إن دول الاستعمار دول تجارة وكسب، فهم يفتحون الممالك لتمتيع شعوبهم بخيراتها، وتمكينهم من ثروتها، ولا ينشرون من علومهم وفنونهم في الممالك التي يفتحونها إلا المقدار الذي يسخرون به أهلها، ويستخدمونهم في استخراج تلك الثروة لهم، ويقطعون به روابطهم الاجتماعية التي تربط بعضهم ببعض، ويزيلون مقوماتهم ومشخصاتهم الملية التي يكونون بإحكامها أمة واحدة متحدة في الشعور بمصلحتها العامة. أهالي المستعمرات الأوربية يجعلون فريقين: فريق الفلاحين والفعلة الذين يقومون بالأعمال الشاقة في استخراج الأقوات والنبات والمعادن من الأرض، وفريق المالكين المترفين الذين ينفقون ما يفضل لهم عن سادتهم المستعمرين في ثمن ما يجلب من أوربة من اللباس والأثاث والرياش وسائر أنواع الماعون والزينة والخمور، وما بقي من ذلك يبذلونه لبغايا تلك البلاد أو بيوت القمار الأوربية. هؤلاء المترفين الذين يجرفون معظم ثروة البلاد إلى أوربة هم الذين يتعلمون لغات هذه الدول المستعمرة، ويأخذون من قشور علومهم وفنون عاداتهم ما يشوه في أعينهم ويقبح في أنفسهم كل ما يربطهم بأمتهم من عقيدة وشعار وخلق وعادة مهما كانت حسنة ونافعة، ويزين لهم ما يرون عليه سادتهم المستعمرين وإن كان من الفواحش والمنكرات التي يشكو منها حكماؤهم وعقلاؤهم، ويكون أكثر الأغنياء الذين لم يتعلموا هذه الأساليب المدنية الخادعة مقلدين لمن تعلموها يحذونهم حذو النعل للنعل فيها. للسياسة الاستعمارية لغة خادعة كلغة التجار؛ لأن الغرض منها هو عين الغرض من التجارة (الكسب بالحق وبالباطل) ، يزيد التاجر سلعته بزخرف القول المموه، ويوهم كل من يعرضها عليه أنه يختصه بالرعاية والإكرام، ويؤثر مصلحته على مصلحة نفسه، ولا يريد أن يربح منه شيئًا أو إلا شيئًا تافهًا لا يوازي بعض تعبه في جلب السلعة ونفقته على نقلها وحفظها، ومنهم الذين يزعمون أن الأثمان محدودة، وأنهم يطرحون منها عشرين أو ثلاثين في المائة في أيام معدودة. وأهل الاستعمار، يقولون في بعض الأطوار: إننا لا نبغي فتحًا، ولا نحاول ملكًا، وإنما شغفتنا الإنسانية حبًّا، فحملتنا على بذل أموالنا، وإرهاق رجالنا؛ لأجل تعليمكم وتمدينكم لتكونوا مثلنا، هكذا كانوا يقولون لمثل السلطان عبد العزيز صاحب مراكش من قبل. ويقولون في طور آخر: إننا بما أوتينا من الرحمة والرأفة بالبشر، وحب تعميم العدل بين الأمم، نريد أن نزيل استبداد هذا الحاكم، ونطهر الأرض من ظلم هذا السلطان الغاشم؛ ليتفيأ الناس ظل العدل، ونبدلهم من بعد خوفهم نعيم الأمن، كذا قالوا في السلطان عبد الحفيظ قبل أن يظهر لهم المواتاة التي كان عليها أخوه عبد العزيز. ويقولون في طور آخر: إن الرعية قد ثارت على حاكمها وتألبت على ملكها، ونحن الكافلون لاستقلاله، المسئولون عن حفظ عرشه، فلا مندوحة لنا عن نصره والمحافظة على ملكه، حتى إذا زال الخوف، واستقر الأمن، وانتظمت الحكومة المحلية، وصارت قادرة على منع الفتن الداخلية رجعنا أدراجنا، لا نريد من صاحب العرش الذي حفظناه أن يثل، والشوكة التي منعناها أن تخضد، جزاء على عملنا، ولا شكرًا على خدمتنا؛ لأننا إنما نفعل ذلك لوجه الإنسانية؛ وحبًّا في تعميم المدنية، واستبدال الحرية