للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيعة وتعدد الزوجات

كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليه ورحمة الله وبركاته، كتاب
معجب بِمَا لَهُ من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة، ورفع (منار) الإسلام،
وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لابد
للجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو، فقد رأيت في الجزء الثامن من مناركم
(صفحة ٥٩١) ما يشعر بالنسبة إلى الشيعة ما هم منه براء، وما نسبة ذلك إليهم
إلا محض وهم وافتراء، وهي أنهم يجوزون الزواج الدائم بأكثر من أربع؛
لأنهم أوَّلوا الآية الكريمة بخلاف ظاهرها، وفهموا منها ما لم يفهمه سائر
المسلمين، بل ادعيتم إجماعهم على ذلك، مع أن إجماعهم على عدم حل التزوج
بأكثر من أربع كما ستعلم.
ولما قرأت ما كتبتموه عجبت أشد العجب؛ لعلمي بعدم صحة ما نسب لهم،
قلت: لعلي لم أطلع تمام الاطلاع على دخيلة الأمر، فعرضت ذلك على فريق
من علماء الشيعة، فاستنكروا ما عزي إليهم غاية الاستنكار، وعجبوا كيف يصدر
هذا الخطأ من فاضل نظير صاحب المنار، ثم استحضرت الكتب الفقهية التي
عليها اعتماد الطائفة الشيعية؛ لعلي أعثر لذلك على أثر، أو أقف له على خبر، فلم
أجد ضالتي المنشودة، بل وجدت خلافها، وها أنا أنقل لكم عباراتهم بالحرف
الواحد؛ لتعلموا صدق ما أقول، وتكونوا على بينة من الأمر، وتزيلوا هذا
الغشاء عن البصائر والأبصار.
قال في تذكرة الفقهاء لمؤلفها الحسن بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة،
وهو من أعظم علماء الشيعة وأجلهم قدرًا، عاش في القرن السابع والثامن ما نصه:
(مسألة أجمع علماء الأمصار في جميع الأزمان والأقطار على أنه يجوز
للحر المسلم أن يتزوج بالعقد الدائم أربع حرائر، ولا يجوز له الزيادة عليهن؛ لما
روي عن غيلان بن مسلمة الثقفي أنه أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) . وأسلم نوفل بن معاوية فقال له
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسك أربعًا وفارق الأخرى) ، ورواية زرارة ابن
أعين ومحمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: (لا يجمع ماءه في خمس) ،
وفي الحسن عن جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام في رجل تزوج خمسًا في
عقد، قال يخلي سبيل أيهن شاء ويمسك الأربع، وحكي عن القاسم بن إبراهيم أنه
أجاز العقد على تسع، وإليه ذهبت القاسمية من الزيدية قال الشيخ رحمه الله: هذه
حكاية الفقهاء عنهم، ولم أجد أحدًا من الزيدية يعترف بذلك، بل أنكروها أصلاً
واستدلوا بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: ٣) والواو للجمع؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات عن تسع،
والواو ليست للجمع بل للتخيير، كما في قوله تعالى: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ} (فاطر: ١) ولم يرد به الجمع؛ إذ لو كان المراد الجمع لقال تسعة ولم
يكن للتطويل معنى، قال الشيخ رحمه الله: لو كان المراد الجمع لجاز الجمع بين
ثماني عشرة؛ لأن معنى قوله مثنى: اثنين اثنين، وكذلك قوله ثلاث معناه: ثلاثًا
ثلاثًا، وقوله رباع معناه: أربعًا أربعًا، كما في قوله: جاء الناس مثنى وموحدًا؛ أي:
اثنين اثنين وواحداً واحدًا، وهو باطل إجماعًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان مخصوصًا بذلك فإنه جمع بين أربع عشرة امرأة، فثبت ما قلناه) اهـ.
وجاء في اللمعة الدمشقية لمؤلفها محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول،
وشارحها زين الدين المعروف بالشهيد الثاني، وهما من أعظم علماء الشيعة، عاش
الأول في القرن الثامن، والثاني في القرن الألف، ما نصه:
(السابعة لا يجوز لحر أن يجمع زيادة على أربع حرائر، أو حرتين وأمتين
أو ثلاث حرائر وأمة، بناء على جواز نكاح الأمة بالعقد بدون الشرطين، وإلا لم
يجز الزيادة على الواحدة لانتفاء العنت معها، وقد تقدم من المصنف اختيار المنع،
ويبعد فرض بقاء الحاجة إلى الزائد عن الواحدة، ولا فرق في الأمة بين المؤمنة
والمدبرة والمكاتبة بقسميها حيث لم تؤد شيئًا وأم الولد، ولا للعبد أن يجمع أكثر من
أربع إماء، أو حرتين، أو حرة وأمتين، ولا يباح له ثلاث إماء وحرة، والحكم
في الجميع إجماعي) اهـ.
