للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد عمر الإسكندري


نظرة في الجزء الثاني من كتاب
تاريخ آداب اللغة العربية [*]
(٢)

(أمثلة لكل نوع من الخطأ)
أقتصر في هذه العجالة على بعض نماذج من أنواع الخطأ في الأمور الآنفة
ليكون القارئ على بصيرة من أمثالها فمن أمثلة الأمر الأول (وهو الخطأ في الحكم
الفني)
(١) قول المؤلف في صفحة ١٣٧: (وكان أبو حنيفة لا يحب العرب ولا
العربية حتى إنه لم يكن يُحسن الإعراب ولا يبالي به) [١] وعزا في الذيل هذه
العبارة إلى صفحة ١٦٥ جزء ثان ابن خِلِّكان.
فالذي يثق بالمؤلف يصدق عبارته هذه بعد أن تبرأ من تبعتها ونسبها إلى
مؤرخ عظيم، ولكنه إذا راجع ابن خلكان في هذه الصفحة بل إذا قرأ ترجمة أبي
حنيفة من أولها إلى آخرها لم يكد يشم منها رائحة هذه الألفاظ بله المعاني. وكل ما
ذكره هو العبارة الآتية:
(ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما روي أن أبا عمرو بن
العلاء المقرئ النحوي المقدَّم ذِكْره سأله عن القتل بالمثقل هل يوجب القود أم لا؟
فقال: لا، كما هو قاعدة مذهبه خلافًا للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له
أبوعمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس. يعني الجبل المُطلّ
على مكة -حرسها الله-. وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من
يقول: إن الكلمات الست المعرَبة بالحروف وهي أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو
مال إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف وأنشدوا في ذلك:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
وهي لغة الكوفيين وأبو حنيفة من أهل الكوفة فهي لغته والله أعلم.
هذه هي عبارة ابن خلكان بنصها فليقابلها القارئ بعبارة مؤلفنا وأترك الحكم له
بلا تشنيع ولا تبشيع فهي وحدها كفيلة بكل ذلك.
على أن بعضهم قد أخذ على مالك ما أخذه خصوم أبي حنيفة عليه إذ قال في
الموطأ (عليه هدي بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد إلا هي) بوضعه ضمير الرفع
موضع ضمير النصب. ولو اطلع المؤلف على هذا الموضع لقال في مالك ما قال
هو في الخمر.
(٢) قول المؤلف في الصفحة المذكورة (وكان أئمة الفقه في المدينة فأراد
المنصور تصغير أمر العرب وإعظام أمر الفرس؛ لأنهم أنصارهم وأهل دولتهم
فكان من جملة مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين فبنى بناءً سماه
القبة الخضراء حجًّا للناس (كذا) وقطع المِيرة عن المدينة وفقيه المدينة يومئذ
الإمام مالك الشهير فاستفتاه أهلها في أمر المنصور فأفتى بخلع بيعته فخلعوها
وبايعوا محمد بن عبد الله من آل علي، وعظم أمر محمد هذا وحاربه المنصور،
ولم يتغلب عليه إلا بعد العناء الشديد فرجع أهل المدينة إلى بيعة المنصور قهرًا،
وظل مالك مع ذلك ينكر حق البيعة لبني العباس فعلم أمير المدينة يومئذ وهو
جعفر بن سليمان عم المنصور بذلك فغضب ودعا بمالك وجرده من ثيابه وضربه
بالسياط وخلع كتفه) فيفهم من هذه العبارة:
أولاً: أن جمهرة أئمة الفقه كانت بالمدينة فقط.
ثانيًا: المنصور كان يكره العرب كراهة حملته -وهو خليفة المسلمين وأفقه
أهل زمانه- على أنه يرتد عن الإسلام ويحاول صرف المسلمين عن تولية وجوههم
شَطر قبلتهم، وعن أداء فريضة هي أحد أركان الإسلام الخمسة إلى قبته الخضراء
التي بناها فوق قصره ببغداد.
ثالثًا: أنه قطع المِيرة عن المدينة لمجرد بغض الحرمين ولوجود أكثر أئمة
الفقه في المدينة وهي فضلى المدائن العربية، ويستتبع ذلك أن يكون بغضه لمالك
أشد منه لكل فقيه فيها؛ لأنه شيخهم العربي.
رابعًا: أن أهل المدينة استفتوا مالكًا في خلع المنصور وببيعة محمد بعد قطع
الميرة عنهم.
خامسًا: أن مالكًا أفتاهم فِعلاً بذلك.
سادسًا: أن المنصور لم يتغلب على محمد بن عبد الله إلا بعد العناء الشديد
أي بعد وقائع كثيرة وأزمنة طويلة.
سابعًا: أن مالكًا استمر على عناده حتى فعل به جعفر بن سليمان ما فعل.
ثامنًا: أن وقوف المؤلف في العبارة عند هذا الحد يقتضي أن ذلك كان
برضى من المنصور.
وأقول: إن كل هذه اللوازم باطلة، أما عن الأول فلم تكن جمهرة الفقه خاصة
بالمدينة بل كانت ضاربة بجرانها في مصري الإسلام - الكوفة والبصرة - كما
كانت في الشام ومصر على كثب من ذلك، وإنما كان العلم بالحديث يغلب على
فقهاء الحجاز والعلم بالقياس والرأي يغلب على أهل العراق وربما طرأت هذه
الشبهة على المؤلف من قول مالك نفسه في حديث له مع المنصور (وإنما الفقه فقه
أهل المدينة) يرجح مذهبه وأخذه بالحديث ويضعف مذهب أهل العراق في أخذهم
بالرأي، وهذا أقل ما يقول صاحب مذهب في ترجيحه، والمعلوم أن أبا حنيفة
وأصحابه بالعراق أسبق من مالك وأصحابه بالمدينة اشتغالاً بالفقه وتدوينًا له.