بالعبودية، هذا ما قاله الإنكليز في احتلال مصر بالأمس، وهذا ما يقوله الفرنسيس في احتلال فاس اليوم. صدق حكيمنا ابن خلدون في قوله: (إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده) نقول: ولكنه قلما يقتدي به في معالي الأمور وأسباب القوة التي بها كان غالبًا؛ لأن المغلوبين يستحوذ عليهم الخمول والكسل، ويصيرون عالة على الغالب في عامة شئونهم. وقد يخدع الغرور بعض المتفرنجين المقلدين، فيتوهمون أنهم بتقليدهم للإفرنج في أسلوب التعليم ودعوة الوطنية وشكل الحكومة، قد ساروا على طريقهم إلى الاستقلال الذاتي والكمال المدني، وهيهات هيهات، لا تجد أكثرهم إلا مخدوعين، وطريق المستقلين غير طريق المقلدين. قال بعض كبراء الإفرنج في بيان درجات الفتح الاستعماري: إن أولها فتح دعاة النصرانية (المبشرين) لبعض المدارس، ثم لبعض المستشفيات والملاجئ، ثم وقوع الشك والزلزال في نفوس بعض المتعلمين فيما كانت عليه الأمة من العقائد والمقومات الاجتماعية، ثم حدوث فكرة الرابطة الوطنية التي تنقسم بها الأمة إلى شطرين: شطر المتفرنجين الذين يهدمون أركان مقوماتها القديمة؛ تقليدًا لأوربة، وشطر المحافظين على القديم، ثم رواج تجارتنا برواج التقاليد والعادات الأوربية التي يسهل التقليد فيها، ثم حدوث أو إحداث الاحتكاك الذي يتبعه الاعتداء على بعض المبشرين أو غيرهم من الأوربيين أو النصارى الشرقيين، ثم المداخلة السياسية فالعسكرية؛ لحماية مصالحنا وأموالنا أو قومنا وأهل ديننا، ومهما كان الاسم الذي نسمي به سيطرتنا على البلاد بعد الاحتلال العسكري فالمعنى واحد، وهو أننا نكون السادة، فنفعل ما نشاء ونحكم ما نريد. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئ لاحقهم به سابقهم، ولهم أقوال أخرى في الإسلام والمسلمين والصليب والهلال، بلغة أصرح من لغة الاستعمار التجارية، وهم يفهمون هذه اللغة؛ لأنهم هم الواضعون لها، وقد صار فينا من يفهمها، وهم الذين شعروا بأنهم يبيتون منها بليلة السليم، ومفازة من ضل عن الطريق القويم، ولكن أكثر الناس لا يفهمون الكنايات والمعميات الاستعمارية والخطابات السياسية الرسمية إلا إذا فسرتها تلك الكلمات الصريحة المأثورة عن زعماء أوربة، كقول ذلك الإنكليزي في الصليب والهلال، والفرنسي في كون الرأفة التي يجب أن يعامل بها المسلمون هي السيف والنار، والألماني في كيفية إزالة سلطة الترك من البلقان من غير حرب ولا قتال، على أن أكثر المسلمين لم يسمعوا تلك الأقوال، ومنهم أهل المغرب الأقصى الذين هم أقرب المسلمين إلى أوربة بأرضهم، وأبعدهم عنها لجهلهم. إن الفتح الاستعماري الأوربي تجاري كما قلنا، ولكن السياسة ممزوجة فيه بالدين، خلافًا لتمويهات المخادعين، ومن الأصول المتفق عليها بين الدول الكبرى في أوروبة إزالة السلطة الإسلامية من الأرض، ولذلك اقتسموا جميع الممالك الإسلامية في أفريقية، ولم يتعرضوا لمملكة الحبشة النصرانية، ويفتاتون على الدولة العثمانية إذا أخمدت بالقوة ثورة المكدونيين والألبانيين المسيحيين، ويقرونها على تنكيلها باليمانيين المسلمين، ولا أريد بما أكتب من هذا المقال الدفاع عن الحكومات الإسلامية، فإنني أعلم أن