للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحمد تيمور باشا
وفاته وملخص ترجمته

في صبيحة ٢٧ من شهر ذي القعدة الماضي انتهت حياة رجل لا كالرجال،
وفرد لا كالأفراد - إلا أن يراد بالأفراد نحو مما يريده الصوفية - ألا وهو صديقنا
وأخونا في الله عز وجل الأستاذ العالم المؤرخ الأديب السلفي أحمد تيمور باشا
المشهور بأخلاقه العالية وعلمه وأدبه؛ ولكنه على شهرته يكاد يكون مجهولاً عند
الأكثرين بخصوصيته، فهو من شهداء الله وحججه على خلقه في دينه وفضائله،
ونادرة من نوادر الزمان - هذا الزمان - في مجموعة مزاياه، رحمه الله تعالى وأكرم
مثواه، وقد خسرت الأمة العربية بفقده ركنًا من أركان علماء لغتها الخادمين لها بما
تقتضيه حال العصر، وخسرت الأمة الإسلامية مسلمًا مخلصًا لدينه وأمته مدافعًا
عنهما غيورًا عليهما.
ذُكر في بعض الصحف أنه ولد في ٢٢ شعبان ١٢٧٨، وأنه لما دخل في سن
التمييز اختار له والده إسماعيل باشا تيمور رئيس الديوان الخديوي من المعلمين من
يلقنه مبادئ القراءة والكتابة في داره، وأنه تلقى التعليم الابتدائي العصري في
مدرسة مارسيل الفرنسية، وأن نفسه جنحت بعد ذلك لدراسة الفنون العربية والعلوم
الدينية، فأخذ أولاً عن الشيخ رضوان محمد المخللاتي، ثم عن الشيخ حسن
الطويل الشهير الذي كان جامعًا بين العلوم الشرعية والعقلية والتصوف، وأنه كان
يتردد على الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي الكبير، فيتلقى منه ما شاء من
اللغة العربية وآدابها.
ثم أقول: إن الفقيد - رحمه الله تعالى - قد اشترك في صحيفة المنار من أول
العهد بإنشائها، ثم عرفته معرفة شخصية منذ شهر رمضان سنة ١٣١٦، إذ كان
يحضر كل يوم درسي الذي كنت ألقيه في المسجد الحسيني في عقائد الدين وأصوله
الإصلاحية العالية بأسلوب خطابي اهتزت له مصر، وكاد يحدث فيها ثورة دينية بما
شرعت أفنده فيه من البدع والخرافات التي شوهت تعاليم الإسلام الصحيحة؛ حتى
كنت كثيرًا من الأيام ألقاه عند خروجي من المسجد، فنمشي في خان الخليلي، ثم في
السكة الجديدة نتحدث في موضوع الدرس، وحال المسلمين في هذا العصر، فوجدته
موافقًا لي في كل ما كنت أنكره من تغلغل نزغات الشرك في القلوب وانتشار البدع
والخرافات في الأعمال، وفيما يجب من الإصلاح الإسلامي، وجدته موحدًا فحلاً، لا
مخنثًا بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، يتفصى من النصوص بخلابة التأويل.
ثم كان يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر، وفي أثناء ذلك اقترحت
على الأستاذ أن يعقد مجلسًا خاصًّا لبعض إخواننا المستعدين لتلقي حكمة الإسلام
العليا من خريجي دار العلوم وأساتذة المدارس الأميرية وغيرهم يتخولنا بها في
بعض أوقات الفراغ، فقبل الاقتراح، واخترنا دار أحمد بك تيمور في درب سعادة
لهذه الدروس العالية إذ كان هو أحد الراغبين فيها، فاجتمعنا فيها مرارًا، وكنا
نذهب في بعض الأيام إلى (عين شمس) فنتلقى الدرس أو المحاضرة في دار
الأستاذ الإمام نفسه هنالك، ثم ابتاع فقيدنا اليوم دارًا في عين شمس بقرب دار
الإمام فأقام فيها.
