمره فأفتوا بكفره، ولم تبلغ مناهضة الأستاذ الإمام في شدتها هذا
المبلغ؛ ذلك أنه كان أقدر على الاحتجاج بالدين لما يدعو إليه وأبعد من السيد أحمد
خان عن الشذوذ وأن مناهضيه أقل غباوة وأضعف إرادة، والأمة أنبه منهم وأقرب
إلى قبول الإصلاح من أهل الهند.
(العبرة الثانية: ثناؤه على الإمام)
صفوة العبرة الأولى أن اللورد عارف من أحوال المسلمين ما لا يعرفه
أمراؤهم وعلماؤهم فيعتد بقوله فيهم. وأما العبرة الثانية فنريد بها ما في ثنائه على
الرجل وحزبه من الإنصاف وعرفان الفضل لأهله وما في تنشيطه لهذا الحزب من
قصد الخير! وقد زاد هذا الثناء قيمةً صدورُه بعد نشر كتاب (مصر الحديثة)
الذي وضعه كاتب إفرنجي اسمه (غورفيل) وطبعه باللغتين الإنكليزية والفرنسية
وقد اشتهر الكتاب بفصل فيه معزو إلى فقيدنا المرحوم فيه انتقاد شديد على الحكومة
المصرية والمحتلين الذين يدبرون أمرها ويديرون دفتها، وقد ترجمته أكثر الجرائد
العربية اليومية، ولكن الرجال العظام تبني أحكامها على الصفات والأعمال، لا
يصدها عن مقاصدها قيل وقال، واللورد ونُظَّار الحكومة ومستشاروها قد تعودوا
من فقيدنا المرحوم قول الحق الذي يعتقده في كل ما يخاطبهم به خطابًا رسميًّا أو
غير رسمي، وناهيك بتقريره عن المحاكم الشرعية وبمناقشته لناظر المعارف في
مجلس الشورى في انتقاد التعليم بمدارس الحكومة. وقد كان اللورد العظيم يضع
آراءه غير الرسمية موضع الاعتبار كرأيه في ضرر إلغاء النيابة العمومية، وكانت
الحكومة قد عزمت على ذلك وكادت تنفذه فرجعت عنه.
فهل يعتبر بهذا رجالنا الذين يمنعهم الجبن أن يقولو لكبراء المحتلين ما
يعتقدون في المصالح والأعمال؟ ! ألا يكفيهم ثناء اللورد والمستشار القضائى
على الأستاذ الإمام بما أثنيا به بعد موته واحترامهما وسائر كبراء المحتلين له في
حياته برهانًا على أن القوم رجال جدّ يجلون من يقول الحق في السر والجهر ويعمل
بالإخلاص في الخفية والعلن سواء وافق رأيهم أو خالفه ما لم يكن حربًا لهم، وأنه
لا قيمة لأهل الدهان والرياء في أنفسهم وحسبنا هذا الإيجاز في هذا المقام.
هذا وليعلم الذين يقولون: إن اللورد لم يكتب في الرجل أكثر مما يجب أو
ينتظر أو لم يوفه حقه - أن تقرير اللورد ليس تاريخًا لمصر ولا كتابًا في مناقب
العلماء والحكماء وإنما هو تقرير رسمي عن مالية مصر والسودان وإدارتهما
وحالتهما العمومية فالذي ينتظر أن يقال فيه عن مفتي الديار المصرية إنه رجل
جليل مصلح قد قام بأعماله في الحكومة خير قيام، أو ما في معنى هذا الكلام، ولكن
اللورد قد زاد بعد ذلك ما رأينا في الكلام عن حزب الرجل وتفضيله على سائر
المسلمين وتنشيطه وحثه على ترقية المقاصد التى كان يرمي إليها إمامه.
وإنني رأيت مريدي الأستاذ الإمام شاكرين للورد ما كتبه، قادرين إياه قدره،
راجين أن يصدق عليهم ظنه الحسن!

(العبرة الثالثة: حثه الأوربيين على تنشيط هذا الحزب)
إنى لأعلم أن من الناس من يعجب لقول اللورد: (فأتباع الشيخ حقيقون بكل
ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين) وبعضهم يضعه موضع الظنة لاعتقاد
المسلمين أن الأوربيين أعداء لهم، لا يريدون لهم إصلاحًا ولا خيرًا ما، وإنما
يريدون الخير لقومهم خاصة فكيف يحث اللورد أهل أوربا كافة على تنشيط حزب
مصلح ينفع المسلمين بل لا ينفعهم غيره كما قال؟ ! والجواب على هذا الإشكال
لا يفهمه إلا من عرف كنه الفتح أو الاستعمار الأوربي وقد سبق لنا فيه قول، ونقول
هنا كلمة وجيزة فيه:
إن غرض الأوربيين من كل بلاد يدخلونها بالفتح أو باسم الحماية أو الاحتلال
المؤقت أو غير ذلك من الأسماء هو الكسب، ولا ينمو الكسب إلا بالعمران فهم
يحبون عمران البلاد يتبوَّأونها ومن ثم سموا ذلك استعمارًا! وعمران كل البلاد
إنما ينمو ويعظم على قدر اتفاق أهلها مع المستعمرين عليه، وهذا الاتفاق يتوقف
على أمور: أولها في المرتبة معرفة كل الفريقين للآخر ليكون في وفاقه وخلافه
على بصيرة، ومَن كان أعلم بالآخر كان أجدر بالفوز عند التنازع مع تساوي القوة
فكيف إذا كان الأعلم هو الأقوى؟ !
