للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تطور الأمم وانتقالها من حال إلى حال

إن للأجسام الحية خلايا تتغذى وتزدوج وتلد وتموت فيخلفها نسلها فيكون بها
الجسم حافظًا لحياته فإذا ضعفت الحياة في الجسم قل توالد الخلايا وكثر فيها
الموت حتى يهلك الجسم فتتصل أجزاؤه بجسم آخر قوي الحياة فتكون غذاءً له كما
ترى في النبات والحيوان.
إن الحياة مصدر النظام فهي بعمل خلايا الجسم الجزئية تكون خلقًا كليًّا منتظمًا،
وإن كان لا شعور لكل خلية في ازدواجها بمثله وإنتاجها بأن عملها ينضم إلى
عمل أمثالها فيكون خلقًا كبيرًا له في الوجود مظهر عظيم وعمل حيوي منتظم.
إن مدار حياة الأحياء الصغرى كالخلايا والكبرى كالشجر والبقر على الخليقة
وما فيها من سنن النظام , وقلما يحتاج شيء منها إلى عناية مدبر مختار من جنسها
إلا الإنسان فإنه في أفراده وجمعياته لا يستغني بالطبيعة عن تعاهد بعض أفراده
لبعض بالعناية والتربية الشخصية والاجتماعية.
إن لهذه الأحياء الصغرى التى تتكون منها العوالم الكبرى أمراضها , ولهذه
العوالم نفسها أمراضًا وإن لكل مرض علاجًا ودواءً , وإن العلاج إذا صح يحول
دون إنهاكه لقوة الحياة أو الذهاب بها ما دام الجسم الحي مستعدًا للحياة أي ما بقي
من عمره الطبيعي بقية.
إن معالجة مرضٍ ما تتوقف على العلم بحال ما عرض له المرض من حيث
هو حي له مزاج يصح باعتداله الفطري ويمرض بأعراض تخرجه عن الاعتدال
والعلم بما سبق عروضه له قبل المرض الأخير الذي يحاول علاجه وبحقيقة هذا
المرض وأسبابه والعلم بالدواء وبالطريقة المثلى في المعالجة.
إن الإنسان أغرب الأحياء على هذه الأرض والعوارض التي تعرض لحياة
أفراده فتمرضهم أو تقتلهم هي أخفى مما يعرض لغيره من الأحياء النباتية
والحيوانية على كثرة بحثه عنها وعنايته بمعالجتها , ولذلك يقل في الناس من يصل
إلى نهاية العمر الطبيعي , ويقل فيهم من يعيش سليمًا من الأمراض والأسقام
كالشجر والحيوان الأعجم.
إن لحياة الإنسان الاجتماعية أمراضًا وإن معالجة الأمراض الاجتماعية أعسر،
والتحقق بشروطها أندر، ففي كل جيل من الأجيال ينبغ في الأمم المشتغلة بالعلوم
والفنون كثير من العلماء الأخصائيين، والصناع الماهرين، وقد تمر قرون وتنطوي
أجيال، تخلق فيها أحوال وتتجدد أحوال، ولا يبعث طبيب اجتماعي في الأمة،
يرفعها من الحضيض إلى القمة.
إن حياة الأمة التي ليس فيها أطباء اجتماعيون، وهداة روحانيون تكون دون
حياة الخلايا في الروح، وحياة النجم والشجر في الروض؛ لأن حياة النبات قلما
يعوزها شيء وراء الطبيعة وسننها في بلوغها غاية ما أعدتها حكمة التكوين له من
النظام والكمال الشخصي والنوعي , وحياة الإنسان لا بد فيها من المربي لتصل إلى
كماليها فإذا فقد المربي؛ كان الناس فوضى لا يصلح لهم شأن ولا يستقيم لهم أمر.
وأفراده حينئذ يشبهون خلايا الأجسام من حيث جهل كل واحد منهم بنسبة حياته إلى
حياة غيره وتأثيرها في الاجتماع وغايتها في الوجود على أن أفراد الإنسان تشعر
بعملها الجزئي , ولكن يقل فيهم من يشعر بتأثير عمله في الأمة فيتحرى فيها
مصلحته ويعرف اندماج مصلحته فيها.
إذا تمهد هذا فاسمع ما ألقيه عليك بشأن الأمة الإسلامية في حياتهم الاجتماعية.
