للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رواية اليتيم
إن قراءة القصص المعروفة (بالروايات) من أنجح الذرائع في نشر الأفكار
الصحيحة بين جميع طبقات القرّاء، ومن أكبر وسائل التهذيب. ولها الشأن العظيم
في البلاد المتمدنة. وقد انتشرت الروايات بيننا باللغة العربية، ما بين منشأة
ومعرَّبة، لكن أكثرها غرامي، يشرح أحوال العشاق، ويبين طرقهم ومذاهبهم،
بحيث لا يكاد يلتفت القارئ لما عساه يوجد في الرواية من الفوائد التي وراء ذلك،
لا سيما إذا كان في سن الصبا، ولسنا الآن بصدد شرح فوائد الروايات وبيان
مساوئها ونسبة ما عندنا منها لما في البلاد المتمدنة، فنؤجل ذلك لفرصة أخرى،
ونكتفي الآن بأن نقول: إن أفضل موضوع تؤلف فيه الروايات هو ما ينبه الشبان -
عمومًا - وتلامذة المدارس - بوجه خاص - على حب بلادهم وأوطانهم، وجعل
غرضهم من حياتهم خدمة مِلَّتهم وأمتهم على الوجه الذي تقتضيه حالة العصر،
ويبين لهم أن ذلك لا يتم إلا بالتمسك بالأعمال والفضائل التي يوجبها الدين، ومعرفة
الفنون التي عليها مدار المدنية الصحيحة. وقد أهدانا الشاب المهذب أحمد حافظ
أفندي عوض الدمنهوري رواية من تأليفه سماها: (رواية اليتيم) أو: (ترجمة
حياة شاب مصري) ، تدخل في هذا الموضوع الشريف الذي ذكرناه، ويظهر من
كلامه أنها قصة واقعية لا مخترعة. ولا بُعْد في ذلك، فقد تصفحناها فلم نر فيها ما
يستبعد وقوعه، إلا ما كان من حال عشق الفتى (المترجم) لبنت جاره وصديق
والده، فإنه ذكر أنهما كانا يجتمعان في حديقة الدار منفردين يتشاكيان الغرام،
ويعرف باجتماعهما والدا الفتاة ويرضيان به، بل كان الفتى يجلس مع الفتاة ووالديها
على المائدة، مع أنه يصف أهل بيته وبيت الفتاة بالاعتصام بالدين والتمسك بالعوائد
الإسلامية. وأستبعد أن يكون التهاون في الحجاب سرى في هذه الطبقة (التي
وصفها في الرواية) من المصريين إلى ذلك الحد. إلا أن يقال: إن هذه الواقعة
نادرة، وإن إرخاء العِنان للفتيان من والديهما كان سببه ثقتهما بحسن تربيتهما، فقد
نشآ من سن الطفولية معًا كأخوين. ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
ومما تفضُل به هذه الرواية كثيرًا من الروايات المتداولة أن ما يذكره فيها من
الغرام لا يخرج عن حدود الأدب والعفاف والنزاهة والشهامة. وأكثر وقائع الرواية
حوادث محزنة وفجائع مشجية، ينفطر لها القلب الرقيق، وتنهمل من تصورها
العبرات، ومن أحسن ما جاء فيها من التنبيهات المفيدة قوله في وصف حالة أبناء
المدارس الخارجية (الذين يقيمون خارج المدرسة) ما نصه: (وجدنا أغلبهم - إن
لم نقل جميعهم - فاسدي الأخلاق، وذلك من عدم انشغالهم بالدروس، بل بأشياء
أخرى، وخصوصًا الذين يأتون من البلاد خارج القاهرة فإنهم لعدم وجود من يقوم
بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من جهة المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مُضرّة
بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهر أو شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم
وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل،
يقود المرء إلى كل منكر وفاسد، هذا فضلاً عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه
بأصول الدين الذي هو أس الفضائل يجعل الشبان لا يعبأون بالآداب، ويرتكبون
المحرمات ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم
وإخوانهم؛ ليكونوا مجموعًا يدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مزج
التعليم بالآداب والفضائل) .
وقوله في الشبان الذين يرجى بتعلمهم رفعة الوطن، وإعلاء مناره (وذلك من
جملة وصية ونصيحة) : (ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي
ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من
وهدة الدمار والانحطاط. فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون
لصالحها، كما يسعون لصالح أنفسهم، مُتّحدين مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق
بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم،
وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛
لتقوّم بكم ما اعوجّ من أمورها فكونوا معها لا عليها) .