وأما عن الثاني: فكيف يكره المنصور العرب هذه الكراهة وهو عربي وابن
عم النبي العربي وخليفته في أمته وشريعته؟ وكيف يحاول تحويل المسلمين عن
قبلتهم وشعائر حجهم إلى قبته الخضراء على غضاضة الإسلام وقرب عهد الناس
بنبيهم مع أن دعوة العباسيين لم تقم إلا بإظهار الدفاع عن حوزة الإسلام وتجديد
شريعته وشعائره؟ وكيف يقع ذلك من المنصور وهو الذي حمل علماء المسلمين في
جميع بقاع الأرض على تدوين علوم الكتاب والسنة فكان عهده مبدأ لتدوينها بإجماع
المؤرخين ومنهم المؤلف.
وبعد فلو كان كل ذلك قد كان فما الذي حمل المنصور على الحج إلى بيت
غير قبته حتى توفي في طريق مكة على أميال منها محرِمًا ناسكًا وكُفِّن ودفن
كذلك.
هذا إلى ما اشتهر عن المنصور من الزهد وتشدده في أمر الدين فلم يُسمع في
داره لهو قط. والتواريخ مفعَمة بمناقبه وإنما كان الرجل ملكًا ومؤسس ملك فاشتدت
وطأته على أعدائه ومزاحميه من بني علي فأذاعوا عليه هذه الشنعة ليصرفوا الناس
عنه كما صرفوا عن بني أمية بمثل ذلك، وأنهم هدموا الكعبة فأخذ المؤلف هذه
العبارة من بعض الكتب التي روت حديث الخصوم من غير تمحيص وتحقيق.
وكيف يبلغ كراهة العباسيين للعرب هذا الحد وهم إنما ولوا السفاح قبل
المنصور؛ لأن أمه عربية، وولوا الأمين قبل المأمون لأن أمه هاشمية، وكل من
المنصور والمأمون أكبر من أخيه. وكانت ثقتهم بالفرس في ضبط الملك ترجح عن
ثقتهم بالعرب؛ لأن أنصار بني أمية من العرب كانوا في مبدأ الدولة أقوياء الشوكة
على أن هذا لم يدم أكثر من قرن ثم تحول إلى الترك وغيرهم.
وأما عن الثالث: فبينا فيه ما تقدم واعتذار المنصور بعد لمالك عما وقع
من جعفر وسؤاله الصفح عنه بعد أن عزله عن ولاية المدينة وأقدمه إلى العراق
على قتب، ودعوة مالك إلى تأليف الموطأ وقوله له: إنه لم يبق على وجه الأرض
أعلم مني ومنك (أي بعلوم الفقه والدين طبعًا) ودعوته له أن يَقْدَم معه إلى العراق
وينشر علمه بها فأبى مالك واختار جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما عن الرابع: فإن المنصور لم يقطع الميرة عن أهل المدينة إلا بعد
مبايعتهم محمدًا، وأن مالكًا إنما أثر عنه ذلك بعد قتل محمد وقدوم جعفر بن سليمان
مجددًا لبيعة المنصور.
وأما عن الخامس: فغاية ما روي أن مالكًا سئل في يمين المكره: هل تقع؟
فقال: لا، وكان جعفر أيام ذلك يأخذ الناس بأيمان البيعة للمنصور طوعًا وكرهًا
فوشى بعض الناس إلى جعفر بأن مالكًا لا يجيز أيمان بيعتكم ففعل ما فعل.
وأما عن السادس: فلم يدم أمر محمد منذ ظهر بالدعوة إلى يوم قتل أكثر من
شهرين وسبعة عشر يومًا ولم يزد الجيش الذي حاربه على خمسة آلاف رجل ولم
يزد أصحاب محمد على نيف وثلثمائة رجل.
وأما عن السادس والسابع: فمفهوم مما تقدم.
(٣) ومن الخطأ في الحكم دعوى المؤلف في صفحة ٨٣ أنه لم يبق من
نظم إبان لكتاب كليلة ودمنة إلا بيتان هما:
هذا كتاب أدب ومحنة ... وهو الذي يدعى كليله ودمنه
فيه احتيالات وفيه رشد ... وهو كتاب دفعته الهند
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كذا)
فالمؤلف لم يجد إلا هذين البيتين في الأغاني فنقلهما محرَّفين وادعى أنه لم يبق
غيرهما مع أن كتاب الأوراق للصولي بدار الكتب الخديوية، أي بعدة أبواب من
الكتاب منظومة في أخبار أبان، ومن العجيب أن المؤلف اطلع على هذا
الكتاب ووصفه بما قدر عليه في صفحة ١٧٥ من كتابه هذا.
ومن أبيات إبان غير هذين البيتين قوله:
وقيل أيضًا: إنه قد ينبغي ... للرجل الفاضل فيما يبتغي
ألا يرى إلا مع الأملاك ... أو يعبد الله مع النساك
كالفيل لا يصلح إلا مركبا ... لملك أو راعيًا مسيبًا
(٤) ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف أن كتاب الأدب الصغير والكبير
والدرة منقولة عن الفارسية أي أنها مترجمة عنها.
أما الأدب الكبير المطبوع في مصر وسورية باسم الدرة خطأ فقد صرح ابن
المقفع أنه من بنات أفكاره (فليراجع) .
وأما الأدب الصغير فشيء من عند ابن المقفع وشيء نقله عن غيره كما يُعلم
ذلك مما كتبه العلامة البحاثة أحمد زكي باشا في المقدمة التي دبجتها براعته لطبعة
جمعية العروة الوثقى.
وأما الدرة اليتيمة فلم يعثر عليها أحد إلى الآن وليست هي الأدب الكبير كما
زعم المؤلف في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الدرة اليتيمة ويسمى أيضًا كتاب الأدب
الكبير) فقد نقلت كتب الأدب منها قطعًا لا توجد في الأدب الكبير المطبوع باسم
اليتيمة خطأ. ووصف المؤلفين لليتيمة لا ينطبق على الأدب الكبير.
