للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح في نظارة المعارف
في عهد أحمد حشمت باشا
إن المصريين الذين تعلموا في المدارس العصرية من أميرية وأهلية وأجنبية
يعدون في هذا القطر بمئات الألوف، وفيهم ألوف كثيرة يحملون شهادات التعليم
الثانوي والتعليم العالي، ولكن الذين ينفعون البلاد بعلمهم قليلون جدًّا، وأكثرهم
كَلٌّ على الأمة ينفقون كثيرًا ولا يربحون إلا قليلاً. ويندر أن يوجد فيهم من يقدر على
الاستقلال بعمل يحصل به قوته، فجمهور الفلاحين الأميين خير منهم وأنفع للبلاد
لأن مدار حياتهم على عملهم، وأكثر ما يستخرجونه من خيرات الأرض ينفقه
المتعلمون في شهواتهم وزينتهم ولهوهم فيجعلون للأجانب الحظ الأوفر من هذه
الأموال، ثم إن حظ أكثر هؤلاء المتعلمين من الحياة المعنوية ليس أشرف ولا أرقى
من حظهم من الحياة المادية بل ربما كان دونه.
ومن بحث عن أسباب ذلك يعثر في أول الطريق بالسبب الأول له وهو القصد
من التعليم، ذلك أن أكثر المتعلمين يقصدون من التعلم شهادة يكون لهم بها رزق
مضمون من الحكومة، فهم لا يقصدون تهذيب أنفسهم وتكميلها بالفعل ولا الاستعانة
على الأعمال الاستقلالية التي ترقي الأمة، فإذا جاوز هذا السبب يلقاه وراءه السبب
الثاني، وهو كون التعليم نظريًّا لا عمليًّا في الغالب، فمن تدبر هذين السببين
يعرف قيمة ما شرع فيه حشمت باشا من الإصلاح العظيم بفتح أبواب التعليم العملي
لعلوم اللسان وعلوم الحياة، إذ أنشأ مدارس جديدة للزراعة والصناعة والتجارة وما
يتعلق بها من علوم الاقتصاد والقوانين وفنون مسك الدفاتر والمحاسبة وأعمال
المصارف (البنوك) والشركات والسمسرة، وعني بإصلاح مدرسة الزراعة
ومدرسة الهندسة ومدرسة الصنائع التي كانت من قبل.
واهتم بمدارس البنات كما اهتم بمدارس البنين فحَوَّل التعليم فيها من الطريقة
النظرية والمحفوظات اللسانية إلى الطريقة العملية، بتعليم كل ما تحتاج إليه ربات
البيوت في إدارة بيوتهن، وأنشأ مدرسة جديدة داخلية سميت مدرسة التدبير المنزلي
يتعلم البنات فيها الدين والأدب وحفظ الصحة والحساب وجميع أعمال البيوت من
طبخ وغسل وكي الثياب وخياطة وتطريز وترقيع.
وحول التعليم عن اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية في التعليم الأول والثاني
وبعض التعليم العالي، وأنشأ لجنة لأجل ترجمة الكتب بالعربية، وفتح أبواب
الأمل لمن يترجم الكتب التي تحتاج إليها المدارس بشراء النسخ الكثيرة منها،
وآخر ما عني به جعل تعليم اللغة العربية عمليًّا لتكون اللغة ملكة في اللسان والقلم،
وكان آخر ما أصدره من المنشورات في ذلك هو:
المنشور الأول
وضع علماء العصور السابقة الشكل في اللغة العربية ليدل على هيئة النطق
بالحروف الهجائية في صيغ الكلمات، فهو من الأجزاء الضرورية في الكتابة
العربية، والمحافظة عليه من أقوى الأسباب في صحة اللغة، ومن أعظم وسائل
التسهيل على القارئين.
وتركه يؤدي في كثير من الأحيان إلى الخطأ أو الالتباس في نطق الألفاظ،
وإلى صعوبة القراءة، فمن الواجب استعماله في الكتب على العموم، وفي كتب
التعليم على الخصوص، وفي كتب تعليم اللغة العربية على الأخص.
ولكن كتب تعليم تلك اللغة المستعملة بالمدارس كثير منها خال من الشكل
بالمرة والقليل منها مشكول شكلا غير وافٍ بالحاجة.
وبما أن الشكل من الأهمية بالمكانة العظمى، وعليه المدار في انتشار صحيح
اللغة بين الجمهور على العموم، والمتعلمين على الخصوص، رأت النظارة أن
تلفت المؤلفين إلى التدقيق في رعاية هذا الأمر الأساسي فيما يؤلفونه من كتب
التعليم، ولا سيما فيما يختص منها بالمكاتب والمدارس وسائر معاهد التعليم التي
تحت إشرافها.
وتعلن النظارة أنها من الآن فصاعدًا لا تقبل من كتب تعليم اللغة العربية
للمكاتب الأولية والمدارس الابتدائية والثانوية، إلا ما كان مشكولا شكلاً تامًّا، سواء
كان مقدمًا إليها لتقرره من جديد أم مطلوبًا إعادة طبعه مما سبق لها تقريره.
* * *
المنشور الثاني
ملخصه: أن كل ما يقدم إلى النظارة من المؤلفات التاريخية والجغرافية أو
يطلب منها إعادة طبعه يجب أن تُضْبَط فيه الأعلام بالشكل التام، وكذا كل كلمة
يمكن أن يقع فيها الالتباس.
* * *
المنشور الثالث
طريقة تحفيظ القِطَع المنتخبة بإقراء القطع قبل تفسير ما فيها من المفردات
اللغوية والأساليب الغريبة، قلما تأتي بالفائدة المقصودة من استظهار المختارات
الشعرية والنثرية وهي التضلع من متن اللغة والتوسع في أساليب تراكيبها.
لذلك رأينا أن نلفت حضرات المعلمين إلى ما يأتي:
١- أن يعد المعلم قبل الشروع في التحفيظ، ما تحتوي عليه القطعة من
المفردات اللغوية ويكتبها مسلسلة بعضها تحت بعض على شكل عمودي، ويكتب
أمام كل كلمة اللفظ الذي يفسرها.
٢- أن تكون كتابة الأسماء المطلوب تفسيرها على صيغة المفرد، وإذا مست
الحاجة تقرن بمثنياتها وجموعها، وأن تكون كتابة الأفعال أيضًا على صيغة
الماضي، وإذا دعت الحال تصحب بالمضارع والأمر، وأن يضبط بالشكل ما يلزم
من أحرف الكلمة لصحة النطق بها.
٣- أن يكلف التلاميذ تفهم الكلمات وتفسيرها، واستظهار جميع ذلك
ويختبرهم فيه بالسؤال والمذاكرة.
٤- بعد التحقق من استثبات التلاميذ الكلمات وتفسيرها، يقرأ معهم القطعة
ويتفهم وإياهم معانيها المرادة، والأساليب الغريبة التي يظن غموضها على أفهامهم،
ليكون ذلك بمثابة تطبيق لاستعمال المفردات اللغوية في تراكيب القطعة ثم يكلفهم
حفظ تلك القطعة.
ويحسن اتباع هذه الطريقة في المطالعة المقصود بها فهم المعنى
ذلك أجدر لاستقرار اللغة في نفوسهم، وحضور مفرداتها وأساليب تراكيبها في
أذهانهم، فيجدون بعد ذلك ما يريدونه من مبانيها ومعانيها طوع مرادهم، وعلى
أطراف ألسنتهم وأسنة أقلامهم.
للموضوع بقية