إشارة إلى بدايتها وعبارة عما صارت عليه في هذا العصر يكون مثالاً لانتقال
الأمم من طور إلى طور من غير تصور ولا شعور.
أطوار الأمة الإسلامية:
كانت هذه الأمة في نشأتها الأولى تُنْفذ الرجل من أبناءها إلى المملكة فاتحًا
فيكون خير قائد في إبان الحرب، وخير حاكم في زمان السلم، يقيم العدل، ويعمر
الأرض، ويؤمِّن الرعية، ويستبدل الحرية بالعبودية، فيرى أقل رعيته ولو من
غير أهل دينه وجنسه أنه مساوٍ له في الحقوق والحرية بحيث لو نال منه نيلاً فشكاه
إلى الخليفة الذي أنفذه لأقاده منه كما حاول عمر أن يقيد ذلك الصعلوك من جبلة بن
الأيهم ملك غسان لولا أنه فر هاربًا.
بهذا اتسع ملك الأمة وانبثت حياتها العالية في أمم كثيرة فأحيتها، وجددت
للناس مدنية لم يسبق لهم عهد بمثلها بل لم يكتحل ناظر الزمان بنظيرها حتى هذا
اليوم الذي نرى فيه من آثار العلم والاجتماع ما لم نرَ من قبل فإن إنكلترا وهي
أعدل دول أوربا لا تساوي بين آحاد أبنائها وبين أمراء الهند، فضلاً عن أن تساوي
بين لورداتها وسلائل ملوكها وبين صعاليك مستعمراتها، وإن الخلفاء الراشدين ما
كانوا يجيزون لأبنائهم أن ينفقوا ألوف الألوف من بيت المال في سياحتهم لأجل أن
ينفخوا في الرعية روح عظمتهم ويشعروا سكان مستعمراتهم بمكان بأسهم وقهرهم
كما أجازت بريطانيا العظمى للبرنس أوف ويلس وليّ عهدها في سياحته الأخيرة،
فمثل هذا العمل تقرير لاستعلاء المالكين واستذلال المحكومين، فهو جناية على
البشر الذين لا يصلون إلى الكمال الاجتماعي إلا بكمال المساواة التي لا يفضل فيها
أحد أحدًا إلا بفضائله وأعماله كما قرر الإسلام.
هذا الروح الذي نفخه الإسلام في المعتصمين به حتى كان الرجل الأمي أو
شبه الأمي منهم يعمل في سياسة الممالك ما يعجز عنه الفلاسفة والحكماء قد كان من
شأنه أن يستولي على العالم كله فيصلحه لولا أن الملوك الظالمين وأعوانهم من
الفقهاء الجامدين قد أفسدوا جسم هذه الأمة فلم يعد مستعدًّا لحمل هذا الروح والحياة
به. فإذا كان عمرو بن العاص قد فتح مصر بجيش صغير فأحياها بالعدل وحسن
الإدارة حتى وصل النيل بالبحر الأحمر وآخى بين هذا القطر وبين الحجاز (وهو
ممن لم يدخل المدرسة الحربية ولا مدرسة الحقوق ولا مدرسة المهندسخانه) فقد
صار القطر الإسلامي العظيم يستعبده عدد قليل من الأجانب وصار المسلم المتعلم
الحامل للشهادات العالية التي يظن أنه يفضل بها عظماء سلفه كعمرو وعمر ينفذ
إلى قطر إسلامي كاليمن اليوم وكالسودان بالأمس فيبغي في الأرض، ويجني على
العَرَض والعِرض، فيترك الأرض موظوبة، والأموال مسلوبة، والدماء مسفوكة،
والأعراض مهتوكة، حتى أنّت الأرض من حكم كل مسلم عليها، واستغاثت السماء
من سلطة كل مسلم تحتها، وسمع رب العزة أنين المظلومين وبكاء الباكين،
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: ١٣) بما جاءهم على لسان
النبيين.