هذا ولم يقل أحد أن اليتيمة مترجمة عن أصل فارسي إلا المؤلف. وإنما فيها
بعض نقول عن قدماء الفرس كما يقع في أكثر كتبه.
(٥) ومن الخطأ في الحكم عدّه طاهر بن الحسين فاتح بغداد وقاتل الأمين
في عداد المنشئين كتاب الرسائل مع أن هذا الاسم لا ينطبق عند علماء الأدب إلا
على الكاتب في ديوان الرسائل الذي سمي فيما بعد ديوان الإنشاء، ولم يخدم طاهر
بن الحسين الدولة منشئًا قط كما لم يعرف له كتب ذات بالٍ غير وصية كتبها لابنه
عبد الله عند توليه ديار مصر، ولم يكن طاهر إلا قائدًا عظيمًا وأميرًا داهيًا. ولئن
ساغ لنا أن نعد كل من خلف وصية مطولة بليغة في طبقات الكتَّاب، لقد كان من
الواجب أن نعد الإمام عليًّا والمنصور العباسي والرشيد والمأمون من كتَّاب
الرسائل مع أن لهم مجموعات من الرسائل، وبينما نجد المؤلف لم يتكلم في العصر
الأول العباسي إلا على طاهر بن الحسين وعمرو بن مسعدة من كتاب الرسائل إذ
نراه أهمل ذكر جميع كتاب الرسائل المشهورين كعمارة بن حمزة وأبي عبيد الله
وزير المهدي والقاسم بن صبح ويوسف بن القاسم وأحمد بن يوسف ويحيى بن
برمك وجعفر بن يحيى وإسماعيل بن صالح وابن الزيات وغيرهم وهم
فحول البلاغة وفرسان الكتابة والكتابة صناعتهم وصناعة آبائهم ولا يزال كثير
من رسائلهم وكتبهم محفوظة في بطون الكتب والتواريخ لمن يريد البحث
والفحص.
ويشبه هذا عد المؤلف أبا العباس المبرد وأبا علي القالي من علماء متن اللغة؛
لأن الأول ألف كتاب الكامل وفيه قصائد ومقطعات شرح بعض ألفاظها من اللغة
وعده القالي كذلك؛ لأنه أملى أماليه شارحًا بعض غريبها مع أن هذين الكتابين
باعتراف المؤلف ركنان من أركان كتب الأدب الأربعة مما كان أولى أن يعدهما في
طبقات مؤلفي الأدب.
وعده السكري من المؤلفين في الأدب مع الجاحظ وابن قتيبة مع أن السكري
لم يكن إلا راويًا للشعر جمع أشعار كل قبيلة أو شاعر في ديوان، وليس له فيها
غير الجمع ناقلاً عن أئمة الرواة أو عن الأعراب، وفي الكتاب من أشباه هذا
كثير.
(٦) ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف في صحيفة ٢٠٧ أن علم الكلام
ومذهب الاعتزال نشآ في العصر الثاني من حكم بني العباس أي بعد ١٣٢ هجرية
مع أن المشهور في التاريخ أنه لما كثر المتزندقة والملاحدة في زمن المهدي أوعز
إلى العلماء أن يحاجوهم بالأدلة العقلية ويدونوا في ذلك الكتب ففعلوا وسُموا
المتلكمين لأن علمهم من كلامهم لا من الكتاب ولا من السنة ونشأ من هؤلاء طبقة
في زمن الرشيد ثم أعقبتها طبقة في زمن المأمون كان هو من كبارها ومنهم
ثمامة بن أسرس وأبو الهند بن العلاف وإبراهيم النظَّام وأحمد بن أبي دؤاد
وغيرهم على أن المعتزلة من المتكلمين يبتدئ عصرهم من حياة واصل بن عطاء
بل من قبله أيضًا.
ومن العجيب أن المؤلف حينما أراد أن يترجم علماء الكلام ذكر واصل بن
عطاء وهو من أهل العصر الأول بل هو ممن أدرك كثيرًا من عصر بني أمية.
(٧) ومن الخطأ في الحكم جعله أبا منصور عبد الملك الثعالبي صاحب
يتيمة الدهر هو صاحب التفسير الكبير المعروف بتفسير الثعلبي، والثعلبي هذا هو
الإمام الحجة الثبت أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي المفسر المشهور، ولعل
الذي أوقع المؤلف في هذا الخطأ أن كِلا الرجلين نيسابوري الموطن وأنهما كانا
متعاصرين، وأن وفاتيهما متقاربتان غير أن الأول أديب، وهذا إمام مفسر جليل
وهما شهيران في بابيهما.
وسنذكر في مقالتنا الآتية بقية أنواع الخطأ التي أشرنا إليها في صدر مقالتنا
هذه وكل آتٍ قريب.
ومن أنواع الخطأ التي تضمنها الكتاب الخطأ في الاستنتاج ومن أمثلته ما يأتي:
ذكر المؤلف في صفحة ٢٣٨ الفصل الآتي بنصه وهو:
(٥) طول القصائد:
وطالت القصائد في هذا العصر عما كانت عليه قبلاً حتى كثرت فيها ذوات
المئات من الأبيات كقصيدة ابن عبد ربه وقصائد الواساني ومع ذلك فإن العرب لم
يدركوا شَأْو الأمم الأخرى في الإطالة كما فعل اليونان بالألياذ والأوذية والفرس في
الشاهنامة وهو الشعر المعروف بالأيبوبة، وتعد أبيات الواحدة بعشرات الألوف.
على أنهم ذكروا لأبي الرجاء محمد بن أحمد بن الربيع الأسواني المتوفى سنة ٣٣٥
قصيدة أبياتها تعد بالألوف ضمنها أخبار العالم وقصص الأنبياء ومختصر المزني
ويعد من هذا القبيل نظم كليلة ودمنة ونحوها مما ضاع. ولكن ذلك منقول ليس فيه
تفكير، أي لم ينظمه الشاعر من بنات أفكاره، ولا يكون ذلك إلا في نظم القصص
الخيالية أو نحوها)
فهذا الفصل على ما فيه من تضارب الأقوال وتناقض الأحكام يستفاد منه:
أولا: أن القصائد العربية طالت في العصر الثالث من حكم بني العباس عن
كل العصور التي سبقته حتى بلغ بعضها مئات من الأبيات.