ولكن الأوربيين لا يحبون أن ينازَعوا ويقاوَموا وإن كانوا واثقين بالظفر؛ لأن
ذلك يقلل من كسبهم، ومتى قبضوا على ناصية السلطة في بلاد أمنوا من مقاومتها
بالقوة وانحصر حذرهم في مقاومة الأمة لهم بالفتن، فإن كان عمل يراد في البلاد
يعسر تنفيذه إذا كان سواد العامة مقاومًا له، فإن كان هذا السواد بحيث يخشى خروجه
على السلطة كانت موارد الكسب على خطر!
ثم إن الأوربيين يرون أن أعظم مثار للفتن التى ربما تفضي إلى الخطر على
موارد كسبهم الذي يطلبونه بنشر مدنيتهم وباستعمارهم للأرض - هو ما عليه عوام
المسلمين من الاستعداد للتهيج باسم الدين، ورُبَّ هيجة شؤمى تقوم بها بعض الدجالين
الذين تعتقد العامة صلاحهم أو بعض زعماء السياسة تذهب بعمل سنين طويلة؛ لهذا
كله كان من مصلحة الأوربيين في بلاد المشرق أن يوجد حزب نيِّر الفكر محب
للإصلاح الذي يعرّف العامة بقدر أنفسهم وبنسبتهم إلى الأجانب الذين يعيشون معهم
ويزلزل التعصب الأعمى في نفوسهم حتى لا يغرهم الغارون ويدعوهم إلى أعمال إن
أضرت بالأجانب قليلاً فهي تضر بهم كثيراً!
فالأجانب العقلاء العارفون بكنه الشرق كاللورد كرومر وأضرابه من ساسة
الإنكليز - يحبون هذا النوع من الإصلاح الذي ينفع المسلمين؛ لأنه ينفعهم هم
أيضاً لأنهم يحبون أن يكسبوا بهدوء وطمأنينة كما قال المنار غير مرة، ولكن قلما
يذهب بهم الميل إلى السعي في إيجاده أو الحث عليه؛ لأن مصلحتهم قائمة بدونه،
قائمة بقوة العلم والحكمة، وقوة السلاح والوحدة، فإذا وجد فيهم من يحث عليه
كانت السياسة منه تابعة للفضيلة الشخصية، وما أجدر اللورد كرومر بذلك!
مثل هذا الإصلاح لا يأتي من جانب المتفرنجين؛ لأنهم لا قيمة لهم في نفوس
السواد الأعظم لبُعدهم عن الدين فلابد من حزب وسط بين العامة وبين المتفرنجين
يكون له جانب إلى النظام والمدنية وجانب إلى الدين النقي السالم من الخرافات التي
هي مثار الفتن والآفات. ولا شك أن الحزب الذي كان يرأسه الأستاذ الإمام لا
غرض له إلا إزالة البدع والأوهام التي ألصقت بالدين والجمع بينه وبين مصالح
الدنيا. ومن أركان الإصلاح الذي يرمي إليه أخذ كل ما ينفعنا ولا يعارض ديننا من
علوم أوربا ومدنيتها. أما العلوم الحقيقية فلا شيء منها يخالف الدين الحق، وأما
أعمال المدنية فمنها النافع لنا كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية والأدبية
والشركات المشروعة ومنها الضار كالخمر والميسر والفجور.
ويعتقد هذا الحزب أنه لا يمكن لنا القيام بهذا الإصلاح إلا باتقاء السياسة فيه
واجتناب مقاومة السلطة به، ويجعل مداره على تربية النفوس بالدين وترقية شأن
البلاد الاجتماعي والاقتصادي وترك السياسة لأهلها؛ ذلك أن سياسة هذه البلاد هي
عبارة عن مسألة الاحتلال. وقد سألت الأستاذ الإمام عن رأيه فيه عندما زار
طرابلس منذ بضع عشرة سنة فقال: إنها مسألة أوربية لا شأن لنا فيها! وإنما
الشأن فيها لدول أوربا ذات المصالح في مصر مع السلطان فإذا اتفقت هذه الدول على
الجلاء كان، وهو ما لا دليل عليه الآن، هذا رأي إمامنا رحمه الله في المسألة
المصرية وقد قالت أوربا كلمتها فيها بلسان اتفاق أبريل سنة ١٩٠٤ فلماذا لا نشتغل
بما يعنينا وهو في استطاعتنا من ترقية أمتنا بالتربية والتعليم ونترك ما لا طاقة لنا
به ولا يأتى منه إلا الضرر؟ ! وأقل هذا الضرر تحويل قلوب الأمة عما فيه خيرها
وفلاحها في دينها ودنياها وضغط أوربا عليها.