تسنَّى لي في تلك المدة معاشرة أحمد تيمور وكثرة مجالسته، فرأيت منه شابًّا
غنيًّا تُوفيت زوجته عن أولاد صغار فأبى أن يتزوج على كثرة البيوتات التي
تتنافس في صهر مثله في كرامة بيته وسعة ثروته وحسن سيرته، وإنما أبى خوفًا
من كراهة الزوج الجديدة لأولاده ومضايقتها له في تربيتهم، فاختار العزوبة مع
العفة والصيانة التامة لأجلهم، على حين نرى أمثاله من الأغنياء لا تحصنهم الزوج
الواحدة ولا الزوجان ولا الثلاث، ولا يبالون في طاعة شهواتهم ما يكون من سوء
تأثيرها في الأولاد، وأما الآخرة فلا تكاد تخطر لأكثرهم في بال.
وكانت لذته من الدنيا أو في الدنيا جمع الكتب العربية النفيسة، ولا سيما
المخطوطات القديمة النادرة، وجرى في هذا على عرق وراثة، وجد في دارهم
مكتبة صغيرة، فما زال يزيد عليها حتى أسس خزانة لها احتوت عشرين ألفًا من
الأسفار في جميع العلوم والفنون، منها ما لا يوجد أو لا يوجد مثله في غيرها حتى
دار الكتب المصرية العامة، ولم يكن حظه منها مجرد الجمع والتلذذ بالاحتواء
والملك كما يُعرف عن بعض عشاق الكتب الذين ينظرون إليها نظرهم إلى غيرها
من أعلاق العاديات والآثار التاريخية، بل كان يقضي جل أوقاته في المطالعة
والمراجعة، وبعضها في كتابة المقالات والرسائل وتصنيف الكتب، وكان يتروى
فيما يخطه ويكثر التأمل والمراجعة حتى يكون محررًا منقحًا كما يحب، وأكثر ما
يعنى به التاريخ واللغة.
وله مصنفات مفيدة منقحة لعل نجليه الكريمين يطبعانها كلها إحياء لذكره
الحميد، فلا سبيل لهما إلى بره مثل هذه السبيل، فمما علمنا من أسماء مصنفاته:
(١) كتاب معجم اللغة العامية: استقصى فيه ما علمه بالبحث الطويل من
الألفاظ العامية، وبيَّن ما له أصل عربي، وما ورد في معنى ما ليس له أصل،
وغرضه من هذا دحض شبهة بعض ملاحدة أدعياء التجديد، الذين يدعون إلى جعل
اللغة العامية لغة العلم والتعليم، ويدَّعون أنها أصلح وأوفى بحاجة العصر من
العربية الصحيحة، وكان يمقت هؤلاء المتفرنجين ويحتقر دعواهم للتجديد.
(٢) ذيل لهذا المعجم في الأمثال العامية.
(٣) كتاب معجم الفوائد: وهو كتاب كان يجمع فيه ما يعثر عليه من
الفوائد المهمة في الفنون العربية، والتعبيرات البليغة، والمسائل الشرعية،
وغيرها مما حققه بعض العلماء ويحتاج إليه أهل العلم، وقلَّما يهتدون إليه
بالمراجعة لخفاء مظانه، فكان يرتب ذلك على حروف المعجم لتعبيد طريقها لمن
يريدها، ومن المعلوم بالبداهة أن هذا الكتاب لم يتم؛ ولكن الموجود منه لا يتوقف
على غيره؛ لأنه فوائد متفرقة، لا أبواب علمية متسقة، فالانتفاع بها ليس
مرهونًا باستيفاء مباحثها.
(٤) ترجمة أبي العلاء المعري: والمرجو أن يكون فيها فصل الخطاب في
كل ما اختلف فيه الناس من أمره ولا سيما عقيدته؛ لأن فقيدنا رحمه الله قد اطلع
على ما لم يطَّلع عليه غيره من أقوال المعاصرين والغابرين فيه.
