للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شبلي النعماني


نقد تاريخ التمدن الإسلامي
بقلم الشيخ شبلي النعماني
(٢)

مثالب بني أمية
المقصد الذي جعله المؤلف نصب عينه ومرمى غايته هو أن الأمة العربية إذا بقيت على صرافتها فهي جامعة لجميع أشتات الشر، أي الجور والقسوة والهمجية وسفك الدماء والفتك بالناس. ولكن لما كان لا يقدر على إظهار هذا المقصد تصريحًا
احتال في ذلك فغمض المذهب وجعل الكلام طيب الظاهر وذلك بأن قسم
عصر الإسلام إلى ثلاثة أدوار - فمدح سياسة الخلفاء الراشدين، وقال بعد مدحها:
(على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران أو
تقتضيه سياسة الملك وإنما هي خلافة دينية توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في
عصر.
فأهل العلم بالعمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك
العصر العجيب وأن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد.
(الجزء الرابع صفحة ٢٩ و٣٠)
فأثبت بذلك أن سياسة الخلفاء الراشدين ليست فيها أسوة للناس، وأنها من
مستثنيات الطبيعة، أما دور العباسيين فمدحه ولكن لا لأجل أنه دولة عربية بل
لكونها فارسية مادة وقوامًا مؤتلفًا ونظامًا وصرح بذلك فقال:
(دعونا هذا العصر فارسيًّا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك
على كونها عريبة من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها فهي فارسية من حيث سياستها
وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شئونها
ومنهم وزراؤها وأمراؤها وكتابها وحُجَّابها) .
(الجزء الرابع صفحة ١٠٦)
ثم أشار في غير موضع إلى أن الدولة العربية الساذجة إنما هي دولة بني أمية
فقال:
(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية) (الجزء الرابع صفحة
١٠٣) وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفاوتهم وكان خلفاؤها يرسلون
أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم (الجزء الرابع
صفحة ٦١) .
ولما أثبت أن خلافة الراشدين لم تكن تلائم النظام الطبيعي وأن دولة بني
العباس دولة فارسية وأن الباقية على صرافتها هي الدولة الأموية أخذ يعدد مثالب
بني أمية تحت عنوانات مستقلة منها الاستخفاف بالدين وأهله، ومنها الاستهانة
بالقرآن والحرمين، ومنها الفتك والبطش، ومنها قتل الأطفال، ومنها خزانة
الرءوس. وأتى في مطاوي هذه العنوانات من الإفك والاختلاق والتحريف والتبديل
بما تجاوز الحد وخرج عن طور القياس. والآن أذكر نبذًا منها وأكشف عن جلية
حالها.
***
الاستهانة بالقرآن والحرمين
قال المؤلف تحت هذا العنوان:
(أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف ولو
خالف الدين؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة.. . ذكروا أنه لما جاءوه
بخبر الخلافة كان قاعدًا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك -
أو- هذا فراق بيني وبينك. فلا غَرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب
الكعبة بالمنجنيق وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة. وظلوا
يقتلون الناس فيها ثلاثًا وهدموا الكعبة وهي بيت الله عندهم وأوقدوا النيران بين
أحجارها وأستارها) (الجزء الرابع صفحة ٧٨ و٧٩) .
الحكاية على الإجمال أن ابن الزبير ادعى الخلافة فملك الحرمين والعراق
وكاد يغلب على الشام وكان أمره كل يوم في ازدياد وبإزائه بنو أمية في الشام فلما
تولى عبد الملك الخلافة أرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره ولاذ ابن الزبير
بمكة فنصب الحجاج المنجنيق على الزيادة التي كان زادها ابن الزبير (كما يجيء
تفصيله) .
يعرف كل من له أدنى إلمام بالتاريخ أن الحجاج ما أراد إلا قتال ابن الزبير
ولكونه لائذًا بالكعبة اضطر إلى نصب المنجنيق على الكعبة، ولكن مع ذلك تحرز
عن رمي الكعبة فحوَّل وجهها إلى زيادة ابن الزبير. فانظر كيف غير المؤلف
مجرى الحكاية فصدر الباب بالاستهانة بالقرآن والحرمين. ثم ذكر أن عبد الملك
قال للقرآن:
هذا فراق بيني وبينك. وأنه أباح للحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدم
الكعبة وإيقاد النيران بين أستارها، فالناظر في عبارته يتوهم بل يستيقن أن
عبد الملك تفرغ من بدء الأمر للاستهانة بالدين والقرآن والحرمين وجعل الاستهانة
نصب عينه ومرمى غايته، وقتل ابن الزبير كان إما لأنه دافع عن مكة أو لكونه
أيضًا جنس الاستهانة بالحرم.