ههنا يقول المعترض: سلمنا أن طريقة هذا الحزب هي المثلى في إصلاح حال
المسلمين، وأن منتهى الحكمة فيها مسالمة الأوربيين، لكن مثل اللورد كرومر في
بُعْد نظره وثاقب رأيه لا يعزب عنه أن المسلمين إذا ساروا على هذه الطريقة ارتقوا
ارتقاءً حقيقيًّا يحُول دون دوام السلطة الإنكليزية فيهم فكيف يركب هذا الصعب أو
يكون حاديًّا لهذا الركب هذا الحزب؟ ! والجواب عن هذا سهل وهو أن طريقة
هذا الحزب الجامعة بين الفائدتين في الحال قد تكون جامعة بينهما في الاستقبال،
فإن الأمة إذا سارت في طريق الترقي مع المسالمة وحسن التفاهم بينها وبين هؤلاء
القوم ولقيت منهم التنشيط والمساعدة على رقيها في إبان ضعفها وعجزها - فهي لا
تترك صداقتهم في طور قوتها وهم لا يتركون صداقتها، ويمكنهم أن يربحوا منها في
طور القوة والاستقلال أكثر مما يربحون في طور الضعف والاحتلال!
والإنكليز هم القوم الذين لا يعاندون الطبيعة وإنما يسايرونها ويستفيدون من
كل طور من أطوارها بحسبه. ولعلّي لا أكون واهمًا إذا قلت: إن فرنسا لو وجدت
في الجزائر حزبًا يعمل لترقية شأن المسلمين - مع التوفيق بين مصالحهم ومصالح
الفرنسيين - لأباحت له العمل إن لم تنشطه وتساعده، على أن الإنكليز لم يساعدوا
طلاب الإصلاح في مصر كما أنهم لم يقاوموهم!
وما كتبه اللورد في تقريره الأخير هو أول قول رسمي سمعناه منه يدلنا على
ميله إلى هذا الإصلاح فأحببنا أن نزيل ارتياب المرتابين فيه؛ لأن سوء ظننا بالقوم
يضرنا ولا يضرهم، ومن الغباوة أن يظن أن القوي يصانع الضعيف، وأن مثل
الورد كرومر يكتب مثل هذه الكتابة لدولته، ويرمي فيها عن غير قوس عقيدته، وهو
يعلم أن أوروبا كلها تحل آراءه محل الاعتبار، لا سيما ما كان منها أثر التجربة
والاختبار، وقد سمعنا عنه منذ سنين أنه قال لبعض الكبراء، وقد رغب إليه في
عمل يرفع المسلمين ويرقيهم (إن مَن لا يعمل لنفسه لا يعمل له أحد، فاعملوا
ونحن نساعدكم، أو قال: وحسبكم أن لا نعارضكم) فقال الراغب: إنه ليس
عندنا رجال يهتمون بالخدمة العامة، فقال اللورد: بل عندكم رجلان: الشيخ محمد
عبده ورياض باشا فساعدوهما بالمال وهما يعملان للمسلمين ما يرقيهم ويرفع من
شأنهم!
(العبرة الرابعة: رأيه في المتفرنجين)
يظن هؤلاء المتفرنجون أن لهم مكانة عالية في نفوس الأوروبيين لتشبُّههم بهم
في عاداتهم وتزلفهم إليهم وإفراغ أموال البلاد في أكياسهم، وقد عُلِمَ مما ذكرنا عن
اللورد أنه لا يقيم لهم وزنًا، وقد علمنا مثل هذا بل ما هو شر منه عن كثير من كبراء
الأوروبيين: علمنا أنهم يحتقرون هؤلاء المتفرنجين وفى ذلك من العبرة ما لا محل
لشرحه في هذا المقام، واللبيب مَن تكفيه الإشارة وأين اللبيب فيهم وقد أفسدت
الخمور ألبابهم، وأضاع القمار صوابهم، فمعسرهم في حسرة على المال الذي يمتع
شهوته، وموسرهم في حيرة لا يدري كيف يفني ثروته، ومنتهى الفخر عندهم
كلب غريب يساير في الطرقات، ونوع جديد من المركبات، وفتاة أوربية تُخَاصَر
في المنتزهات، وتقبيح ما عليه قومهم من الآداب والعادات، وصرف العمر في
التفنن في الملذات، وإن أذاقت الأمة ضِعف الحياة وضعف الممات! .