للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


لعن معاوية والترضي عنه
وفيه حكم اللعن مطلقًا

(س ٣٢) ومنه: سيدي، قال لي أحد العلماء: إن من يلعن معاوية أقل
خطرًا ممن يترضى عنه، ولقصور علمي لم أحر جوابًا فهل هو مصيب فيما قال أم
مخطئ؟ أفيدونا على صفحات المنار لا زلتم مؤيدين وبعين العناية ملحوظين.
(ج) هو مخطئ بلا شبهة، فالدعاء بالخير- ومنه الترضي- من البر إلا
من قام عنده دليل قطعي على أن فلانًا مات كافرًا بالله، وأن الله غضبان عليه،
وهذا لا يُعرف إلا بوحي من الله تعالى؛ لأن المعاصي والكفر في الحياة لا يدلان
دلالة قطعية على أن صاحبيهما ماتا عليهما؛ لأن الخاتمة مجهولة بلا خلاف بين
العلماء، ولا العقلاء، وأما اللعن فهو من السفه الذي لا ينبغي للمؤمن، وقد قال
صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالسباب ولا بالطعان ولا اللعان) قال الحافظ
العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه الترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن
مسعود وقال: حسن غريب والحاكم وصححه، ورواه غيرهم من حديثه ومن حديث
أبي هريرة مرفوعًا. وروى الترمذي من حديث ابن عمر وحسنه (المؤمن لا يكون
لعانًا) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) وورد في حظر
اللعن وذمه غير ذلك من الأحاديث، وقد جعل حجة الإسلام الغزالي اللعن على ثلاث
مراتب بحسب الصفات المقتضية للعن الأولى أن يلعن الكافرين أو المبتدعين أو
الفاسقين جملة، الثانية: أن يخص طائفة منهم كآكلي الربا من الفاسقين مثلاً،
الثالثة: لعن شخص معين من هذه الأصناف. ونذكر عبارته فيها، قال رحمه الله تعالى:
الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه خطر كقولك زيد لعنه الله، وهو
كافر أو فاسق أو مبتدع والتفصيل فيه أن كل شخص ثبت لعنته شرعًا؛ فتجوز
لعنته كقولك فرعون لعنه الله وأبو جهل لعنه الله؛ لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على
الكفر، وعرف ذلك شرعًا، أما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو
يهودي مثلاً؛ فهذا فيه خطر؛ فإنه ربما يسلم فيموت مقربًا عند الله تعالى فكيف
يحكم بكونه ملعونًا. فإن قلت يلعن لكونه كافرًا في الحال كما يقال للمسلم: رحمه
الله، لكونه مسلمًا في الحال، وإن كان يتصور فيه أن يرتد فاعلم أن معنى قولنا
رحمه الله أي ثبته على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن
يقال: ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة؛ فإن هذا سؤال للكفر، وهو في نفسه
كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر ولا لعنه الله إن مات على
الإسلام، وذلك غيب لا يدرى والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في
ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق، أو زيد المبتدع
أولى؛ فلعن الأعيان فيه خطر؛ لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك
عين قومًا باللعن فكان يقول في دعائه على قريش: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام
وعتبة بن ربيعة) وذكر جماعة قتلوا على الكفر ببدر حتى إن من لم تعلم عاقبته
كان يلعنه، فنهي عنه إذ روي أنه كان يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة في
قنوته شهرًا فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: ١٢٨) يعني أنهم ربما يسلمون، فمن أين تعلم أنهم
ملعونون؟ وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه، وجاز ذمه إن لم يكن فيه
أذى على مسلم؛ فإن كان لم يجز، كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - سأل أبا بكر - رضي الله عنه - عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال:
هذا قبر رجل كان عاتيًا على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه
عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من
أبي قحافة. فقال أبو بكر يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام، فقال صلى الله عليه وسلم (اكفف عن أبي بكر) فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال: (يا أبا
بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء) [١] فكف الناس
عن ذلك. وشرب نعيمان الخمر فحُدَّ مرات في مجلس رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه
وسلم: (لا تكن عونًا للشيطان على أخيك) وفي رواية (لا تقل هذا فإنه يحب
الله ورسوله) [٢] فنهاه عن ذلك وهذا يدل على أن لعنة فاسق بعينه غير جائزة، ففي
الأشخاص خطر، فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن
غيره. فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو أمر به، قلنا: هذا لم
يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال: إنه قتل أو أمر به ما لم يثبت فضلاً عن اللعنة؛ لأنه
لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق.
نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم عليًّا - رضي الله عنه - وقتل أبو لؤلؤة
عمر - رضي الله عنه - فإن ذلك ثبت متواترًا، فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق
وكفر من غير تحقيق. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلاً بالكفر ولا
يرميه بالفسق إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) [٣] وقال صلى الله عليه
وسلم (ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما إن كان كافرًا فهو كما قال،
وإن لم يكن كافرًا فقد كفر بتكفيره إياه) وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم،
فإن ظن أنه كافر ببدعة أو بغيرها كان مخطئًا لا كافرًا. وقال معاذ قال لي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنهاك أن تشتم مسلمًا أو تعصي إمامًا عادلاً) [٤]
والتعرض للأموات أشد، قال مسروق: دخلت على عائشة - رضي الله عنها -
فقالت: ما فعل فلان لعنه الله؟ قلت توفي قالت رحمه الله: قلت وكيف هذا، قالت:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى
ما قدموا) [٣] وقال عليه السلام (لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء) [٥] وقال
عليه السلام (أيها الناس احفظوني في أصحابي، وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم
أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيرًا) [٦] .
فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه
الله؟ قلنا: الصواب أن قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله؛ لأنه يحتمل أن
يموت بعد التوبة، فإن وحشيًّا قاتل حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر، والقتل جميعًا، ولا يجوز أن يلعن، والقتل
كبيرة، ولا يجوز أن تنتهي إلى رتبة الكفر؛ فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه
خطر.
وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة، إطلاق اللسان بها، والمؤمن ليس
بلعان، فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على
الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى
فإن لم يكن ففي السكوت سلامة. وقال مكي بن إبراهيم كنا عند ابن عون فذكروا
بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن
عون إنما نذكره لما ارتكبه منك [٧] فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم
القيامة لا إله إلا الله، ولعن الله فلانًا، فلأن يخرج من صحيفتي (لا إله إلا الله)
أحب إلي من أن يخرج منها (لعن الله فلانًا) وقال رجل لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أوصني فقال: (أوصيك أن لا تكون لعانًا) [٨] وقال ابن عمر: إن
أبغض الناس إلى الله كل طعَّانٍ لعان. وقال بعضهم: (لعن المؤمن كعدل قتله)
قال حماد بن زيد: لو قلت إنه مرفوع لم أبال [٩] وعن أبي قتادة قال: (كان يقال من
لعن مؤمنًا فهو مثل أن يقتله) وقد نقل ذلك مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم [١٠]- ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر، حتى الدعاء على الظالم
كقول الإنسان مثلاً: لا صحح الله جسمه، ولا سلمه الله، وما يجري مجراه فإن
ذلك مذموم. وفي الخبر (إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم
عنده فضلة يوم القيامة) .ا. هـ ما كتبه الغزالي.
(المنار)
قد أوردت كل هذا؛ ليعلم القارئ أن السنة الرجيحة، والأحاديث الصحيحة
وسيرة السلف الصالحين، وفقه أئمة الدين، كل ذلك ينهي المؤمن عن اللعن الذي
يتساهل فيه أهل الأهواء من السفهاء، وما أحسن قول حجة الإسلام: (في
لعن الأشخاص خطر، ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره)
أي فإن الله تعالى - وإن لعنه- لم يكلفنا لعنه، وأكبر العبر للمؤمن فيما تقدم تأديب
الله تعالى نبيه؛ إذ أنزل عليه حين طفق يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة {لَيْسَ
لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:
١٢٨) وأصحاب بئر معونة سبعون رجلاً من القراء، بعثهم النبي ليعلموا الناس
القرآن، فقتلهم عامر بن الطفيل وأصحابه. وروى أحمد والشيخان والترمذي
والنسائي وابن جرير وغيرهم من حديث أنس أن الآية نزلت يوم أُحد حين كسر
المشركون رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - وشجوا وجهه، وفي حديث ابن
عمر عند أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير أنه - صلى الله عليه وسلم
- قال يوم أُحد (اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم
العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية) فنزلت الآية وهي على هذا أكبر
عبرة وأعلى تهذيبًا.