ثانيًا: أنهم مع ذلك لم يدركوا شأو اليونان والفرس في تطويل القصائد لأن
تلك تعد بالألوف.
ثالثًا: أن العرب كان لها قصائد قبل هذا العصر تعد بالألوف أيضًا ولكنها
ضاعت كقصيدة الأسواني ونظم كليلة ودمنة وغيرهما.
رابعًا: أن العرب وإن أطالوا في بعض القصائد لم يضمنوا طوالهم بنات
أفكارهم بل نقلوها عن أمم أخرى. وأقول:
أما الأمر فإن أطول القصائد لم يختص بعصر دون عصر فمنذ ظهر امرؤ
القيس في عالم الشعر تطول القصائد وتقصر وكفى بالمعلقات طولاً وهي من نظم
الجاهلية ولم يقصر الإسلاميون ولا المحدثون عن هؤلاء في الطول , فقصائد جرير
والفرزدق والأخطل والكميت ومروان ومسلم ودعبل وأبي تمام والبحتري
وابن الرومي والناشئ لا تقصر عن قصائد أهل العصر الثالث فلجرير ميمية تقارب
مائة بيت وللفرزدق ميمية تزيد على مائة وأربعين ولدعبل قصيدة في التعصب
لليمانية يرد بها على الكميت المفتخر بالنزارية تبلغ ستمائة بيت. وللناشئ قصيدة
في فنون من العلم على رويّ واحد تبلغ أربعة آلاف بيت وكل هؤلاء قبل العصر
الثالث.
وأما عن الأمر الثاني فإن المؤلف لم يفطن للفرق بين الشعر العربى
والأعجمي. فالشعر العربي تنظم القصيدة فيه من بحر واحد وقافية واحدة وروي
واحد , وشعر الأمم الأعجمية ليس له قافية، وإن التزمت فيه القافية فلا
تتجاوز بضعة أبيات، فالشاعر العربي إذا نظم قصيدة مائة بيت من قافية واحدة فتلك
الغاية التي لا تدرك في شعر أي أمة أخرى وأغلب شعر اليونانيين والفرس وأمم أوربة
الآن من نوع الدوبيت والزجل أو الشعر المسمط فهو مركب من أدوار وخانات. وإذا
لم يراع الشاعر قافية، فالمائة وألف الألف عنده سواء فليس عليه أي كلفة في
الصناعة وإنما يرجع الأمر في ذلك إلى طول الزمن وقصره كما نظم البستاني
الإلياذة من عدة بحور وعدة قوافٍ.
وأما الأمر الثالث: فلو علم المؤلف أن نظم كليلة ودمنة ونحوه ليس من نوع
القصائد بل من نوع المزدوجات التي لا تكلف الناظم أكثر من قافيتين اثنتين في كل
بيتين لم يكن تجشم التناقض والاعتذار الغريب في كلامه.
وأما الأمر الرابع: فلما رأى المؤلف على توهمه أن للعرب شعرًا طويلاً مثلما
للفرس واليونان مما يعارض دعواه احتاج إلى أن يبرر رميه العرب بالقصور
وتهجين شعرهم بقوله (ولكن ذلك منقول ليس فيه تفكير) فلو أراد المؤلف بطوال
الشعر العربي أرجوزة ابن عبد ربه في تاريخ الأندلس أو علم العروض وأرجوزة
الأسواني في أخبار العالم وقصص الأنبياء ونحوهما فهما لم تعدوا أغراض الإلياذة
والشاهنامة إذ الأولى في وقائع حروب ترواده والثانية في تاريخ الفرس.
على أن كل هذا الكلام جهاد في غير عدو، فالطوال في العصر الثالث ليست
من نوع القصيد بل من نوع الأراجيز وطوال الأمم الأخرى لم يلتزم فيها قافية
واحدة.
ومن الخطأ في الاستنتاج زعم المؤلف أن التصوف لم ينشأ إلا في العصر
الثالث أي بعد سنة ٣٣٤ وينعي على ابن خلدون وغيره ممن يرى أن اشتقاقه من
الصوف ويرى هو أنه مشتق من كلمة (صوفيا) اليونانية.
قال في صفحة ٣٣٢:
(وعندنا أنها مشتقة من لفظة يونانية الأصل هي (صوفيا) ومعناها الحكمة
ويتركب منها ومن (فيلوس) محب (فيلو صوفيا) أي محب الحكمة وهي بالعربية
الفلسفة فيكون الصوفية قد لقبوا به نسبة إلى الحكمة؛ لأنهم كانوا يبحثون فيما
يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا، ويؤيد ذلك أنهم لم يظهروا بعلمهم هذا ولا عرفوا
بهذه الصفة إلا بعد ترجمة كتب اليونان إلى العربية ودخول لفظة الفلسفة فيها) .
وأقول: إن طريقة القوم قد اشتهرت بهذا الاسم قبل شيوع ترجمة الكتب
اليونانية وانتشار الفلسفة ومن قدمائهم الذين أطلق عليهم اسم صوفية مالك بن دينار
المتوفى سنة ١٣١ وإبراهيم بن أدهم المتوفى سنة ١٦١ ورابعة العدوية المتوفاة
سنة ١٣٥ وشقيق البلخي المتوفى سنة ١٥٣ وهو أول من تكلم في طريقة الصوفية
وعلم الأحوال بخراسان والفضيل بن عياض المتوفي سنة ١٨٧ وغير هؤلاء ممن
ذكرهم القشيري وغيره في تعداد سلف الصوفية الصالح.