أما تفصيل الواقعة وتعيين بادئ الظلم فهو أن ابن الزبير لما استولى على
الحرمين أخرج بني أمية من المدينة فخرج مروان وابنه عبد الملك وهو عليل مجدر
فاستولى على الشام، وصدرت من ابن الزبير أفعال نقموا عليه لأجلها فمنها أنه
تحامل على بني هاشم وأظهر لهم العداوة والبغضاء [١] حتى إنه ترك الصلاة على
النبي في الخطبة ولما سألوه عن هذا قال: إن للنبي أهل سوء يرفعون رءوسهم إذا
سمعوا به [٢] ومنها أنه هدم الكعبة ومع أن هدمها لم يكن إلا لرمتها وإصلاحها ولكن
لم يكن هذا مألوفًا للناس، ولذلك تحرز النبي عليه السلام عن إدخال الحطيم في
الكعبة فاتخذ الحجاج هذه الأمور وسيلة لإغراء الناس على ابن الزبير. ولعل ابن
الزبير كان مضطرًّا إلى هذه الأعمال ولكن من شريطة العدل أن نوفي كل واحد
قسطه من الحق، فإذا اعتذرنا لابن الزبير فعبد الملك أحق منه اعتذارًا، فإن ابن
الزبير هو البادئ والبادئ أظلم. ويظهر من هذا أن عبد الملك ما أراد الحط من
شأن الكعبة ومس شرفها ولكن اضطر إلى قتال ابن الزبير فوقع ما وقع عرضًا غير
مقصود بالذات ولذلك لما نصب الحجاج المناجيق على الكعبة حولها عن الكعبة
وجعل الغرض الزيادة التي كان زادها ابن الزبير، صرح بذلك العلامة البشاري في
أحسن التقاسيم. ثم إن من مسائل الفقه أن البغاة إذا تحصنوا بالكعبة لا يمنع هذا
عن قتالهم ولذلك أمر النبي في وقعة الفتح بقتل أحدهم وهو متعلق بأستار الكعبة
وابن الزبير كان عند أهل الشام من البغاة والمارقين عن الدين.
ولو كان أراد الحجاج الاستهانة بالحرم فما كان مراده من رمته وإصلاحه بعد
قتل ابن الزبير، ومعلوم أن تعمير الحَجاج هو كعبة الإسلام وقبلة المسلمين كافةً.
أما قول عبد الملك للقرآن هذا فراق بيني وبينك، فحقيقته أن عبد الملك كان
قبل الخلافة ناسكًا منقطعًا إلى العبادة لا يشتغل بشيء من الدنيا، قال نافع: ما
رأيت في المدينة أشد نُسكًا وعبادة من عبد الملك، ولما سألوا ابن عمر إلى من
ترجع في الفتوى بعدك؟ قال (ولد لمروان) وكان يقول ابن الزناد الفقهاء في
المدينة سبع أحدهم عبد الملك. ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقال الإمام الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت عليه الفضل إلا عبد الملك
بن مروان. ذكر كل هذه الأقوال العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء. فلما جاءته
الخلافة وهو يقرأ القرآن تصور خطارة الأمر، وأن مثل هذا العبء لا يمكن تحمله
إلا المنقطع إليه فقال تحسرًا: هذا آخر العهد بك. أي الآن لا يمكن الانقطاع إلى
العبادة وقراءة القرآن كما كان دأبي أولاً، وليس هذا على سبيل الاستهانة بالدين
مطلقًا فإنا نرى اشتغال عبد الملك بالفرائض والسنن فيما بعد فهو يصوم ويصلي
ويحج قال اليعقوبي في تاريخه: وأقام الحج للناس في ولايته سنة ٧٢ الحجاج بن
يوسف وسنة ٧٣ وسنة ٧٤ الحجاج أيضًا وسنة ٧٥ عبد الملك بن مروان وسنة ٧٦
أبان بن عثمان بن عفان، وسنة ٧٧ أبان أيضًا وسنة ٧٨ وسنة ٧٩ وسنة ٨٠ أبان
أيضًا وسنة ٨١ سليمان بن عبد الملك (وسرد باقي السنوات فتركناها) وعبد الملك
هو الذي كسا الكعبة الديباج، فهل هذا صنيع من يريد الاستهانة بالحرم؟
قال المؤلف:
(ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة) (الجزء الرابع صفحة ٧٩) استند
المؤلف في هذه الرواية بالعِقد الفريد لابن عبد ربه والاستناد بمثل هذه الكتب في
مثل هذه الوقائع هو من إحدى حيل المؤلف المعتادة بها فأنت تعلم أن حادثة قتل ابن
الزبير مذكورة في الطبري وابن الأثير وغيرها من المصادر التاريخية المتداولة
الموثوق بها وعليها المعوَّل وإليها المرجع لكن لما لم تكن كيفية الحادثة في هذه
الكتب وفق هوى المؤلف أعرض عن هذه كلها وتشبث بكتاب هو في عداد
المحاضرات وإنما يرجع إلى أمثاله إذا لم يكن في الباب مستند غيره ومتى لم
يخالف الأصول.
والمذكور في الطبري وغيره أن عبد الله بن الزبير أصيب في الحجون وقتل
هناك قتله رجل من المراد، وما احتز رأسه داخل الكعبة.
قال المؤلف: (وهدموا الكعبة) .