وكلا الكتابين اللذين ننقل عنهما مطبوعان في طهران عاصمة بلاد فارس،
وقال في مجمع البيان وهو التفسير المعتمد عند الشيعة في معنى الآية {فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم} (النساء: ٣) إلخ، وطريقه أن يذكر الآية أولاً ثم القراءة فالحجة
فالإعراب فالنزول فالمعنى، وهذا من جملة ما ذكره في معناها:
وقوله مثنى وثلاث ورباع معناها: اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا
فلا يقال: إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع، فإن اثنين وثلاثة وأربعة تسعة لما
ذكرناه، فإن من قال: دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع، لا يقتضي اجتماع
الأعداد في الدخول؛ ولأن لهذا العدد لفظًا موضوعًا وهو تسع، فالعدول عنه إلى
مثنى وثلاث ورباع نوع من العي، جل كلامه عن ذلك وتقدس، وقال الصادق
عليه السلام: (لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من
الحرائر) اهـ.
ولو أردنا استقصاء كلام علماء الشيعة لضاق المقام وطال الكلام، وأظن فيما
أوردناه مقنعًا، ومنه تعلم أن إجماع الشيعة على عدم حل التزوج بأكثر من أربع في
العقد الدائم، وأزيدك على هذا أني رأيت في أثناء مراجعتي للكتب الفقهية، ما لم
أكن أعهده وهو استشكال لبعض علمائهم في الزيادة على أربع، حتى في المتعة مع
أن الأكثرين منهم ذهبوا إلى عدم الحد بها.
ومن المعلوم لدى الأستاذ أن العصر عصر دليل وبرهان، فلا يجمل بصاحب
مجلة معتبرة أن يورد أمرًا لم يسبره بمسبار التحقيق، ثم يعده من المسلمات
البديهيات، وعندي أن عدم التثبت في نقل الأخبار أوصل الأمة الإسلامية
إلى هذه الحالة، وجعل كل فرقة تسيء الظن بالأخرى، وكل هذا راجع على ما
أعتقد إلى عدم مراجعة كتب الفرقة المنسوب إليها تلك المقالة التى تتبرأ منها،
والاعتماد على كتب مناظريها، فإني رأيت كثيرًا ما ينسب علماء السنة إلى الشيعة
ما يتبرأون منه، وما لم يوجد في كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ
لذلك مثالاً ما ينسبه أغلب المسلمين إلى الوهابية من المقالات الشنيعة، والاعتقادات
الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم يتبرأون منها، ولم تكن علاقتهم بها إلا كقول
الشاعر.
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو
ولا أظنكم اعتمدتم فيما كتبتم إلا على كتب أمثال ذلك (العالم الغيور) ، مع
أنكم لو أمعنتم النظر وأعملتم الفكر، لألفيتم أولئك يخبطون في بعض الأمور خبط
عشواء؛ لأنهم لا يعتمدون على المصادر الموثوقة، بل يتكلمون على السماع وهو
ما لا يجوز أن يتخذ حجة يتمسك بها، كما فعل ذاك العالم الغيور في رسالته التي
بعث بها إليكم عن أحوال العراق ونشرتموها في الجزء الأول من المجلد الحادي
عشر، وكل مطلع على أحوال العراق يقهقه ضاحكًا من عدم التثبت في أسانيدها،
والأغرب من ذلك تذييلكم لها، وقولكم: إن مجتهدي الشيعة يبيحون لأمراء العرب
التمتع بعدة نساء، مما يصادف هوى في فؤادهم، مع أن أولئك الأعراب يأنفون
أشد الأنفة من المتعة، ولا يفعلونها قطعيًّا، وهي مع حلها عند الشيعة لا ترى
عربيًا يفعلها، بل لا ترى عربية تقبل بها إلا في النادر، وربما كانت شائعة عند
الفرس لا غير، وهذا ما حمل بعض علماء الشيعة من العارفين بأحوال العراق على
الرد على ذلك العالم الغيور في مجلتنا (العرفان) ، ولما كنت أعلم منكم الإنصاف،
وأجلكم عن عدم التثبت ودعم ما تنقلونه بالدليل، مع أن مبدأكم المطالبة بالبرهان،
جئت بكتابي هذا كي تنشروه على صفحات مجلتكم الحرة؛ إحقاقًا للحق وإعلاء
لمنار الصدق، حتى إذا كان لكم دليل من كتب الشيعة على مدعاكم أتيتم به، وإني
على يقين بأنه لا يوجد بتاتًا، وبقي أمر آخر لابد من استطلاع طلائعه واستجلاء
حقيقته منكم، وهو قولكم لا يعتد بإجماع الشيعة؛ لأن المسلمين أجمعوا قبلهم،
فلعمري هذا من الغرابة بمكان؛ لأن الشيعة أقدم من بقية المذاهب المستحدثة في
الإسلام، كما يعلم ذلك كل من له مسكة من علم التاريخ، واطلاع على نشأة القوم،
وإني أنبهكم قبل ختام الكلام إلى أن كتب الشيعة أصبحت منتشرة ومطبوعًا أكثرها
في بلاد فارس والهند، والحصول عليها متيسر، فيمكنكم استجلاب شيء منها،
حتى إذا نقلتم شيئًا عنهم يكون على ثقة وتثبت والسلام.