عم الظلم فأفسد الأخلاق وأضعف النفوس وطبع على قلوب الأمة بطابع القهر
والعبودية حتى لا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا تعاون على بر ولا
تناصر على رفع ضر، فذهبت ريح الدولة وقوة الأمة، واستعد الفريقان بعملهم
لنقمة الله تعالى بدلاً من سابق نعمته، فكان تقلص ظل الحاكمين الظالمين على
رءوس المظلومين الخاضعين بأيدي الأجانب لا بأيدي الأمة وبهذا كان الانتقام عامًّا،
ولو كانت الأمة هي التي هبت لإزالة الظلم بأيديها وأخذ صولجان الحكم بيدها
لكان الانتقام خاصًّا بالظالمين، ولبقي للأمة عزها ومجدها.
دب الفساد الاجتماعي في جسم الأمة فلم تشعر به فتعالجه، فكان أفرادها
بفقدهم الشعور بما يحل بهم وبما يكون من عاقبته في مجموعهم كخلايا الشجرة أو
الثمرة يعرض الفساد بجانب منها ولا تدري حتى تفسد جميعها؛ ذلك أن الظالمين
بدأوا بإزهاق روح التكافل الذي يربط بعض الأفراد ببعض فيكون سببًا لسريان
شعور المجموع بما يطرأ على الأفراد وانفعال المزاج الكلي بذلك، واندفاعه إلى
دفع العرض الطارئ قبل سريانه واستشرائه؛ فإن من طبيعة الجسم الحي أن ينفعل
مزاجه بما يعرض لأي عضو من أعضائه فيوجه قوته لدفع العرض بإعانة ذلك
العضو عليه، ألا ترى أن الدم يكثر وروده على الدماغ عند انهماكه في الفكر وإلى
المعدة عند اشتغالها بالهضم وإلى نحو اليد يصيبها برد أو ضرب. والأمة الحية
كالجسم الحي توجه قوتها إلى إعانة كل فرد من أفرادها يصيبه ضرر أو يرهقه ظلم
حتى تدفعه عنه أو تعجز فتكون من الهالكين كما إذا عجز المزاج الصحيح في جسم
الحيوان عن دفع عوارض الفساد بنفسه أو بمساعدة الطبيب فإن الفساد يغلب حينئذ
على الجسم فيفسده.
كيف أزهق الرؤساء المفسدون روح التكافل في جسم هذه الأمة؟ حولوا
السلطة من الشورى الشرعية إلى الأثرة الاستبدادية، وفرقوا بين المسلمين في
الجنسية، فقالوا: عربي وعجمي، وفارسي وتركي، وفي اللغة، فقالوا: لغة
رسمية ولغة دينية، وفي المذاهب فقالوا: سني وشيعي، وحنفي وشافعي، وفي
الوطن فقالوا: مصري وشامي، ومغربي وحجازي، وإذا كنت تظن أن هذا
الضرب الأخير من التفريق أهون ضروبه شرًّا؛ فأنا أذكر لك كلمتين لرئيس ديني
ورئيس دنيوي تعرف بهما مبلغ تسمم جسم الأمة الإسلامية بسم الوطنية. رأى عالم
من علماء الدرجة الأولى بل شيخ من مشايخ الأزهر السابقين يلقب بشيخ الإسلام
خطيبًا شاميًّا في جامع بمصر فقال: إن هذا الجامع حسن وموقعه عظيم، ولكن من
الأسف حشوه بالشوام! وقال رئيس كبير من رؤساء الدنيا في معهد من معاهد العلم
الديني - وقد رأى فيه حجرات كثيرة للطلاب من قطر غير قطره -: ماذا فعل لنا
هؤلاء.. حتى نعطيهم كل هذه الحجرات وأهل البلد أحق بها منهم؟ ! ، أو ما هذا
معناه على أنه لم يكن هو الذي أعطاهم وإنما تلك أماكن وقفها عليهم أناس آخرون
من غير قوم القائل ومن غير وطنه.
هنالك إفساد آخر هو أشد من كل إفساد وهو الحيلولة بين المسلمين وبين
هداية القرآن الذي جعل أمر المسلمين شورى بينهم لا في أيدي أفراد يستبدون فيهم
وفرض عليهم مقاومة الظلم والإفساد في الأرض بقوة الأمة وغير ذلك مما يحفظ
حياة الأمم بل ينميها حتى تبلغ كمالها ولولا هذا الإفساد لما تم لظالم ولا لمفسد ما
أراد.