فلو كان الأمر كما زعمه المؤلف من أنهم لم يعرفوا بهذه الصبغة إلا بعد
ترجمة الكتب اليونانية وشيوع لفظ الفلسفة فيها أي في أواسط العصر الثاني فلم لم
يسموا فلاسفة إذ (كانوا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا.. .) ولم لم
تُسمَّ الفلاسفة صوفية؛ لأنهم أيضًا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثًا فلسفيًّا! وقد
كان الكِندي وهو أقدم من اشتغل بالحكمة يسمى فيلسوف العرب ولم يسم صوفي
العرب.
وبعد فلو كان هذا الاسم قد عرف بعد أن عرفت الفلسفة وعرف اسمها
ومأخذه , فلم أُبهم اسم الصوفية على كثير؟ والحقيقة أن طريقة القوم بمعزل عن
الفلسفة، وهم كانوا أشد الناس إنكارًا على المتفلسفين وأن اسمهم مشتق من الصوف
لمداومة أكثرهم لبسه تقشفًا وتخشنًا.
(٢) ومن أمثلة الخطأ في الاستنتاج دعوى المؤلف خمول اسم بشار الشاعر
المشهور قال في صفحة ٦١ (ولم يخرج في دفنه أحد لأنه مات وخصمه الخليفة،
وربما هذا هو السبب أيضًا في خمول اسمه مع تبريزه في الشعر) .
وأقول: لم يدَّع خمول بشار غير المؤلف، وإلا فكتب الأدب مفعمة بأخباره
ونقد كلامه، وكيف يجهل رأس المحدثين بإجماع كل متكلم في الأدب وغاية ما يقال:
إن ديوانه لم يُجمع، وكم من شاعر جمع ديوانه ولم يشتهر شهرة بشار.
(٣) ومن الخطأ في الاستنتاج ادعاء المؤلف في صفحة (٩٩) أنه لم
يصلنا إلا أخبار الرواة المقربين من الخلفاء أو الوزراء في بغداد كالأصمعي وأبي
عبيدة وليس ذلك بصحيح فإن من كبار الرواة من اتصل بالخلفاء ومنهم من لم
يتصل. فأبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة والعربية لم يعرض علمه على خلفاء بني
أمية ولا خلفاء بني العباس، وإليه كانت الرحلة من الآفاق وهذا الخليل بن أحمد
شيخ الأصمعي وأبي عبيدة زهد في صحبة الملوك وتأديب أولادهم، وأخرج كسرة
خبز يابسة لرسولهم، وقال: ما دامت هذه في بيتي فلا حاجة لي فيهم.
وهذا أبو زيد الأنصاري ثالث الثلاثة (الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد) كان
ممن يقبّل الأصمعي رأسه في حلقة درسه ويقول: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين
سنة، ولم يُعلم أنه اتصل بخليفة، وهذا خلف الأحمر أروى أهل زمانه للشعر مات
ولم يتصل بخليفة.
وأبو عمرو الشيباني راوي دواوين العرب وجامعها من هذا القبيل، وكذلك
مؤرخ السدوس وأبو عبيد القاسم بن سلام والسكري وغيرهم من مشاهير الرواة
كانوا بمعزل عن الخلفاء.
ومن الخطأ في الاستنتاج ما قاله المؤلف في صفحة ١١٣ (ويقال: إن أول
من علله (أي النحو) أي ذكر أسباب إعرابه عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي
المتوفى سنة ١١٧ والغالب في اعتقادنا أن تعليل الإعراب لم ينضج إلا بعد نقل
كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية) ولو قال المؤلف: لم يفسد إلا بعد نقل كتب
الفلسفة.. .. إلخ، لكان أولى فقد كان الخلاف بين الكوفيين والبصريين في تعليل
مسائل القياس النحوي، وليس هو إلا تعليل أوجه الإعراب ولم يفتر هذا النضال
بين المصرين إلا بعد انكباب الناس على الفلسفة وانصرافهم عن العربية.
(٥) ومن ذلك ما زعمه من أن إبراهيم بن المهدي لم ينصرف إلى الغناء
إلا بعد استقلال المأمون في الخلافة قال في صفحة ١٣٦:
***
الغناء القديم والحديث
(ولما زها العصر العباسي الأول في زمن الرشيد والمأمون وأطلقت الألسنة
والأفكار أخذ المغنون يفكرون في تعديل الألحان واستنباط أسلوب جديد. وأول من
تجرأ على ذلك إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد - وكان من الطامعين في الخلافة، فلما
استتب الأمر لأخيه (كذا) المأمون انصرف هو إلى الغناء كما انصرف خالد بن
يزيد الأموي إلى الكيمياء لما يئس من الخلافة) .
والمعروف عند أهل التاريخ والأدب أن إبراهيم كان منصرفًا إلى الغناء منذ أيام
أبيه، وكان في مدة أخيه فحلاً من فحول الصناعة لم يفُقه فيها إلا إسحق، ومن
أهل زمانهما من يقدم إبراهيم عليه لكثرة اختراعه وتصرفه ووقوف إسحق عند ما
رسمه الأوائل. ومناقضات إبراهيم وإسحق وملاحتهما في الصناعة في مجالس
الرشيد أشهر من أن تذكر، بل كانت شهرة إبراهيم بالغناء من أكبر عوائق
استتباب الخلافة له. وبعد: فمتى كان المأمون أخًا لإبراهيم أو أخًا للرشيد وإنما
هو ابن الثاني وابن أخي الأول؟
(٦) ومن خطأ الاستنتاج واضطراب الكلام واختلاطه الفصل الذي كتبه
المؤلف في السيرة النبوية، فلا يكاد القارئ يستنبط منه حكمًا جليًّا، فمن قوله فيه:
***
سيرة ابن هشام
(وأما سيرة النبي كاملة فأقدم ما وصل إلينا منها سيرة محمد بن إسحق
رواية عبد الملك بن هشام وقد اتفقوا على صحتها. (ثم قال) ويرى الناقد فيها
كثيرًا من القصائد يغلب على الظن أنها دخيلة. وذكر صاحب الفهرست أنهم كانوا
يعملون الأشعار ويأتون بها إلى ابن إسحاق ويسألونه أن يدخلها في كتابه في السيرة
فيفعل (ثم قال في ترجمة ابن هشام بعد ذلك بأسطر قلائل) وهو الذي روى سيرة
النبي من المغازي والسير لابن إسحق وهذبها ولخصها وهي الموجودة في أيدي
الناس وفي ترجمة ابن خلكان ٢٩٠ ج١ (ثم قال في ترجمة ابن إسحق بعد ذلك
بأسطر) ومن كتبه في المغازي أخذ عبد الملك السيرة التي نحن بصددها وقد طبعت
هذه السيرة (أي سيرة ابن هشام) مرارًا.. .. . إلخ إلخ، (إلى أن قال) وأما
النسخة الأصلية رواية (كذا) ابن إسحق فالمظنون أن منها نسخة في مكتبة
كوبريني بالآستانة) .