هذا وإن السواد الأعظم من المسلمين يعدون سب معاوية ولعنه من الكبائر،
ويرمون سابه بالرفض والابتداع، وإن السني من المسلمين ليعادي الشيعي على
سب معاوية وأبي سفيان بل الخلفاء الثلاثة ويعادي الخارجي على سب عثمان
وعليّ ما لا يعادي غيرهما على ترك فريضة من الفرائض، أو ارتكاب فاحشة من
الفواحش، فهذا الطعن في عظماء الصحابة وحملة الدين الأولين لو كان جائزًا في
نفسه لكفى في تحريمه ما يترتب عليه من زيادة التفريق بين أهل القبلة، وتمكين
العداوة والبغضاء في قلوبهم حتى يكفر بعضهم بعضًا. لهذا لا أبالي أن أقول لو
اطلع مطلع على الغيب فعلم أن معاوية مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه.
فما قاله ذلك الرجل للسائل مردود لا قيمة له وهو دالّ على أنه جاهل يفتي بغير علم
بل بمحض الهوى.
(استدراك)
علم مما تقدم عن الغزالي أنه لا يجوز لعن كافر، ولا فاسق حي، وأن هذا
خطر لما يتضمن من الرضا بموته على كفره أو فسوقه، ولا لعن ميت؛ لأن
الخاتمة مجهولة لا تعرف إلا بوحي من الله، وأن لعن الفساق والكفار عامة أو لعن
صِنْف معين منهم في الجملة جائز، ولكنه غير محمود شرعًا، والأولى أن
يستبدل الإنسان بذلك اللعن ذكر الله، أو الكلام في الخير. وأقول إن جواز لعن
الصنف أو النوع بمعنى عدم تحريمه مقيد بما إذا لم يكن سبًّا لهم في وجوههم؛ لأن
السب محرم في ذاته؛ لأنه بذاء مذموم وسبب للشحناء والعدوان، وقد نهى الله
تعالى عن سب معبودات المشركين، لئلا يسبوا معبود المؤمنين، فقال في سورة
الأنعام: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: ١٠٨) ولا يخفى أن حرمة الكتابي أعظم من حرمة المشرك واتقاء
تنفيره أهم، وأن إيذاءه إذا كان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا محرم بالإجماع، وأنه لا
يصح أن يجعل لعن الفاسقين ذريعة إلى تنفيرهم عن فسقهم، كأن يحضر مجلس
السكارى ويلعن شاربي الخمر على مسمع منهم؛ لأن الإرشاد يجب أن يكون
بالمعروف واللين؛ هذا وإن لعن صنف من الكفار أو الفساق في حضرة أفراد
من الصنف هو بمثابة لعن الأشخاص فهو معصيتان؛ لأنه سب علني من جهة،
ولعن لأشخاص معينين من جهة أخرى.
فعليك أيها المؤمن أن تحفظ ما بين فكيك؛ فإنه (لا يكب الناس في النار على
وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) كما ورد في الحديث الصحيح عند الترمذي وابن
ماجه، ولا تغتر ببعض حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، إذا رأيتهم يلعنون
الأحياء والأموات ويكفرون المسلمين، ويبرزون خروجهم عن هدى الدين في
معرض الدفاع عن الدين، فأولئك ليس لهم حظ من هدى الإسلام، ولا من علم غير
الثرثرة والتشدق في الكلام، وقد روى أحمد، من حديث أبي ثعلبة أن النبي -
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - قال: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا
الثرثارون المتفيهقون المتشدقون في الكلام) ومثله عند الترمذي من حديث جابر وله
نظائر. ومن علامات هؤلاء السفهاء أن لهم في كل مجلس لسانًا ومع كل مخاطب
وجهًا، فهم المنافقون، هنا يذمون، وهنالك يمدحون، وهم على الناس شر من
المبتدعة، وأهل الأهواء الذين يلعنون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛
لأن هؤلاء يغتر بهم العوام ما يغترون بأولئك. وشرهم الحساد الذين ينفرون الناس
عن الحكماء المصلحين، ويخوضون في أعراض العلماء العاملين {وَعَلَى اللَّهِ
قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: ٩) .