(٥) كتاب وفيات القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة: وقد استعان
عليه بمكاتبة من عرفهم من أهل العلم في الأقطار المختلفة، ولم يقتصر على ما
اطلع عليه في الكتب الكثيرة، وكان هذا التصنيف دينًا على علماء التاريخ العربي
قام به من هو أجدر به، والظاهر أنه كان يتوقع فيه المزيد من العلم كمعجم الفوائد،
وإنه لذلك لم يبيضهما.
(٦) مفتاح الخزانة: وهو ١٣ فهرسًا لخزانة الأدب الكبرى للبغدادي لا
تتم الاستفادة من هذا الكتاب النفيس الجامع في آداب اللغة وتاريخها وتراجم رجالها
بدونها، لمن يريد مراجعة المسائل والتراجم عند الحاجة إليها.
(٧) نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة في فقه أهل السنة
وانتشارها في الأقطار، وأين يكثر كل مذهب منها.
(٨) تاريخ اليزيدية، وأجدر به أن يكتب حقيقة تاريخهم.
(٩) رسالة في العَلَم العثماني - أي علم الدولة العثمانية - بيَّن فيها أصله
ومأخذه وتاريخه، وأخذ العَلَم المصري منه وهي مطبوعة.
(١٠) رسالة في قبر الحافظ السيوطي وهي مطبوعة.
(١١ و ١٢) رسالتان في تنقيح لسان العرب والقاموس المحيط، وهما
مطبوعتان.
وله مقالات في بعض المجلات آخرها ما كانت تنشره مجلة الهداية الإسلامية
في (الآثار النبوية) والمراد بالآثار هنا ما يسميه بعضهم المحفوظات وبعضهم
(المخلفات النبوية) كشعره صلى الله عليه وسلم وبردته، وغير ذلك، وكذا ما يُذكر
من الأحجار التي فيها أثر الكف أو القدم، وقد نشر في الهداية بضع مقالات من ذلك
يظهر أن لها تتمة، ومع هذا يمكن طبعها مستقلة.
وقد جعل خزانة كتبه وقفًا وبنى لها دارًا في ضاحية (الزمالك) من ضواحي
القاهرة ووقف عليها أرضًا (أطيانًا) يكفي ريعها لنفقاتها والزيادة فيها؛ ولكن
وجودها هنالك يحول دون الانتفاع العام بها.
ولم أر له ميلاً في صباه إلى شيء من اللهو المباح، فضلاً عن المحظور أو
المكروه، إلا أنه كان يرتاح إلى شيء من سماع الأقوال الشاذة المستغربة من رأي
أو خبر، وكان هذا من أسباب ارتياحه إلى مجالسة الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري
رحمهما الله تعالى، فقد كان لديه من ذلك الجم الكثير، وأما أول أسباب عشرته
وحبه له فهو كونه من علماء الدين الميالين إلى الإصلاح العارفين بحال العصر،
وما له من الاطلاع الواسع على نفائس الكتب العربية في خزائنها المشهورة في
الشرق والغرب مع العلم بقيمتها العلمية والتاريخية، وهو الذي دله على الكثير منها،
وكان الشيخ طاهر جمع كثيرًا من هذه الكتب المخطوطة النادرة، وقد اضطر إلى
بيع بعضها عند الحاجة إلى الدراهم في مدة إقامته بمصر، فاشترى صاحب
الترجمة كثيرًا منها فيما بلغني، ولو كان الشيخ طاهر يقبل من أحد مواساة مالية
لكان له من صديقه الوفي المخلص أحمد تيمور ما يكفيه وفوق ما يكفيه مع الإخفاء
والكتمان؛ ولكن كان له من عزة النفس بالعلم وشرف البيت، ومن العفة والقناعة
بآداب الدين ما يربأ به عن ذلك، رحمه الله تعالى.
ومما عرفناه وشاهدناه من ترويح فقيدنا الكريم نفسه بسماع الآراء الشاذة أنه
كان يختلف إليه في داره بدرب سعادة شيخ كبير السن سبق له اشتغال بطلب العلم،
ثم صار له خواطر في التصوف والمهدي المنتظر، بل كان يعتقد أنه هو، فكان
الفقيد يُكْرِمه ويسمع له ما ينطلق به لسانه من الخواطر الغريبة والأفكار الشاذة
ويضحك كثيرًا، وربما فتح له هو أو من حضر من أصدقائه أبواب الحديث.