سرت كل هذه الأمراض في جسم الأمة الإسلامية من حيث لا يدري الأفراد
ولا يشعرون كما علمت من التمثيل السابق، وكان من عواقبها أن أكثر الممالك
الإسلامية خرجت من أيدي المسلمين وما بقي لهم فهو في طور النزع ولكن هذا
العصر يمتاز على ما قبله بشعور كثير من أفراده بأن الأمة في مرض، ودولها في
حرب، فإذا لم تبادر بالعلاج تم فساد المزاج، وأجهز عليها الظالم، فهلك المحكوم
في أثر الحاكم، بهؤلاء الأفراد على قلتهم وضعفهم أنشأ المسلمون يستعدون لاستعادة
ما فقدوا من مزايا الإنسانية ولكن المسلمين لم يغفلوا عن مراقبتهم، فهم يجتهدون
في إماتة شعورهم بالضغط والاضطهاد تارة وبالرتب والرواتب تارة أخرى، ومن
ثبت على نار الفتنتين اضطر إلى الفرار من ديارهم إلى ديار أخرى يأمن فيها على
نفسه أن تغتال، ويجد فيها لحرية فكره ولو بعض المجال، وإلا نفوه إلى بلد قفر،
أو جزيرة في البحر، حتى لا ينتشر له فكر، ولا يسمع له ذكر.
وجملة القول: إن المسلمين كانوا أحياءً بالإسلام نفسه على بصيرة وبينة،
ولما عرض لهم حلم الفساد اضطرب مزاجهم؛ فتداعوا إلى إزالته فحال دون ذلك
تحول السلطة الإسلامية عن صراطها، ثم ضعف الشعور بفعل هذا الحلم بجسم
الأمة لقوة مزاجها وضعف سائر الأمم دونها ثم خدر المرض أعصابها فكان الحلم
يفعل فعله وهي لا تشعر حتى عم الفساد كل عضو من أعضائها، ونعني بالأعضاء
الشعوب والفرق التي انقسمت إليها وحدة الأمة، فلا يوجد شعب إسلامي حي ولا
حكومة إسلامية إلا وهي تعفو ما بقي من رسوم الإسلام وتجد في إبسال أهله إلا ما
يقال عن حكومة الأفغان من عنايتها بحفظ استقلالها بالقوة العسكرية الحديثة، وهذا
ضروري ولكنه غير كافٍ كما نرى في تركيا، فلا بد من نشر علم الكون في الأمة
وإعدادها للحكومة المقيدة بالشورى وإلا كانت من الهالكين. أما ذلك الشعور الذي
تجدد لأفراد من المسلمين وهو لا عمل له في مملكة من ممالكهم إلا إعدادًا بطيئًا
للانتقال إلى طور آخر مجهول لعامتهم، ومشكوك فيه عند خاصتهم، لا يدرون
أيكون مرضًا مضنيًا، أم موتًا مرديًا، أم يكون حياة سعيدة , وسيادة جديدة، أساسها
العلم والعدل، وغايتها العمران والفضل، فمنهم اليائس يزيد في الإفساد، ومنهم
الراجي يدعو إلى سبيل الرشاد، وهكذا شأن الأمم في طور الانتقال، لا تستقر من
الاضطراب على حال.
من أسباب يأس اليائسين أن المسلمين قد خرجوا بتقسيم رؤسائهم إياهم إلى
شعوب وأجناس ومذاهب عن كونهم أمة واحدة فلا فائدة من كثرتهم ولا رجاء في
وحدتهم، وإنما يجب الحكم عليهم بحسب حكوماتهم سواء كانت منهم أو من غيرهم
فقد أعدهم الظلم والاستبداد لأن يكونوا عبيدًا لمن يحكمهم.