وقوله في وصية أخرى: (إن تقدم بلادكم مرتبط بكم وأنتم زهرة مصر،
فانشروا رائحتها الذكية، يشمها القاصي والداني، ولا تتكاسلوا أو تتهاونوا في أمرها
استخفافًا بأنفسكم أو استصغارًا لقدركم. ولا أخالكم إلا تعرفون عن شبان أوروبا ما
أعرفه وزيادة، وليكن في علمكم أن تأخر بلادكم تُسألون عنه كما يُسأل أكبر الكبراء،
وأثرى الأغنياء، وأفقر الفقراء، والقوي والضعيف، فكونوا في أمتكم بمثابة
الخطباء المذكرين بمجد أجدادهم، حاثّين على اتباع الفضائل ونفي الرذائل، وبذلك
تقوى عصبيتكم، وتجدون من أهل بلادكم من ينشّطكم على أعمالكم، فأنتم أحوج
إلى التعاون والتضافر منه إلى الشقاق والتنافر، ولا تفرَّقوا فتذهَبَ ريحكم، ودونكم
تاريخ الأندلس وكيف تفرَّقوا شذَرَ مذَرَ، كأن القوم ما كانوا، حين انقسموا طوائفَ
طوائفَ ودبت فيهم روح حب الرئاسة، وتركوا الدين وراء ظهورهم، ففتك بهم
الغير بما تشق له المرائر، وتفتت الأكبدة، وانظروا إلى كتب الفرنساويين الابتدائية
كيف أنهم يكتبون أول جملة فيها: (الإلزاس واللورين أخذتها ألمانيا. يجب على
كل فرنساوي أن يردها إلى بلاده) . ومثل ذلك من العبارات الوطنية ليغرسوا في
قلوب الناشئين حب بلادهم، والسعي وراء الحصول على ما أخذ من حقوقهم.
وانظروا إلى الأمم التي نجحت في رفع شأنها، ولا تستبعدوا الطريق فمن جَدّ وَجَدَ،
ومن لَجَّ وَلَجَ، ومن سار على الدرب وصل) .
وقوله في الانتقاد على تلامذة المدارس وبيان مغامزهم: (لا يعرفون
للمنتديات العلمية فائدة، ولا يقبلون على الجمعيات الأدبية، ولا يعرفون إلا اليسير
عن جغرافية بلادهم، حتى يضعها الغريب أمام أعينهم، وهذا ما يجعلني أعتقد أن
السفر إلى الخارج بالنسبة للشبان المصريين لا يفيد الأمة، فالأَوْلى أنهم يتجولون في
بلادهم لا لكي ينظروا الآثارات فقط، بل لكي يعرفوا القرى وعوائد الفلاح المصري
في الوجهين القبلي والبحري، ليكونوا على بصيرة من أحوال أمتهم، ودرجتها في
الهيئة الاجتماعية، والعالم المتمدن، ليضعوا أمام أعينهم رفع شأنها بالطرق المفيدة
لها، وأنا أؤكد لك أن بعض الشبان الذين حازوا الشهادات العالية في المدارس لا
يعرفون كيف يُزرع القمح، ولا القطن، بل لا يعرفون محصولات بلادهم، ونحو
ذلك، مع أنك لو سألته عن محصولات مملكة أجنبية لذكرها لك، وعَدَّد لك شهرة
كل مدينة، وتِعداد أهلها، وإذا رأى فلاحًا مصريًّا هزأ به وظنه بهيمًا، مع أن ذلك
الفلاح العاري الصدر والرجلين هو عماد البلاد، ومنه تتكون معظم الأمة المصرية،
حتى إن بعض هؤلاء الشبان يظن أن الأمة المصرية هي الفئة التي تجلس على
القهاوي تدخن النرجيلة، وتلعب النرْد والشِّطْرَنج والورق وتقرأ الجرائد وتتكلم في
السياسة، لكن مع ذلك فأنا أبشر حضرتكم أن الوقت أخذ في التحول، وأن بعض
الشبان عرفوا واجب بلادهم وتولد عندهم حب العمل والنشاط، اقتداء بأميرهم،
والناس على دين ملوكهم) . اهـ.
فنحثّ الكتبة على إنشاء الروايات في هذا الموضوع المفيد، وعسى أن
يواصل مؤلفها الأديب الجري في هذا المضمار، مع مراعاة حسن السبك وسلامة
العبارة مع سلاستها التي هي فيها، فما أجدر المعنى الصحيح، بالأسلوب الفصيح،
ونرجو أن يقبل القراء على روايته فينشطوه على متابعة العمل، فبالعمل يحقق كل
أمل. اهـ من العدد السابع.