في تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء رفيق العظم
ما أصيب الإسلام بآفة كآفة الخطباء، وما أضر بالمسلمين كوعاظهم الجهلاء الذين كانوا ولم يزالوا - سببًا لحيرة العقول في أدواء هذه الأمة، وهم مصدر البلاء وسبب الشقاء بما يتلونه على مسامع العامة من السجعات المقلوبة والأحاديث المكذوبة الداعية إلى استدراج العامة في الشرور اعتمادًا منهم على ما يسمعونه من أولئك الوعاظ والخطباء من الأكاذيب المضلة كقولهم: من قرأ كذا فله من الثواب كذا وكذا، ومن صام اليوم الفلاني مثلاً فله من الحسنات كذا، ومن فعل كذا غفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، فانتزعوا بهذا (الإطلاق المجمل) وأشباهه باعث الرهبة من أعماق القلوب ونزعوا وازع الضمير من نفوس العامة، فبات أحدهم يقدم على جريرة الكذب والتزوير أو السرقة أو الفحش ونحو هذا في الظهر ثقة بما سيناله من الثواب والغفران بتلاوة بعض كلمات في العصر، فينام ليله مطمئن القلب إلى الثواب غير مرتاع الفؤاد من سوء المآب، وهذا ما أوصل الأمة إلى ما نراها فيه من فساد الأخلاق والضمائر، واجتراح الآثام والجرائر حتى كادت تكون أحط الأمم في الأخلاق وأبعدها عن مراعاة حاكم الضمير , بما فشا في كثير من طبقاتها من القول الزور والكذب وعدم المبالاة بأكبر الكبائر بعد أن كانت أعلى الأمم وأعرقها في طيب الأخلاق، وأدناها من الانقياد لحكم الضمير ومراقبة الله العزيز القدير في سائر الأعمال وكل الأحوال، ولعمري لو قيل للناس: إن القانون السلطاني يرتب على السارق جزاء كذا وكذا مدة في الحبس، لكن من تقرب إلى السلطان بهدية لطيفة أو تزلف إليه بدعاء بسيط يدعو به له بين يديه يعفو عنه ويغتفر له جريمته - لأصبح الناس الناس كلهم لصوصًا. فحتامَ يترك هذا الحبل على الغارب، ومتى نستيقظ لما فعلته في النفوس سموم الخطباء والوعاظ وأوضاع الوضّاع وفتن المبتدعين، فقد - والله - تكاد تنفطر من عقلاء هذه الأمة القلوب وتتصاعد أرواحهم مع الأنفاس؛ لما يرونه من آثار هذه البدع التي عَفَتْ دونها آثار الإسلام، وتلاشت قوى الصادعين بالحق. ولم يكفِ أولئك الأغرار المضلين هذا الوهن الذي يدخلونه بأمثال تلك المواعظ والخطب على النفوس حتى زادوا في طين البلاء بلة بما يبدأون به العامة عند كل دعاء لهم ويتلونه عليهم في رأس كل خطبة من الحث على الزهد وترك الاهتمام بأمر الدنيا بجمل مسجعة لا تفيد معنى الزهد الحقيقي المنصوص عليه في الشريعة الغرّاء , بل تفيد التحاق الإنسان بالبهيمة العجماء، وقد فات أولئك الأغرار أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان وميزه بالعقل والإرادة على سائر الحيوان وجعله خليفة في الأرض بما منحه من حق السلطان المطلق على هذا الوجود الحسي، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: ١٢-١٣) لم يكن يريد به ما يريده له أولئك الوضَّاع والخطباء وأصدقاء الإسلام الجهلاء من التجرد عن كل عمل دنيوي والقعود عن السعي والانقطاع للعبادة للالتحاق بعالم الملائكة الأبرار، ولو أراد الله به هذا لخلقه معهم وكفاه مؤنة جهاد الطبيعة والعمل لحفظ الحياة فلا يلبس ولا يأكل ولا يشرب ولا يشقى ولا يتعب، ولكن قضت إرادة الله في خلق هذه العوالم وترتيبها على نمطها البديع أن يكون كل عالم منها ذا حياة خاصة وحيز مخصوص وعمل محدود ووظائف خاصة، فللملائكة