الباب الثاني (الولد) (١٤) من هيلانة إلى أراسم في ٢٠ سبتمبر سنة ١٨٥ إخالني فهمت طريقتك في تربية النفس وأراني مرتاعة من عظم العمل المعهود إليَّ به والصعوبات التي تعترضني في سبيل إتمامه لأن أمر الطفل بفعل ما يجب عليه فعله أهون بكثير من تصفح الأشياء لإيجاد ما يبعثه منها إلى صالح الأعمال على أني سأحاول العمل على هذه الطريقة فإني على يقين تام من أن الكلام والنصائح والمواعظ لا تكفي لتهذيب الطبع وتقويمه بل إني قد وصلت من هذا اليقين إلى حد أن أحدث نفسي بأن في التبكير بتلقين الطفل بعض المواعظ وإيداعها ذاكرته حطًّا من شأنها ونقصًا من قيمتها مهما كانت حسنة مفيدة فإنه يسهل عليه بذلك الاعتياد على تلمس الفضيلة من الكلام واعتبار الوجدان أستاذ مدرسة. على أني إلى الآن لم أبلغ مع (أميل) هذه الدرجة فإنني لو كلمته في علم الأخلاق لألفيته بلا شك في غاية العجز عن فهم ما أقوله ولكنه على صغره له دين كما يدل عليه اتخاذه اللُّعب التي يعطاها آلهة يخصصها بفرط محبته، ومزيد عنايته فلو أني أردت من الآن تغيير الأحوال المقارنة لسنِّه، وفطرته في بضع سنين لأضعت وقتي عبثًا , ولما نجحت إلا في تبديل تماثيله بأوثان أخرى. لا تزال عواطف (أميل) في غاية القصور كما رأيت فأصبت في رأيك. على أن للأطفال مهما كانوا صغارًا حاسة عجيبة يفرقون بها بين الصحيح من أنواع ميل الناس إليهم وعطفهم عليهم والمموه منها فهم يحبون من يحبهم وقلما ينخدعون بضروب الرياء والاستمالة وأنواع التدليل والملاطفة , ومما يشهد لذلك أني في معظم أوقات زيارتي للسيدة وارنجتون ألاقي عندها امرأة ترملت في شبابها وهي تزعم أنها تعشق الأولاد عشقًا وتقول: لِمَ لمْ يهب لي الله (سبحانه) ولو ولدًا واحدًا وتدعي أنها كلما فكرت في ذلك كاد يغمى عليها , ولكني في ريب من أن قلبها كقلوب الأمهات؛ لأن (أميل) لا يطيق النظر إليها. لا مناص لنا من الانفعال بما يحيط بنا من المؤثرات الخارجية كما تقول , وإلا فما السر في أنني أحب التنزه في طريق مخصوص كلما تلقيت مكتوبًا من مكاتيبك , وكيف أن بعض الأشجار يجذبني إليه ويدعوني إلى تفيئه والجلوس تحته في حال ثوران أشجاني خاصة وبماذا أفسر ما أجده من الارتباط بين رؤيتي لصخرة وما أحس به إذ ذاك من نقص في عزمي ووهن في ثباتي , فلا شيء يطابق جميع حالات النفس ويلائمها سوى البحر على ما أرى اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))