وإذا نظرنا في حال حكوماتهم وجدنا الإسلامية منها أسرع في الإجهاز عليهم
من الأجنبية (ونعني بالإسلامية المنسوبة إلى المسلمين لما كانت على قواعد
الإسلام فإن هذه لا وجود لها في الأرض) فإذا كان من الغرور أن نرجو حياة
الشعب الجاوي تحت سلطة هولندا والمغربي تحت سلطة فرنسا مثلاً فمن الجنون أن
نرجو حياة الشعوب العثمانية المتمزقة تحت سلطة تركيا والشعب الفارسي تحت
سلطة حكامه ومجتهديه؛ ذلك بأن حكومات الأجانب على منعها النور الحقيقي أن
ينفذ إلى عقول المسلمين فيحييهم بحرارته وهدايته لا سلطة لها إلا بقوتها الحسية
على الأجسام، وأما الحكام المسلمون فإن لهم سلطتين - القوة الحسية على الأجسام
والقوة المعنوية في الأرواح - لأن المسلمين توارثوا الاعتقاد بوجوب الخضوع لهم
على أنه من الدين وقلما يوجد فيهم من يعلم أن من أعظم قواعد الدين أنه لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق، ولا حكم إلا لله ومن استحل الحكم بما يخالف القواعد
الشرعية المنصوصة كان مارقًا من الإسلام {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) وهؤلاء العارفون على قلتهم لا يسمح لهم الاستبداد
بنشر علمهم في الأمة لئلا تنبعث لإقامة الشريعة على أساس الشورى فتبطل سلطتهم
الاستبدادية التي تنطوي في باطنها نزعة الألوهية.
ويقول هؤلاء اليائسون أيضًا: إن الأوربيين الذين استولوا على أكثر بلاد
المسلمين يتربصون بباقيها الدوائر وحكامها يمهدون لهم السبل بالظلم والقضاء
بالجهل على العلم وباقتراض الأموال منهم ومنحهم (الامتيازات) في بلادهم وهم
يجتهدون دائمًا في الاتفاق على قسمتها بينهم فلا يمر عقد من السنين إلا ونراهم قد
اكتسبوا حقًا جديدًا فيها أو قلصوا ظل نفوذنا عن ولاية منها ثم هم أقدر البشر على
سياسة الأمم والتصرف في الشعوب فإذا دخلوا ولاية قبض أفراد منهم على قواها
المالية والعسكرية والعلمية والأدبية وذللوا الأمة لسلطانهم فهم يسخروننا لخدمتهم
بقوتنا حتى لا يدَعوا لنا سبيلاً إلى استعمالها في منفعتنا، وأعظم مظهر لسياستهم
العليا فينا أن سلطتهم تكون أقوى وأرسخ وربحهم يكون أكثر وأسهل في البلاد التي
يبقون فيها لنا اسم السلطة ويرضون بمعناها لأنفسهم، فهم يستعبدوننا بواسطة
استعبادهم لحكامنا الذين أنسنا بالعبودية لهم. فأين موضع الرجاء لهذه الشعوب
الجاهلة المتفرقة المستعبدة مع هذه الأمم العالمة المستقلة المتحدة؟ ! .
هذا مجمل احتجاج اليائسين من أهل الشعور بما ينذر المسلمين من الخطر
فرأيهم أن طور الانتقال الذي هم فيه سينتهي بطور دخولهم تحت سلطة الأجانب
وزوال استقلالهم من الوجود زوالاً أبديًا كما زال استقلال بني إسرائيل إلا أن يحدث
في العمران انقلاب كبير لا دليل عليه الآن.
وأما أهل الرجاء - ونحن منهم - فإنهم يعرفون ما يحتج به أهل اليأس ولا
ينكرونه ولهم نظر آخر أبعد، ورأي أسدّ - إن شاء الله - وأرشد، يؤيدونه بآيات
الوحي ويستدلون عليه بطبيعة العمران وشئون الاجتماع، ولا يتسع هذا المقال
لشرح ما يجوز نشره منه، وإننا نوجز القول فيما لا مندوحة عنه.
إن المسلمين - وإن اختلفوا في اللغات والمذاهب والأوطان والحكومات -
يتفقون في أمر واحد تتبعه أمور جوهرية من ناحيتها يدعون إلى ما يحييهم ويجعلهم
أمة عزيزة تشعرها وحدة الاعتقاد بأن لها مصلحة واحدة يجب على شعوبها الاتحاد
والتكافل في سبيلها وإن ظلوا على اختلافهم في تلك الأمور العظيمة حتى إذا ما
انتشرت الدعوة إلى الأمر المتفق عليه (وهو القرآن) استتبعت الوحدة في اللغة
والوحدة في المذهب أو انتفى الافتراق في المذاهب , وصار كل شعب من شعوب
المسلمين قوة للآخر وعونًا له وظهيرًا على بعد الدار وقربها واختلاف الحكومات
والأجناس ولا تسألني عما يكون بعد ذلك وأنت لمَّا تعلم ما يكون قبله.