من هذه الخصوصيات غير ما للإنسان، وللإنسان غير ما للحيوان، ولهذا غير ما للجماد وهكذا سائر العوالم، وإذا تتبعنا نصوص الكتاب الكريم واستقرينا أحوال المخلوقات نجد أن الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان عن سائر مخلوقاته بما وهبه من المواهب التي لم يهبها لسواه، فقال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: ٣-٤) وقال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٥) ? وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: ٤) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: ١٠) وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: ٣١) فإذا كان الله سبحانه وتعالى وهب الإنسان كل هذه المواهب الدالة على تكليفه بالعمل بما يقتضيه وجودها فيه، ثم جعله خليفة في الأرض، وأشار إلى أنه أوجده فيها ليعمرها فقال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: ٦١) وذلك لتكون مناط الأمل في الاعتياش بالعمل فيها والضرب في أكنافها كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: ١٥) وكما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الجاثية: ١٢) وكما قال تعالى: {ألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: ٩٧) فهل في طاقة البشر الانسلاخ عن هذه المواهب والصفات الإنسانية والتخلف عن تلك السنن الإلهية زهدًا في الدنيا وتعطيلاً لوظائف الحياة البشرية؟ وإذا كان في طاقتهم تعطيل هذه الوظائف وعطلوها، أفلا يكون ذلك كفرًا منهم بنعم الخالق تعالى التي أنعم عليهم بها وخصهم بمواهبها؟ بلى وأبيك ذلك هو الكفران المبين، ولكن أكثرهم لا يعلمون. نعم قد ذم الله تعالى الغرور بالدنيا والطمع فيها والإكثار من المال أو التكاثر به , وما جاء من النصوص في الكتاب والسنة من هذا القبيل إنما جاء لا لأجل تزهيد المسلمين في الدنيا وتركهم الاهتمام بشؤون الرزق والسعي في مناكب الأرض، بل جاء لأمرين: الأول تنبيه المسلمين إلى أن العمل في الدنيا لا ينبغي أن يشغل المؤمن عن طاعة الله وأداء ما أوجبه من العبادة عليه، والأمر الثاني تنبيه فئة مخصوصة من الناس وهي فئة الأغنياء وذوي السلطة إلى أن متاع الدنيا أحقر وأدنى مما أُعد للمؤمنين الصالحين في الآخرة، وأن الأمر الأول يزول ويفنى، والثاني يدوم ويبقى ترغيبًا لهم في إنفاق المال في وجوه البر ومواساة مَن دونهم من الناس حتى لا يكثروا من المال ويجعلوه دُولة بينهم يتكاثرون به ويتداولونه دون الفقراء، فتقف حركة الأعمال بوقوف حركة المال، وفقده من أيدي الكثير من الناس، فحكمة الشارع في هذا أجلّ وأعظم مما يذهب إليه فريق الوضّاع والكذابين في أمر الزهد، وما يخاطبون به العامة ويبثونه في عقولهم من فاسد الاعتقاد المثبط للهمم القاتل لقوة النشاط والعمل الجالب للبلادة والكسل، لهذا كان من الظلم الفاحش والجهل العظيم مخاطبة أولئك الخطباء عامة الناس بالزهد في الدنيا والتزهيد بالعمل الذي هو وسيلة الكسب ومناط الارتزاق، وإنما يجوز مخاطبة العلية من الناس والأغنياء منهم بهذا - أولاً - لما فيه من الترغيب بمواساة الفقراء، والتحذير من عاقبة الانهماك بالمال والاشتغال به عن أداء الطاعة، وثانيًا لأن الزهد إنما يكون بشيء موجود لا بشيء مفقود، فالغني إذا زهد فإنما يزهد بدنيا مقبلة عليه فيواسي بماله مَن هُم في دنيا