... ... ... ... ... ٣٠ رمضان سنة ١٣٢٧
... ... ... ... ... منشئ العرفان
... ... ... ... أحمد عارف الزين
(المنار)
أُرْسِلَتْ إليَّ هذه الرسالة وأنا في سياحتي بالآستانة فأنا أعلق عليها بالإيجاز
وأنا جالس في أحد المطاعم بعد الغداء، وأبدأ كلامي بالبراءة من التعصب للمذاهب،
ثم أقول:
أشكر للكاتب بيانه وأعده له يدًا يمنها على المنار؛ إذ لا نحب أن ينشر فيه
شيء من الخطأ، ولا يعقب ببيان الصواب، ولكني أنكر عليه ما ذكره من الكلمات
الجارحة التي اعتادها الذين ينكر بعضهم على بعض انتصارًا لمذهب على مذهب،
والتشيع لقوم وإهانة آخرين، كقوله: (محض وهم وافتراء) فإن الافتراء تعمد
الكذب، ويبعد جدًّا أن يكون الذين عزوا هذا القول إلى الشيعة قد تعمدوا الكذب في
نسبته إليهم، بل لا يعقل أن يقع هذا من عاقل؛ إذ لا فائدة فيه ولا هو من المسائل
التى يرجح بها مذهب على مذهب، والخطأ في فهم آيات القرآن جائز على كل أحد،
وقد وقع من بعض الصحابة وهم أهل اللسان وشهداء البيان، وممن دونهم من
أئمة الفقه وعلماء المذاهب المنسوبون إلى السنة، كثيرًا ما يخطئ بعضهم مذهب
بعض، فنقلهم مثل ذلك القول عن الشيعة لا وجه لأن يكون من الافتراء عليهم أو
انتقاصهم لأنهم شيعة، بل لابد أن يكون له أصل، وإن لم يكن هو المعتمد في
مذهب الإمامية أو الزيدية، ونسبة الأقوال الشاذة في المذهب إلى أهل المذهب
معهود، وغاية ما يقال فيه: إن نقل المخالف لا يعتد به.
وأنت تقول: إن القاسم بن إبراهيم أجاز العقد على تسع، وإليه ذهبت القاسمية
من الزيدية, وهم من الشيعة في عرف أهل السنة. ولا يبعد أن يكون أولئك الناقلون
عن الشيعة ما ذكر قد سمعوا منهم أو قرءوا عنهم قولاً آخر من الأقوال الشاذة،
فظنوا أنه هو المعتمد في المذهب، ويكفي في بيان مثل هذا الخطأ أن يقال: إن
ما نقل عن الشيعة في مسألة كذا غير صحيح أو غير معتمد عندهم، والمعتمد هو
كذا ولا حاجة إلى مثل هذا التطويل والتهويل والتذكير بالإنصاف والدليل.
وأما القول بأنه لا يعتد بخلاف الشيعة في مسألة كذا؛ لأن المسلمين أجمعوا
قبل ذلك عليها، فلا ينقض بدعوى أن مذهب الشيعة أقدم من بقية المذاهب؛ لأن
المراد بإجماع المسلمين قبلهم هو إجماع الصحابة لا إجماع أهل المذاهب المستحدثة
أو القديمة، وجميع المذاهب حادثة في الإسلام، وقد كان الإسلام على أفضل ما
كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الصحابة والتابعين،
ولم يكن فيه مذاهب، ثم حدثت المذاهب ففرقت كلمة المسلمين، وما زادت الإسلام
إلا ضعفًا ووهنًا، ولا نبحث في قدم بعضها على بعض إلا من باب التاريخ؛ إذ لا
علاقة لذلك بالحق والباطل والخطأ والصواب، فكون مذهب المعتزلة سابقًا لمذهب
الأشعرية، لا يقتضي كونه أصح منه، وكون مذهب الجهمية متأخرًا عن مذهب
الخوارج لا يستلزم أن يكون أقرب إلى الصواب منه. ونحن نعترف بأن ذكرنا
للمذاهب أحيانًا في تفسير القرآن مخالف لمشربنا، وهو إنما يقع منا سهوًا؛ فالقرآن
فوق المذاهب كلها، ونحن لا نلتزم في تفسيره مذهبًا من المذاهب؛ لأن هذا من
تفسيره بالرأي والهوى وهو منهي عنه.
وأما ما نشرناه لذلك العالم السائح، فهو من باب النقل والناقل عدل ثقة لا شك
عندنا في عدالته، وقد يخطئ ويصدق بعض الروايات الباطلة، فينقلها بحسن
النية، ولو جاءنا رد عليه لنشرناه؛ إذ لا حَظَّ لنا غير اتباع الحق والسلام.