الدعوة إلى القرآن تستتبع الدعوة به إلى جميع العلوم الكونية من طبيعية
واجتماعية لأجل تكميل النفس بعرفان حكم الله في صنعه وإبداعه , ولأجل تعزيز
دينه بآثار تلك العلوم , وتستتبع طلب المزيد من نعم الله ومساهمة الأغنياء والأقوياء
للفقراء والضعفاء في هذه النعم بأداء الزكاة وغيرها من الصدقات التي تقوم بها
المصالح العامة والخاصة وتستتبع حكم الشورى وإقامة العدل وغير ذلك من أركان
السعادة. فإذا وفق الدعاة لإقناعهم بهذا وحملوهم عليه فقل: قد نفخت فيهم روح
الحياة التي لا موت بعدها. نعم إن هذا الإجمال لا يقنع القارئ بهذه الدعوى , وإن
التفصيل مع بيان الدليل لا محل له هنا على أن شرح ذلك إنما يفيد أهله الذين
استعدوا للقيام به دون من يقرأ لأجل التسلي أو الانتقاد كما هو شأن أكثر الناس.
بينا في مقالة الحياة الملّية من المجلد الثامن شيئًا من حقيقة هذه الحياة التي
هي محل رجائنا , وذكرنا هناك العلوم التي نحتاج إليها وكيفية تمهيد العقبات التي
تعترض في سبيلها , ونحن الآن في حاجة إلى بيان أن المسلمين في طور انتقال
من حال إلى حال وأن هذا الطور شبيه بطور النقه من مرض تخشى عاقبته، ولا
تؤمن نكسته، وأنهم محتاجون فيه إلى الأطباء الروحانيين العالمين بأدواء الاجتماع
وطرق معالجتها وإلا سبقهم الأجانب لتحويل الأمة في هذا الطور إلى حياة مذبذبة
ينقطع كل رجاء للإسلام فيها.
ثبت بالتجربة والاختبار أن المتعلمين للعلوم الكونية هم الذين يسودون أمتهم
كما أن الأمم السابقة في مضمار هذه العلوم تسود المتخلفة فيه فالناس تبع لهؤلاء
المتعلمين صلحوا أم فسدوا , فهم التيار الجديد الذي يحول الأمة من حال إلى حال
وعقول هؤلاء المتعلمين وقلوبهم بين أيدي الأجانب فهم الذين يودعون فيها وينقشون
في ألواحها المستعدة ما يريدون على علم منهم بغايته وأثره. ومما نشاهد من أثره
أن أكثر المتعلمين لا قيمة للدين الذي هو الرابطة العامة للمسلمين - في نفوس
أكثرهم فهم لا يصلون ولا يصومون , ولا يحلون ولا يحرمون وإنما هَمُّ أكثرهم
التمتع باللذات الحسية ولو بذلوا في سبيلها جميع المصالح العامة. ثم هم مع هذا
مغرورون بأنفسهم يحسبون أنهم أرقى من سلفهم الصالح عقولاً وأرجح أحلامًا
وأوسع علومًا وأفضل آدابًا وأقدر على الأعمال الاجتماعية فلا الدين عرفوا ولا حب
الأمة أشربوا , وكيف وهم على جهلهم بشريعتها يجهلون تاريخها الذي لم يتفضل
عليهم ساداتهم الأجانب بشيء حقيقي منه إلا بعض المسائل المنتقدة التي صوروها
بغير صورتها , وألبسوها غير لباسها , واستنبطوا منها ما لا تدل عليه من العيوب
والمساوئ , وغفل متعلمونا الأذكياء عما اعترف به المنصفون من فلاسفة أساتذتهم
المتصرفين في عقولهم وقلوبهم من حيث لا يشعرون من تعظيم شأن مدنية المسلمين
الأولين الذي أقاموا ميزان العدل بعد ميله , وأحيوا موات العلم بعد موته كما غفلوا
عن أنفسهم التي لم يوجد لها في الأرض أثرًا يحمد فلا رفعوا أمة من سقطتها ولا
أحيوا دولة بعد موتتها وما لي لا أذكرهم بتعصب أساتذتهم لدينهم والسعي في نشره
بما يبذلون من الملايين في جمعيات الرهبان والقسيسين.