أوربة لا تستولي على دولة إسلامية بمجرد قوتها عليها، وإنما تلك الحكومات هي التي تمكنهم من مقاتلها، وتوطئ لهم المسالك للاستيلاء عليها، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، فلا يجدي الدفاع عنهم، وإنما أريد أن أطالب هؤلاء المستعمرين؛ بأن يراعوا حقوق الإنسانية في هؤلاء المساكين الجاهلين، وأرى أن هذا من الممكنات، وأنه خير للفريقين فيما هو آت. يوشك أن لا يوجد في المليون من أهل مملكة مراكش رجل واحد يفهم معنى احتلال فرنسة لها أو لغة الاستعمار التي ينطق بها رجال السياسة عندما يتكلمون في شأن هذا الاحتلال مع السلطان ورجاله، ولكن ما لا يفهم ولا يعقل في مراكش قد يعد من البديهيات في مصر، ولا سيما عند أرباب الصحف وقرائها، فطالما كتب هؤلاء وقرؤوا في الكتب والجرائد الأوربية، وترجموا عنها أقوال زعماء السياسة في بيان مقاصدهم من البلاد التي يستعمرونها وبيان أعمالهم فيها، وهم يعرفون حقائق كثيرة تدل على ذلك من مكاتبيهم في تلك المستعمرات، وممن يلاقونه من أهلها في مصر ذاهبًا إلى الحجاز أو إلى أوربة أو عائدًا من سفره. ومع هذا كله نسمع لسان الاستعمار الأوربي يمنّ علينا كل يوم بأنه لا غرض لأوربة من بلادنا إلا ترقيتنا وتمديننا وتربيتنا وتعليمنا، حتى تصير مثلهم أهلاً لأن نحكم في بلادنا ونستقل بأمرها؛ حبًّا بالإنسانية؛ وجريًا على ما تعودوه من الفضيلة والعدل والحرية. أنحت الجرائد الفرنسية التي تصدر بمصر على الجرائد الوطنية، ووبختها وهددتها إن استنكرت احتلال فرنسة في المغرب الأقصى، وقالت: إن هذا اللوم لفرنسا يعود بالضرر على القطر المصري! ! ومما قالته جريدة (النوفل) في هذا الشهر في هذا السياق: (إن فرنسة أبدت في مستعمراتها الإسلامية من التسامح وحسن الذوق، ما لا يجوز معه أن يوجه إليها هذا اللوم، على أنه ليس مبنيًّا على أساس صحيح، وهو أمر يعرفه المصريون، كما يعرفون أن فرنسة صديقة لهم صادقة لا تتخلى عنهم عند الشدائد) ! ! أما المصريون فيردون افتئات هذه الجريدة عليهم، ويقولون: إننا لا نعرف شيئًا من هذا التسامح كما تدعين بل نعرف ضده، وإننا كنا مخدوعين بصداقة فرنسة لنا إلى يوم حادثة (فاشودة) ، ولم يبق أحد بعدها يعتقد هذه الصداقة. وقالت جريدة (لاريفورم) بعد استنكار اهتمام الجرائد المصرية بمسألة المغرب الأقصى، وبيان الاختلاف بينها وبين مصر في الأحوال الاجتماعية ما معناه: إنه يجب على أصحاب هذه الجرائد أن لا يندبوا حظ المغرب، ويرثوا له، بل يجب أن يعدوا تداخل الأجانب في شؤونه نعمة وسعادة له لا نقمة ولا شقاء؛ لأنه يعدّ له مستقبلاً زاهرًا (إن فجر الاستقلال أخذ يبدو للمصريين، فعليهم أن يواصلوا السعي لإدراكه، وهم يحطون من قدر أنفسهم، إذا أنزلوها منزلة المغاربة الذين لم يعملوا حتى الآن إلا ما يجلب لهم الذل والهوان، وليدعوا فرنسة وشأنها، فإنها ليست بحاجة إلى من يعلمها معنى العدل والحرية) ! ! نحن نعلم علم اليقين أنه ليس في تونس والجزائر من الحرية والتسامح عشر معشار ما في الهند - إن صح أن يقال: إن فيهما حرية وتسامحًا - ونحن على ما نعرف من فضل الإنكليز على جميع المستعمرين، نسمع آنا بعد آن ما نسمع من تخوف ساستهم