فأنت ترى أنه (أولاً) جعل سيرة ابن إسحق وابن هشام واحدة وابن هشام
ولم يكن إلا راويًا.
ثم ذكر (ثانيًا) اتفاق الناس على صحتها ثم ناقض هذا (ثالثًا) بنقله طعن
الفهرست في شعرها. ثم ناقض (رابعًا) ما ادعاه أولاً من كون السيرتين واحدة
بقوله في ابن هشام (وهو الذي روى سيرة النبي من المغازي والسير (كذا) لابن
إسحق وهذبها ولخصها) وقوله بعدُ: في ترجمة ابن إسحق (ومن كتبه في المغازي
أخذ عبد الملك السيرة)
ثم ناقض (خامسًا) جميع ما تقدم بقوله (وأما النسخة الأصلية رواية ابن
إسحق فالمظنون أن منها نسخة في مكتبة كوبريلي.. . إلخ إلخ.
والحقيقة أن سيرة ابن إسحق سيرة كبيرة مستقلة عن سيرة ابن هشام وهي
التي يطعن في شعرها ولم يتفق على صحتها. وأن ابن هشام لم يكن هو الراوي
لهذه السيرة بل لخص سيرته النبوية من سيرة ابن إسحق وغيرها من كتبه في
المغازي بحذف الأخبار الضعيفة والأشعار المطعون فيها، وهي المتفق على
صحتها. وإذا لاحظنا أن بين وفاة ابن إسحق ووفاة ابن هشام أكثر من ستين سنة وأن
أكثر حياة ابن إسحق كانت في المدينة وأكثر حياة ابن هشام في مصر ينجلي ما
قلناه فوق ما تقدم.
***
الدعوى بلا دليل
للمؤلف دعاوى عريضة لم يقم عليها برهانًا بل ألقاها على عواهنها يضل فيها
الناشئ ويعجب منها الشادي. فمن ذلك:
(١) ادعاؤه أو نقله عمن يدعي في صفحة ٤٣ أن الخيال الشعري لا يزال
في مكانه لم يترق عما كان عليه منذ القدم بالرغم من ترقي الجنس البشري في كل
شيء، وأن الشعر العربي له شأن خاص في أسلوبه فقط. ثم ناقض ذلك بعد سطر
واحد بقوله في ترقي الشعر الإسلامي (فضلاً عن تأثير الأحوال الاجتماعية على
الخيال الشعري ولا سيما الانتقال من البداوة إلى الحضارة) ثم عقده فصلاً كاملاً
عنونه هكذا:
(٢ - المعاني الجديدة باتساع الخيال إلخ إلخ) ثم فصل آخر عنونه هكذا:
(٣ - المعاني الجديدة بالاقتباس) (أي الاقتباس من العلوم الأجنبية) .
وقال في أول هذا الفصل:
(تلك معانٍ شعرية اقتضاها وسع الخيال بالحضارة إلخ إلخ) .
(٢) ومن الدعاوى بلا دليل دعوى المؤلف (ص ١٠٧) أن ابن قتيبة أول
من تجرأ على النقد الأدبي فألف في أكثر فنون الأدب المعروفة إلخ إلخ.
يقصد المؤلف بهذا نبذة صغيرة ذكرها ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر
والشعراء، فإن أراد المؤلف أنه أول من كتب في نقد الشعر فليس بصحيح إذ سبقه
إلى ذلك كثير منهم محمد بن سلام الجُمحي في مقدمة كتابه (طبقات الشعراء) الذي
ذكره المؤلف في صفحة ١٠٨ عند كلامه على النسخة التي في المكتبة
الخديوية حيث قال (وتدخل في ٢١٠ صفحات تبدأ بنقد الشعر إلخ إلخ) .
وقبله ألف أبو عبيدة كتاب نقائض جرير والفرزدق، وقد ذكره المؤلف في
صفحة ١٠١ وهو نوع من نقد الشعر. وإن أراد المؤلف أنه أول من لفت الناس
إلى فساد طريقة القدماء في بكاء الأطلال ووصف الأظعان، فقد ناقض ذلك بقوله في
صفحة ٤٣: (وأصبح حديث الشعراء في مجالسهم انتقاد تلك الطريقة. وأقدم ما
بلغنا من هذا القبيل اجتماع مطيع بن إياس بفتى من أهل الكوفة ففاوضه بشأن ذلك)
ثم نقل عنه شعرًا يعيب فيه على المتقدمين ونقل عن أبي نواس كثيرًا من الشعر
ينعي به على هذه الطريقة، وادعى أن أبا العتاهية قلد في ذلك أبا نواس وهما فحلا
الشعر المتعاصران فمن يا تُرى قلد منهما الآخر؟ كما ادَّعى أن أبا نواس قلد
الحسن بن الضحاك في وصف الغلمان، والمؤلف معذور في كل هذا فقد نقل مقالة
الشعر برمتها صحيحها وفاسدها من كتاب (التاريخ الأدبي للعرب) لنيكلسن
الإنكليزي وكتاب بروكلمان وتلك الأغلاط مدونة فيهما.