كلا، إن القصد إلى بيان حال المتعلمين في مثل مصر والآستانة , وأنهم
كالعلامة في جهلهم بعاقبة علمهم وعملهم في الأمة فكل واحد منهم يفكر في خويصة
نفسه , فهو يتعلم لغاية يجعلها نصب عينيه وهي رزق مضمون يتمتع به كما يتمتع
خواص قومه. يعذر التلميذ في هذا ولا يعاب لأنه لا يتوجه إلا حيث يوجهه معلمه
ومربيه فمن لم يكن له أم ولا أب ولا معلم ينفخ فيه روح حب الأمة والملة لا يرجى
أن يهتم بجعل حياته الشخصية ركنًا من أركان حياة أمته الملية لبذل شيء من وقته
وشيء من فضل ماله في خدمتها وإعلاء شأنها.
إذا كان الكمال الشخصي يتوقف على حسن تربية الشخص البدنية والنفسية
فهل يمكن أن يكون الكمال الاجتماعي بالمصادفة والاتفاق أو لترك معظم نشء الأمة
فوضى والقذف بمن يراد تعليمهم من الذكران والإناث إلى الأجانب حتى الجزويت
والفرير ينقشون ألواح نفوسهم بما يشاءون؟
هذه الحال التي نرى عليها أكثر الذين تعلموا العلوم العصرية والتي يظن أن
سيكون عليها أو على ما هو دونها من يتعلمون الآن تصلح أن تكون حججًا لليائسين
من إصلاح حال المسلمين , ولكن أهل الرجاء يرون في أثناء هذه الظلمات المتكاثفة
بصيصًا من النور يوشك أن يتألق فيقشع كل ظلمة ويظهر صراط الحق للسارين.
يرى البصير في مصر والهند نابتة على شيء من استقلال الفكر ويرى في روسيا
نابتة لم يعمل في أرواحها سم الأجانب عمله في غيرها وهي مع ذلك تتطلب العلوم
والتربية لأجل الحياة، ويرى في الآستانة نفسها على شدة الهيمنة فيها على الأفكار
والمراقبة على العلم نابتة تلتهب غيرة وتشعر من معنى الاستقلال بما لا يشعر به
سائر المسلمين , ويرى في إيران هزة جديدة، وحركة يرجى أن تكون مفيدة،
ويرى في تونس حركة أخرى حيوية، تعوزها نفحة من نفحات الحرية، وليس
استقلال الفكر هو كل ما استفادت نابتتنا من الأجانب بل أصابتهم نفحة من نفحات
الحياة الاجتماعية. فهذا الخير يتنازع مع تلك الشرور في هذه النفوس الضعيفة ,
ولا يعوز الأمة الآن إلا الأطباء الروحانيون والزعماء الاجتماعيون الذين يشرفون
على الأودية والترع والسواقي التي تجري فيها سيول الحوادث الجديدة بالأمة
ويقدرون على تحويلها إلى حيث تكون محيية لأرض الأمة. ما رأيت لكاتب في
هذه البلاد كتابة , ولا علمت لعامل عملاً ينبئ بمراقبته للتغيير الاجتماعي الذي ينتقل
بالأمة المصرية من حال إلى حال (وحاشا من فقدنا بالأمس) إلا ما يكتبه اللورد
كرومر في تقاريره السنوية، وما يدبر به أمور الحكومة الكلية، هو الذي ينظر في
عاقبة الأعمال المالية الكبرى ويسيرها كما يرى، وهو الذي قال في المحاكم
الشرعية: إنها ستمد إليها يد لا تعرف للقديم حرمة، وهو الذي توقع من زيادة
الإقبال على تعليم البنات ما توقع , وأشار بالنظر في مغبته، هو الذي فهم ما يرمي
إليه اعتصاب تلاميذ المدارس فاهتم به اهتمامًا لم يفهم سره إلا الأقلون فمن لنا
بمرشدين ينظرون في أمورنا الكلية بتلك العين، ويرجحون سير نابتتنا خير
النجدين؟ .
هذا ما نحن في أشد الحاجة إليه لإصلاح شئوننا في هذا الطور الذي نحن فيه
فالزعماء المصلحون هم الذين يحولون مجاري الحوادث التي تعمل في استعداد
الأمة وتغيرها على ما فيه خيرها وسنفرد لهم مقالاً خاصًّا بهم.