من يقظة أهل الهند ومطالبتهم بحقوقهم الاقتصادية، وآخره ما كتبته جريدة التيمس في هذا الشهر عن علاقة أوربة بالشرق؛ فقد ذكرت أن هناك ثلاث مسائل عظيمة تتسع وتكبر بالتدرج، وهي المسألة الهندية، والمسألة الصينية، ومسألة الشرق الأدنى. ومما قالته في الأولى هذه الجملة الجديرة بالاعتبار: (إن بريطانية العظمى لم تقرر خطتها السياسية في الهند، وستضطر إلى ذلك عاجلاً، فلا زيارة الملك ولا غيرها من المجاملات يكفي لتحويل الحركة الحاضرة في الهند عن محورها الحقيقي، والمسألة التي يتوقف عليها رضا الهند بالحكم البريطاني، تندرج في طلب رسمي قدمه بعض كبراء الهند بشأن إطلاق حرية الهند الاقتصادية والمالية، ولا يخفى أن إجابة هذا الطلب بأية صفة كانت تخفض سلطة إنكلترة ولا سيما من الجهة المالية) فتأمل. وأما مسألة الصين فهي تراها خطرًا على صناعة أوربة وتجارتها في المستقبل؛ لأن هذه الأمة صناعية، وقد أنشأت تتقدم ببطء، وما كان كذلك يكون راسخًا ثابتًا، ولا يمكن لأوربة أن تخضعها وإن اقتطعت بعض أطرافها وقتلت ألوفًا من أهلها. وأما مسألة الشرق الأدنى فالخوف منها محصور في ضعف الدولة العثمانية الذي يغري الدول بها، ويخشى أن يفضي إلى سفك الدماء، وذكرت تخبط فارس في دستورها وعجز أفغانستان عن حفظ مركزها. وقرأنا لها في العام الماضي مقالاً، تنبه فيه أوربة على التأمل في يقظة الشرق وطلبه للترقي، وتحثها على قطع الطريق عليه من أوله قبل أن يصل إلى الغاية أو يقاربها، فيخرج من ذلة العبودية لأوربة فيكون مساميًا أو مساويًا لها، فإذا كان هذا رأي مستعمري الإنكليز وهم أمثل طريقة، وأقرب إلى مراعاة سنن الطبيعة، فماذا عسى أن يكون رأي غيرهم. ألا فليعلم أولئك المستعمرون أن أهل الرأي والبصيرة من المسلمين يعتقدون أن أوربة تريد من استعمار بلادهم أن تتخذ مالها دولاً، وتتخذ أهلها عبيدًا وخولاً، (لكنها لا تسميهم عبيدًا بل أحرارًا) وأن لا تبقي لهم في الأرض سلطانًا يحكم، ولا شرعًا ينفذ، ولا ثروة يستقلون بالتصرف فيها، ولا تربية ملية يحيون بها. وإن أرفقهم في ذلك الإنكليز، وأشدهم وأقساهم الفرنسيس والروس، وربما كان الاستبداد اللين أدوم من الاستبداد القاسي الخشن، فإذا قدر مسلمو الهند اليوم على إخراج الإنكليز من بلادهم لا يفعلون، وإذا قدر غيرهم على ذلك لا يتلبثون به ساعة ولا يستأخرون. ألا وليعملوا أننا لا نجهل أن أكبر قوتهم علينا، أننا عون لهم بظلمنا وجهلنا على أنفسنا، وأنه لولا ذلك لم يكن لهم حجة على استعبادنا عند محبي العدل والحرية من قومهم. وأن من عرف حقوقه قلما تضيع حقوقه، وأن القوة الآلية المستبدة قليل عمالها، لا يدوم لها السلطان على الشعوب الكثيرة إذا اتفق أفرادها، وأن المسلمين قد قاربوا سن الرشد الاجتماعي، وأن الخير للإنسانية أن يرشدوا متعارفين مع إخوانهم فيها لا متناكرين، ومتقابلين لا متدابرين، ومتحابين لا متشاقين، ومتفقين لا متشاكسين، والوسيلة إلى ذلك معروفة ميسورة لمن سبقونا في هذا الرشد، وهي أن يخلصوا النية في مساعدتنا على الارتقاء الحقيقي، مع محافظتنا على ديننا ولغتنا، ونحن نفصل لهم القول في ذلك إن كانوا فاعلين. لو أراد المستعمرون ذلك من قبل