(٣) ومن دعاوى المؤلف في صفحة ٤٩ أن الشعر في العصر الأول من
بني العباس قد بطل استعماله في العصبية كما بطل استدناء الخلفاء للشعراء بسبب
انتصارهم لفريق على فريق.
والحقيقة أن الشعر بقي يستعمل في العصبية طول العصر الأول العباسي
وبعض العصر الثاني، ولأبي نواس ومسلم بن الوليد ودعبل الخزاعي قصائد
طنانة في الانتصار لليمانية على المضرية، بل قد فتح الخلفاء العباسيون في
العصبية بابًا شرًّا من عصبية القبائل وهو تفضيل العباسيين على الطالبيين، ومن
شعرائهم في ذلك مروان بن أبي حفصة ومنصور النمري وعلي بن الجهم وتصدى
للرد على هؤلاء كثير من متعصبي الشيعة كالسيد الحميري ودعبل وديك الجن
وغيرهم.
(٤) ومن دعاوى المؤلف في صفحة ٥١ قوله (ولم يكن للشاعر العربي بدّ
من الرحلة إلى بلاد العرب لاقتباس أساليبهم) .
فليقل لنا المؤلف ما هي رحلات أبي نواس ومسلم والحسن بن الضحاك
ومطيع بن إياس وحماد عجرد وأبان اللاحقي إلى بادية العرب؟ إن الرحلة إلى
بلاد العرب كانت خاصة بالعلماء ورواة الأدب واللغة مثل والخليل الأصمعي وأبي
عبيدة وأبي زيد والكسائي وكان هؤلاء يسمون في اصطلاح قدماء المؤلفين أدباء
فاشتبهت على المؤلف هذه التسمية إذ هو يعرف أن الشعراء أدباء أيضًا.
(٥) ومن دعاوى المؤلف زعمه أن جوقة الفسق التي ألفها الجاحظ من
حماد عجرد وحماد الراوية وابن الزبرقان وبشار بن بُرد ومطيع بن إياس
ووالبة وبقية من ذكرهم كانوا ينظرون إلى الدنيا من وجهها الأسود. قال في صفحة
٥١ بعد أن ذكر كثيرًا من هؤلاء المجان والمتزندقة: (وكان هؤلاء المتفلسفون
ينظرون إلى الدنيا من وجهها الأسود فلا يرون فيها حسنًا ولا يعترفون لأحد بفضيلة
نحو من يعبر عنهم الإفرنج بالبسينست) واستدل على هذه الدعوى بحادثة تنطبق
على الاستهتار والمجون أكثر مما تنطبق على الفلسفة قال:
(ذكروا أن مطيع بن إياس مر بيحيى بن زياد وحماد الرواية وهما
يتحادثان فقال (فيما أنتما؟) (كذا) قالا: (في قذف المحصنات) قال (أو في
الأرض محصنة تقذفانها؟ ويدل هذا من جهة أخرى على رأيهم في المرأة) أقول:
إن صح هذا القول فهو لا يدل إلا على اعتقاد مطيع وحده! بدليل أن يحيى وحمادًا
يعتقدان أنهما يقذفان المحصنات لا الفاجرات إذ أجاباه عند سؤاله لهما بذلك وبالأولى
يخرج عن هذا الاعتقاد من لم يحضر القصة من بقية القوم. وبعد فأي لزوم بين
كلمة هذا الخليع الماجن وبين مبدأ أصحاب هذا المذهب؟ على أن المؤلف أفاض
في وصف هؤلاء بأنهم كانوا منكبين على الشراب والمنادمة لا يكادون يفترقون
وكانت أموالهم شركة بينهم. فقوم عكفوا على الملاذّ واللهو والطرب والمنادمة
ومواساة بعضهم بعضًا ينظرون إلى الدنيا من وجهها الأسود؟ ألا إن من ينظر إليها
من وجهها الأبيض بعد هؤلاء لقليل.
(٦) ومن دعاوى المؤلف قوله في حالة الشعر في العصر الثاني صفحة
١٥٧ (٤ نبغت طبقة من الكتاب انتقدوا الشعر وروايته وكانوا يفعلونه في العصر
السابق بلا تمحيص (كذا) فصاروا في هذا العصر ينظرون فيه ويتدبرون معانيه
وأساليبه بعين النقد ولا سيما بعد إطلاعهم على ترجمة أرسطو في نقد الشعر) .
أقول: أكبر النقدة باعتراف المؤلف هما ابن قتيبة ومحمد بن سلام وهما ممن
ينعي على المتفلسفين ويضلل من ينظر في كتب الفلسفة. ومن قرأ كتبهم شهيد بذلك.
(٧) دعوى المؤلف أن ابن المقفع كان يعرف اليونانية جيدًا ولم تر في
كتب الأدب والتاريخ من ذكر هذا غير مؤلفنا في هذا الكتاب وفي كتابه (التمدن
الإسلامي) الذي نقل معظم الجزء الثالث منه في كتابه هذا، وإذا تفضل حضرته
علينا بمصدر هذه الدعوى كنا لحضرته من الشاكرين.
وإذا لم يكن لهذه الدعوى أصل، فربما توهم المؤلف من قولهم أن ابن المقفع
ترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرميناس. وكتاب أنالوطيفا أنه نقلها عن اليونانية. والحقيقة أن هذه الكتب وغيرها
من كتب اليونانية وترجمت في زمن أنو شروان إلى الفارسية، ولا ينكر المؤلف ذلك
فنقلها ابن المقفع من الفارسية كما نقل غيرها مما تراجمه قبل إلى الفارسية.
(٨) ومن دعاوى المؤلف قوله في صفحة ١٣١ في ترجمة ابن المقفع أنه
اختص بالمنصور وكتب له. والكتب التي ترجمت لابن المقفع ليس فيها شيء من
ذلك والدارس لأحوال خدمة ابن المقفع وتصرفه إلى أن قُتل لا يجد من بينها زمنًا
خدم فيه المنصور بالكتابة في ديوانه، وإنما كان منقطعًا إلى أعماله بالبصرة حتى
مات بها.