ومما سمعناه منه مرارًا في تلك الدار الانتقاد على الأستاذ الإمام بإغراء
المجلس أن إسماعيل باشا صبري قال له مرة: إن الشيخ محمد عبده المفتي يضع
الشال الكشمير أحيانًا على ذراعه كما يفعل الإفرنج بوضع أرديتهم ومعاطفهم على
أذرعتهم، وقال له مرة: إن المفتي يدخن بالسجاير الإفرنجية دون السجاير
الإسلامية، فكان يرفع عقيرته في الإنكار والاستعاذة بالله تعالى من هذا الزمان الذي
صار فيه مفتي الإسلام يفعل فعل النصارى ويستعمل سجاير النصارى، وتارة يستبعد
تصديق ذلك، ويقول لإسماعيل باشا أو لتيمور بك: بالله العظيم يا باشا، بالله العظيم
يا بك، مفتي الإسلام يشرب سجاير نصرانية؟ فيقولان: نعم نحن رأيناه بأعيننا،
فيقول: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فسد الزمان ... وكنا كلنا نضحك من
هذه السذاجة والغفلة، وتصديق الرجل بأنه يوجد سجاير إسلامية وسجاير
نصرانية!!
كان الفقيد يرتاح إلى هذا ولكنه كان يُفهم ذلك الشيخ المجذوب بعد ذلك
حقيقة المسألة، وأنها ممازحة، وما كان يقبل من أحد دون ذلك طعنًا في الأستاذ
الإمام، وقد زعم بعض الذين كانوا يدينون بافتراء الكذب عليه أنه لا يصلي فردَّ
عليهم بلطف وهم في داره، وقال ما يعلمه من قوة دين الإمام وعبادته، ولم يلبثوا
أن دخل عليهم خادم كان يتردد عليه للخدمة مدة وعلى علي باشا رفاعة أخرى
بالتناوب لخدمة خاصة، فلما دخل عليه في غير موعده سأله عما جاء به، فأجاب
بما حاصله أنه جاء الباشا ضيف اسمه الشيخ محمد عبده فوكلني بخدمته، فإذا هو
يقوم بعد نصف الليل بقليل فيتوضأ ولا يزال يصلي إلى قرب طلوع الفجر ولا ينام
إلا قليلاً بعد صلاتها، وأنا مضطر لانتظار خدمته ما دام مستيقظًا فلم أطق صبرًا
على ذلك، ففررت من هذا الضيف الثقيل، فقال الفقيد لمن حضر: الحمد لله الذي
أظهر لكم الحق بما لا شبهة فيه لأحد، فوالله إنني لم أر هذا الخادم منذ كذا من
الأيام.
وأقول: إن الإمام رحمه الله كان يتردد أحيانًا على صديقه علي رفاعة باشا
في داره بمهمشة بالقرب من إدارة السكة الحديدية للمطالعة والمراجعة في كتب والده
المرحوم الشيخ رفاعة، وأما قيام الليل فلم يكن يتركه في إقامة لا سفر.
ذكرت هذا لأبيِّن لقراء المنار أنني ما عهدت من هذا الرجل في شبابه شيئًا
من اللهو والهزل للتسلية غير هذا، وقد تركه كما أظن في كهولته، وقلما يوجد في
الدنيا شاب غني وجيه يترك جميع لذات الدنيا وشهواتها المباحة غير المعتاد من
الطعام اللائق ببيته، ويصرف جميع أوقاته في الدراسة والمطالعة والكتابة، ثم إنه
في السنين الأخيرة توجه إلى بعض الأعمال النافعة للأمة، وأهمها مساعدة
الجمعيات الإسلامية كجمعية مكارم الأخلاق، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية
الهداية الإسلامية، وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس الجمعية الأخيرة، وفي
إنشاء مجلتها وجريدة الفتح بماله وبنفسه وبقلمه.