مدبرة عنهم؛ فينال الثواب ويأمن من العقاب، وأما الفقير فزهده ليس فيه شيء من ذلك بل فيه مضرة عليه فيحرم عليه قطعًا؛ لأن الفقير المعدم زاهد بالضرورة لقلة ما بين يديه، فإذا زهّد بلسان الشرع ازداد يقينًا بفضل الزهد والراحة من عناء الكد بالانقطاع إلى العبادة (اللهم إذا كان يعرف شيئًا منها) فتنعدم منه الرغبة بالعمل، وينطبع على البلادة والكسل، فينقلب الزهد والعبادة وبالاً عليه وظلمًا لم يعول من الأهل والولد عليه، وهو لا يعلم أن السعي في إعالة من يعول ولو نفسه وحده هو أفضل عند الله ورسوله من الانقطاع للعبادة باتفاق النصوص وإجماع هداة الأمة من علمائها الأعلام. الزهد من شعار الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومع ما كان معروفًا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا بحذافيرها، فقد كان من صحابته الكرام الغني ذو الثروة والجاه كطلحة والزبير والتاجر المشتغل كعثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلم يأمرهم بترك الدنيا والانقطاع للآخرة، بل أمرهم بالرفق في الطلب وإلا لكان الصحابة كلهم عبادًا بالجوامع والصوامع، ومعاذ الله أن يكونوا كذلك، والإسلام دين العمل للدنيا والآخرة، ودين الجد والنشاط لا دين الرهبانية والزهد، وإنما تبع قدم الرسول في أمر الزهد أفراد منهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومع هذا فقد كان يقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني , فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فإذا كان مثل عمر بن الخطاب على ورعه وزهده يخاطب الناس بمثل هذا الخطاب وهو في عصر النبوة وأدرى بمن يخاطب ولماذا يخاطب، فليت شعري كيف يجرؤ خطباء السوء في هذا العصر على مخاطبة العامة بالزهد والتزهيد في الكسب ونحن في عصر أصبح فيه السابقون هم الفائزون، وفي زمن من نام فيه فقد مات. أفلم يأنِ لعلماء المسلمين الأعلام وفضلائهم الكرام ذوي العقول والأفهام الاقتداء بمثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حث الناس على العمل والسعي، ونهي خطباء السوء عن التشدق على المنابر بما لا يزيد المسلمين في هذا العصر إلا خبالاً، نعم قد آن والله أوان نهوض العلماء إلى تلافي خطب الخطباء ونزع وظيفة الخطابة والوعظ من الجهلاء ووضعها في أناس جمعوا بين المنقول الصحيح والمعقول الصريح، وعرفوا حاجات الزمان، ووقفوا على أدواء الأمة , وإن لم يتيسر هذا فتنقيح كتب الوعظ ودواوين الخطب المحشوة بالكذب على الله والرسول الموضوعة على نمط روعي فيه السجع أكثر من مراعاة الشرع، وامتزج بالخيالات والأوهام أكثر مما أبان من مقاصد الإسلام. يحسدنا الأمم والشعوب على مشروعية الخطابة في الإسلام، ويعجبون من أمة تتلى على منابرها في كل جمعة آلاف من الخطب في سائر أنحاء الديار الإسلامية، وهي لا تنتفع بها فتخطو خطوة إلى الأمام، وإذا تيسر لفرد من أفراد أي أمة من تلك الأمم والشعوب أن ينتهز في العمر فرصة يخطب فيها خطبة على جمهور من الناس في محفل من المحافل يرن صداها في الآفاق، وربما أحدثت في الأفكار ما لا تحدثه الجيوش الفاتحة في الأمصار , ويتساءلون: هل علت مشروعية الخطابة في الإسلام عن أفهام المسلمين؟ أم هم تدنوا عن مقامها العلي المتين؟ وحقهم أن تساءلوا فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق العظم)