لارتقى الشرق ارتقاء عظيمًا، ولكانت الهند غير الهند الآن، وجاوه غير جاوه الآن، وكذلك تونس والجزائر، أعني أنها كانت أرقى عمرانًا، وأوسع علمًا وعرفانًا، وإذًا لكانت منافع أوربة منها أعظم، وكان قضاؤها بذلك على سائر الحكومات الفاسدة التي تنسب إلى الإسلام أسرع، وفوق هذا وذاك أنه كان يكون ارتقاء الإنسانية في جملتها أوسع. ألم تروا إلى مصر، كيف كان يعد السلطان عبد الحميد رؤيتها ذنبًا سياسيًّا بمنع منه العثمانيين ما استطاع، ويعاقب عليه من اقترفه إذا كان من أهل العلم وأرباب الأقلام، وهل كان سبب ذلك إلا أن من يرى ما في مصر من الحرية وحركة العمران يزداد سخطًا على حكومته الاستبدادية المخربة. لم تكن هذه الحرية في مصر لمحض رغبة الإنكليز في ترقية المصريين، وإنما كان لها أسباب: (منها) ما سبق لمصر من الأخذ بأسباب العلوم والمدنية الأوربية، حتى صاروا يدركون من حقوقهم ما لا يدركه أهل زنجبار الذين لم تعاملهم الإنكليز كما تعامل المصريين؛ على عدم المعارض لها فيما تفعله في بلادهم، (ومنها) ما كان عندهم من الحرية قبل الاحتلال، ومثل إنكلترة لا ترضى كغيرها أن تجعل البلاد التي يكون لها نفوذ فيها دون ما كانت عليه في الحرية، (ومنها) أن الإنكليز كانوا يستفيدون من تلك الحرية، ما لم يكونوا ليستفيدوه من ضدها. (ومنها) أخلاق عميدهم السابق لورد كرومر. (ومنها) كثرة الأوربيين في هذه البلاد وما لهم فيها من الامتيازات، ومعارضة بعض دولهم القوية للاحتلال الإنكليزي إلى سنة ١٩٠٤م، وعدم مواتاتهم له إلى اليوم في التضييق على المطبوعات، الذي حمل عليه الحكومة المصرية أخيرًا. (ومنها) وهو يلي امتيازات الأوربيين الصفة التي احتلوا بها البلاد، والحجج التي يحتجون بها على إطالة الاحتلال، وما يعترفون به من شكلها الرسمي. على هذا كله حصر الإنكليز التعليم بمصر في المضيق الذي يتعذر أن يتخرج فيه الرجال المستقلون الأكفاء، كما جعلوا السيطرة على الحكومة مانعة أن يترقى فيها المستعد للاستقلال، فيبلغ فيه مستوى الكمال، حتى إنه لا يكاد يوجد في مصر من يتقن اللغة الإنكليزية كتابة وخطابة كما يوجد من يتقنون الفرنسية، منذ كانت هذه اللغة عمدة المصريين في المعارف الأوربية. لو شاء الإنكليز أن يرقوا التعليم والتربية لفعلوا، ولكن لورد كرومر قال في أحد تقاريره: إن الغرض من مدارس الحكومة بمصر فرنجة المصريين أي: إزالة مقوماتهم الملية التي كانوا عليها، وجعلهم مقلدين للإفرنج كتقليد الغراب للحجل في المشي أنساه مشيته، ولم يتعلم مشية الحجل، ومن أراد شاهدًا على هذا، فليقرأ ما كتبه اللورد في كتابه (مصر الحديثة) عن هؤلاء المصريين المتفرنجين وما ذمهم به، وحينئذ يجزم بأن مراده بفرنجة المصريين ما قلناه آنفًا. أما الشواهد الوجودية على هذا المعنى فهي أصدق شهادة وأقوى برهانًا، تريك كيف يهدم هؤلاء المتفرنجون مقومات أمتهم ومشخصاتها بالتقاليد الأوربية، وباسم الوطنية والمدنية، وكيف يجرفون ثروة بلادهم على أوربة، حتى إن بعض النساء في أعلى البيوت المصرية لا يشترين ثيابهن وزينتهن وسائر حاجهن إلا من أوربة مباشرة، وإن الواحدة منهن لتشتري في كل سنة بالألوف الكثيرة من الجنيهات، ولو ابتاعت