وجملة القول فيه إنه كان موحدًا سلفي العقيدة، مهذب الأخلاق، عالي الآداب،
محبًّا للإصلاح، ومبغضًا للتفرنج والإلحاد، وقد تجدد له أمل في نهضة الإسلام
بالدولة السعودية، وما عزته إليه بعض الصحف من ارتيابه في حقيقة الوهابية،
وقوله في شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنهما كانا عالمين لا زعيمين - ينافيه
علمه الواسع بالتاريخ، فهو افتراء عليه أو سوء فهم من الناقل عنه.
وذكر لي بعض أصدقائي وأصدقائه أن له صدقات سرية كان يتحرى فيها أن
لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وحسبه من الصدقة الجارية وقف كتبه الثمينة وما
وقف للنفقة عليها، قد يقال إنه لو كان يظهر زكاة ماله للاقتداء به لكان أفضل من
إخفائها؛ ولكنه كان أعلم بحال نفسه وحال وقته وما هو أفضل له.
توفي رحمه الله تعالى فجأة بسكتة قلبية، وكان عرض له ضعف القلب من
سنين مع مرض الصدر، واشتدت عليه وطأته بمصابه بنجله الكبير محمد بك، ثم
إنه ترك التدخين فحسنت حاله الصحية بعد أن انقطع عن العمل زمنًا طويلاً فعاد
إليه بنشاط.
وأذكر أنه كان يشكو الضعف وسوء الهضم من أوائل عهدي بمعرفته أي منذ
ثلث قرن وكانت سنه دون الثلاثين، وأن الأطباء كانوا يقولون له إنه ليس مصابًا
بمرض يُخشى منه، وأذكر أنني قلت له مرة إن هذا الضعف لا سبب له إلا الإفراط
في الراحة والترف، وإنه لا علاج له بالأدوية وإنما علاجه في شيء واحد وهو أن
تُحْدِث لنفسك ما يحملها على التعب الجسدي بالرياضة البدنية العنيفة، وعلى التعب
النفسي والعقلي أيضًا في وقت آخر، وجميع الأطباء يوافقون على هذا الرأي
ويقولون به؛ ولكن الذي يعمل به باختياره من غير باعث نفسي اضطراري أو
متكلف بحيث يكون كالاضطراري قليل من الموسرين.
وجملة القول إن هذا الرجل كان في مجموعة فضائله ومزاياه وجده وغيرته
على الدين وعلمه وعمله ونأيه عن الهزل واللهو أمة واحدة، فهو من نوادر هذا
العصر، وشهداء الله وحججه على الخلق، ولا سيما الأغنياء والمتفرنجين في
مصر، فإن أكثر أغنياء مصر، وكذا غيرهم من مسلمي هذا العصر شر من أغنياء
سائر الأمم في جهلهم وبخلهم، مع إسراف أكثرهم في شهواتهم، وأكثر المتفرنجين
مصيبة على بلادهم، يزعمون أن التهذيب العصري لا يتفق مع الدين، فليأتونا
بمثل أحمد تيمور من كبراء ملاحدتهم إن كانوا صادقين؟
كان له ثلاثة أبناء نجباء عُني بتعليمهم وتربيتهم، فاحتسب أكبرهم في حياته
لآخرته، وترك اثنان يحيا بهما ذكره من بعده: إسماعيل بك من رجال التشريف
في خدمة جلالة ملك مصر كما كان جده وسميه إسماعيل باشا وجد أبيه من قبله في
خدمة أبي جلالته وجده، ومحمود بك الذي فاق أدباء العصر في إنشاء القصص
التمثيلية وغير التمثيلية، فنعزيهما بل نعزي الأمة الإسلامية عنه، وندعو له
بالرحمة والرضوان، ولهما بطول البقاء مع طاعة الله، وللأمة بأن يعوضها عنه
بالرجال العاملين المخلصين، وستقيم له جمعية الهداية حفلة تأبين حافلة، وأول من
رثاه بالشعر صديقنا وصديقه الأستاذ عبد الله بك الأنصاري، وكنا جعلنا مرثيته
خاتمة لهذه الترجمة، ثم اضطررنا إلى تأخيرها إلى الجزء الآتي.