والذي أراه أن هذه العبارة (ثم اختص بالمنصور وكتب له) أخطأ المؤلف
نقلَها من عبارة ابن خلكان، وهي بنصها:
(وهو من أهل فارس وكان مجوسيًّا فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح
والمنصور الخليفتين الأولين من خلفاء بني العباس، ثم كتب له واختص به)
فالضمير في (كتب له واختص به) يعود حتمًا على عيسى بن علي لا على
المنصور وحده إذ هو مذكور مع أخيه السفاح، ووصف معه بوصف المُثنى وإلا
فلمَ نتحكم بعود الضمير على المنصور لا على السفاح؟
(٩) ومن دعاوى المؤلف في صفحة ٢٠٧ في الكلام على طريقة أبي
الحسن الأشعري في علم الكلام أن الناس عولوا على رأيه لما فيه من التسوية بين
سائر الأراء.
فكيف يعقل أن مذهبًا يسوي بين آراء كل الطوائف وفيهم من يناقض مذهبه
مذهب الآخر، وغاية الأمر أنه اعتدل بين مذهبي المعتزلة والسلفية من أهل السنة.
(١٠) ومن دعاوى المؤلف قوله في صفحة ١٠١ عن المتوكل الخليفة
العباسي (أنه أهلك جماعة من العلماء وحط مراتبهم وعادى العلم وأهله) فمن أين
للمؤلف هذا الكلام؟ ولو كنا كغيرنا ممن يحمل كلام المؤلف على سوء النية لأطلنا
في هذا المقام بما لا يحمده. وكل هذه الغارة من جراء أن المتوكل رفع الفتنة بخلق
القرآن ونهى الناس عن الجدل فيها بعد أن أنهكت دينهم وأخلاقهم وأنه أمر أهل
الذمة بلبس شارات تميز زيهم وأنه صادر بختيشوع الطبيب وبعض الكتاب لخيانة
ظهرت له منهم.
(١١) ومن دعاوى المؤلف أن الإنشاء في العصر الثالث العباسي قد صار
له طريقة خاصة (سماها مدرسية) ! ! أو سماها (كلاسيك) أخذًا من اصطلاح
الإفرنج، ثم أخذ يسرد شروطًا للإنشاء المدرسي بلغت نحو عشرة شروط جعلها
خاصة بإنشاء هذا العصر. والمتتبع لها يجد أن أكثرها لا يختص بعصر دون
عصر وأن أغلبها أمور طبيعية أو عادية في كل زمان، ومن يريد أن يتحقق ذلك
فليراجعها في كتابه إن شاء.
(١٢) ومن دعاوى المؤلف زعمه أن العرب نقلت محاضراتها عن اليونان
ولا بأس بإيراد هذا الفصل من الكتاب تفكهة للقراء. قال المؤلف:
(المحاضرات: هي علم من علوم الأدب تحصل بها الملكة على إيراد كلام
الغير بما يناسب المقام. وفائدته الاحتراز عن الخطأ في تطبيق الكلام المنقول عن
الغير على المقام حسب اقتضاء المخاطبة من جهة معانيه الأصلية. وهو من
الفنون الأجنبية يقال: إن مخترعه رجل من اليونان (لعله يريد أيسوب صاحب
الحكايات الجغرافية الجارية على ألسنة الحيوان وغيره) قبل القرن الثالث
للميلاد، وقد أخذه العرب في جملة ما أخذوه عن الأعاجم في خلافة أبي جعفر
المنصور على يد عبد الله بن المقفع عندما ترجم كليلة ودمنة من الفارسية إلى
العربية فكانت ترجمته هذه أساسًا لهذا الفن لكنه لم ينضج إلا في العصر الثالث الذي
نحن في صدده. وأشهر من ألف فيه ابن حيان (كذا) التوحيدي المتوفى سنة
٤٠٠ ألَّف كتابًا أسماه المحاضرات والمناظرات، وقد تقدم ذكر كتاب
الشريف المرتضي في هذا الموضوع. وأشهر ما بأيدينا من كتب المحاضرات
كتاب (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء) لأبي القاسم الراغب
الأصبهاني وسيأتي ذكره) .
فإذا تأملت أيها القارئ الكريم في هذا الفصل تجد أن المؤلف نقل تعريف
المحاضرات وفائدتها وهو بهذا التعريف فن عربي بحت كان يطلق قديمًا على عدة
علوم من أنواع التاريخ والأخبار والنوادر والشعر وهو كان بضاعة الأدباء والندمان
عند الخلفاء، ومنه كامل المبرد وأمالي القالي وكثير من كتب الجاحظ وأبي حنيفة
الدينوري وأبي زيد البلخي وسهل بن هارون والعتابي.
ومن أفضل كتبه العقد الفريد لابن عبد ربه، وتسميته بالمحاضرات هي تسمية
خاصة متأخرة وإلا فهو فرع من فروع الأدب، فكيف يكون مخترعه يونانيًّا وهو
بحسب التعريف السابق ضروري في كل أمة.
وإنما يصح أن يكون أيسوب واضع الحكايات الخرافية. مع أن الهنود سبقوه
إلى ذلك بل أثبت علماء الآثار أخيرًا أن أسبق الناس لوضع الحكايات الخرافية هم
قدماء المصريين ثم نقلها عنهم اليونان، وأن أيسوب اليوناني هو نفسه خرافي لا
حقيقة له.
والفصل المذكور على ما يرى القارئ يتضارب بعضه مع بعض فضلاً عن
تحريف اسم أبي حيان التوحيدي فيه (بابن حيان) وفي الكتاب كثير من هذا القبيل.
(١٣) ومن دعاوى المؤلف أن كتب السيرافي لم يصلنا منها شيء وعد منها
كتاب النحويين البصريين. والكتاب في دار الكتب الخديوية في نسخة قديمة وأظنها
في كتب الشنقيطي.
(يتلى)
((يتبع بمقال تالٍ))