بعض ذلك من مصر لجاز أن يكون لبعض التجار الوطنيين نصيب في ربحه. الحر من الإنكليز يعلم ويعترف بأن الإنكليز لم يرقوا المصريين أنفسهم، وقد قال بعض من كان يجلس إلى لورد كرومر من المصريين: إنك أيها اللورد قد خدمت الحكومة المصرية وأصلحت ماليتها ورقيتها، ولكنك لم تعمل للمسلمين شيئًا في ترقيتهم، وهم جاهلون لا يعرفون كيف يرقون أنفسهم. فقال اللورد: إن الذي لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وكان حسبهم أن لا نعارضهم في ترقية أنفسهم، ومع هذا أقول: ليعملوا وليطلبوا مني المساعدة أساعدهم. فقال المصري: إنه لا يوجد عندنا رجال هم أهل لمثل هذا العمل، فقال اللورد: بل عندكم رجلان هما الشيخ محمد عبده ورياض باشا، فساعدوهما بالمال والحال يعملا لكم ما تشاءون. لا لوم على الإنكليز في هذه الخطة ولا تثريب، وكيف يجوز أن نلوم الأجنبي أنه لا يرقينا ولا يجتهد في رفعنا إلى مساواته، ونحن لا نرقي أنفسنا، فإننا حتى هذا اليوم لم نشرع في العمل العظيم الذي ترتقي به الأمم؛ وهو التربية الملية الاستقلالية التي يتخرج بها عظماء الرجال الذين ينهضون بالأمم، من الظلم بل من الجنون أن نقصر في تربية أنفسنا، ونجعل تبعة هذا التقصير على الأجنبي الذي نصيح كل يوم: أنه خصم لنا أو عدو مبين، ولو كان جميع الأوربيين في مستعمراتهم كالإنجليز لا أقول في مصر، فيقال ليست مستعمرة رسمية لها، بل في السودان لما كان لنا عليهم حجة في هذا المقام، وإن كانوا يستطيعون أن يعملوا لنا ما لا نعمله لأنفسنا. ولكن غيرهم يمنعون العلم، ويقيدون الحرية، ويراقبون كل من دخل مستعمراتهم، ويتبعونه الجواسيس ولا سيما إذا كان من العثمانيين. تلك إشارة إلى سياسة الأوربيين وتفاوتهم فيها، وأما تعصبهم الديني ومحاولتهم تحويل المسلمين عن دينهم فهم فيه سواء، كلهم مصداق لقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} (البقرة: ١٠٩) وقوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: ١٢٠) وليس الإنكليز بأمثل من غيرهم في هذا الباب، فقد اجتهد دعاتهم في تنصير مسلمي الهند وغيرهم فلم ينالوا إلا الخيبة، ولا يستقر نفوذهم في مكان إلا ويكون وراءهم دعاة الدين، بل نرى بعض جرائدهم السياسية تنفث في مصر سموم التعصب الذميم بعبارات تدل على الحقد والسخيمة والجهل الفاضح. لهم في مصر جريدة اسمها (اجيبسيان غازيت) تطعن في القرآن، حتى في أسلوبه وبلاغته، وقد قالت في هذه الأيام: إنه على لهجته السقيمة غير المنطقية، قد أثر في العرب أكثر من تأثير توراة (وايكلف) في (الأنكلو ساكسون) ولوثر في الألمانيين، ودانتي في الإيطاليين، وكل بصير يراقب المسلمين لا يسعه إلا أن يندهش من تأثير هذا الكتاب في رجوع الإنسانية القهقرى! ! هذا ما يقوله من لا يفهم جملة من العربية على وجهها، ولكننا لا نظن أنه يجهل التاريخ كما يجهل العربية، وإذا هو يعلم أنه لم يوجد كتاب في الأرض دفع الإنسانية إلى الأمام ورفعها إلى الأوج كالقرآن، وأن المسلمين بلغوا به ما بلغوا من السيادة، ولما تركوه إلى مصنفات الجاهلين (المقلدين) رجعوا القهقرى، وهو وأمثاله يخافون أن يعودوا إلى هديه، فلذلك ينفرهم عنه وينسب تقهقرهم إليه. أما مبلغ علم صاحب هذه الجريدة بالعربية؛ فإنك تجد مثالاً مضحكًا في تفسيره لقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي فإنه سخر من اللغة العربية واستشهد بهذا البيت، وحمل الحياة فيه على الحياة الحسية الحيوانية، ولو فهم معناه لعلم أن القبطي الذي فسره له قد غشه، ولقبع في كسر بيته خجلاً، إن كان حيًّا يتأثر من الخطأ الفاضح؛ لأنه يعلم حينئذ أنه لو وجد لشكسبير مثل هذا البيت، لانتفخت أنوف الإنكليز؛ عجبًا به وفخرًا أضعاف انتفاخها الآن. ومما سخرت به هذه الجريدة الغالية في التعصب من الإسلام والمسلمين، تمنيها لو سمي شارع كلوت بك (جنة المسلمين) ، وقالت: إن هذه التسمية تحدث عن المسلمين حماسًا دينيًّا في الأحياء المجاورة له! ! هذا الشارع لا تغيب فيه الحانات الملأى بالخمور الأوربية عن سالكه طرفة عين، وهو وما يقاربه مثوى البغايا التي بلتنا بها المدنية الأوربية، وقد صار هذا المتعصب يعد هذا الخزي الأوربي التي تتعمد به أوربة إفساد آدابنا وديننا وسلب ثروتنا من سيئات الإسلام. فإذا كان هذا هو الأدب والتسامح الإنكليزي في الجرائد السياسية، فما بالك بجرائدهم الدينية كجريدة (المسيحي) وغيرها! وهل يعتبر بذلك المسلمون؟ ! قد زين لأمثال هذا المتعصب عقله الإنكليزي الذي يتيه به على جميع البشر؛ أن هذا السخف الذي يسخم به جريدته مما ينفر المسلمين عن القرآن، ويحول بينهم وبين الاهتداء به، فتدوم لقومه السيادة عليهم، ونحن نرى بعقلنا الشرقي المذموم عنده أن تأثيره يكون بضد ما أراد ما زين له عقله، نرى أن إيقاظ المسلمين بمثل هذه الأصوات المنكرة أقرب إلى بعثهم من مرقدهم، وتنبيههم إلى ما يراد بهم، وإرجاعهم إلى روح القرآن التي تحييهم كما أحيت من قبل سلفهم (ويا ليت كل ما يكتب في ذلك يترجم بالعربية) ومزاج الحي يدفع عن نفسه الأذى، ويقتضي المزاحمة والتنازع على الغذا، وتنازع الأعداء المتزاحمين، غير تنازع الإخوة المتراحمين. وحاصل ما نريده مما تقدم كله أن يطلبه عقلاء قومنا اليوم من مستعمري أوربة؛ أن يعاملونا معاملة الإخوة، فيتركوا لنا ديننا وآدابنا ولغتنا وحرية العلم والتربية وجميع شؤون الاجتماع، ويساعدونا على الارتقاء في الاقتصاد وجميع شؤون الكسب والعمران، ويشاركونا في الربح مشاركة الأخ لأخيه. إذا أجابت هذه الدعوة كل دولة من الدول القوية المستعمرة، أمنت كل واحدة على مستعمراتها، وزادت في خيراتها وبركاتها، وإن فعلته واحدة منهن كان لها العاقبة وحدها، حيث تكون من آسية أو أفريقية. وإن لم تفعله ولا واحدة منهن احتقارًا للمسلمين بضعفهم، فيوشك أن يظهر من غيب الله ما ليس في الحسبان، فهذه ألمانية تحسد دول الاستعمار؛ إذ تراهن متمتعات بما تقدر بقوتها وعلمها أن تتمتع بمثله وتتربص بهن الدوائر، وهذه دولة اليابان تمد عينيها باحثة عن المسالك التي تسير فيها نفوذها السياسي وراء مصنوعاتها وسلعها التجارية، فما يدرينا لعله يظهر في المسلمين زعماء تثق بهم هاتان الدولتان أو إحداهما، ويكون من وراء هذه الثقة تغيير ألوان هذه المستعمرات بما هو أقرب إلى الأخوة الإنسانية وارتقاء العمران، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.