قدمنا أن الكعبة لم تكن غرضًا للحجاج وإنما كان نصب المناجيق على الزيادة
التي زادها ابن الزبير، ولما كانت متصلة بالكعبة نالت الأحجار من الكعبة ولكن
كان أول ما فعله الحجاج بعد ما استتب القتال أمره بكنس المسجد الحرام من
الحجارة والدم كما نص عليه ابن الأثير فهل كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم
وهدم الكعبة شيء واحد؟
أما ما نقل المؤلف عن كفر الوليد وأنه أمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس
والنبل وجعل يرميه حتى مزقه وأنشد:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل لله مزقني الوليد

ونقل هذه الرواية عن الأغاني فهي من خرافات الأغاني، ومعلوم أن صاحب
الأغاني شيعي ديانته شنآن بني أمية والحط منهم. وأما الأبيات فأثر التوليد ظاهر
عليها، ومن له أدنى مسكة بالأدب يشهد أن نسجها غير نسج الأوائل، فأما جهابذة
المحدثين المرجوع إليهم في نقد الروايات والذين قولهم فصل في هذا الباب
فيجحدون أمثال هذه الروايات المختلقة. قال العلامة الذهبي: هو رأس الحديث
ومرجع الرواية -: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط
فخرجوا عليه لذلك) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ترجمة الوليد) .
ثم إن هناك أمرًا آخر وهو أن الناقم على الوليد وقاتله هو خليفة أموي،
فكيف ينسب استهانة الدين إلى خلفاء بني أمية عامتهم. ثم إن هذا الذي عزا إليه
صاحب الأغاني الاستهانة بالقرآن قد ذكر له صاحب العقد ما ينبئ عن تعظيمه
للقرآن وتفخيمه شأنه وحث الناس على حفظه وتعهده قال صاحب العقد [١] : إنه
شكا رجل من بني مخزوم دينًا لزمه فقال (الوليد) : أقضيه عنك إن كنت لذلك
مستحقًّا قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أكون مستحقًّا في منزلتي وقرابتي؟ قال
قرأت القرآن؟ قال: لا، قال فادن مني فدنا منه فنزع العمامة عن رأسه بقضيب
في يده فقرعه قرعة وقال لرجل من جلسائه ضم إليك هذا العِلْج ولا تفارقه حتى
يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين اقض دَيني، فقال له أتقرأ القرآن؟
قال نعم فاستقرأه عشرًا من الأنفال وعشرًا من براءة فقرأ، فقال: نعم نقضي دينك
وأنت أهل لذلك. فأنت ترى أن الوليد يعد من لا يقرأ القرآن عِلْجًا والمؤلف يعد
الوليد علجًا.
فأما ما ذكره المؤلف من أقوال الحجاج وخالد القسري وأنهما كانا يُفضلان
الخلافة على النبوة فمع أن أكثر هذه الأقوال مأخوذ من العقد الفريد وهو من كتب
المحاضرات لسنا نحتاج إلى الذب عن الحجاج وخالد فإنهما من أشرار الأمة حقًّا،
ولكن كم لنا من أمثال هؤلاء الملاحدة في الدولة العباسية كالعجاردة وابن الرواندي
الذي عمل كتابًا رد فيه على القرآن وسماه بالدامغ، فإذا كان العباسيون مسئولين
عن أوزار هؤلاء عند المؤلف فكذلك بنو أمية. وإن كان عبد الملك والوليد
يرتضيان بسوء أعمال الحجاج فمعلوم أن غيرهما من بني أمية كانوا ناقمين عليه
كافة حتى أن هشامًا قال (هل الحجاج استقر في جهنم أو يهوي إلى الآن) ولما
وصل إلى هشام أن خالدًا القسري استخف بامرأة مؤمنة عزله من الإمارة وسجنه
كما ذكره ابن خلكان.
والحاصل أن المؤلف لو خص رجلاً أو رجلين من بني أمية بالمطاعن لاعترفنا
به، ولكن من سوء مكيدة المؤلف أنه يجعل الفرد جماعة والفذ توءمًا
والنادر عامًا والشاذ مطردًا.
جور بني أمية
سمعنا بمظالم بختنصر، وأحطنا علمًا بشنائع جنكيز خان، واطلعنا على ما
جنته أيدي التتر، فوالله - لو صدق المؤلف - هم ما كانوا أشد قسوة ولا أفظع
أعمالاً ولا أسفك دماء ولا أجمع لأنواع الفتك من بني أمية.
قال المؤلف (حتى في أيام معاوية فإنه أرسل بسر بن أرطاة وأرسل معه
جيشًا ويقال: إنه (أي معاوية) أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من
وجدوه من شيعة علي ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان (الجزء الرابع صفحة
٨٢) .
قبل أن أكشف عن جلية الأمر لا بد من تقديم مقدمة، وهي أن المؤلف مدح
بني العباس وجعل أعمالهم مناطًا للعدل ودلالة على الرفق فقال:
(ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية فإن العدالة توطد
دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل فتعمر
البلاد ويرفه أهلها ويكثر خراجها (الجزء الثاني صفحة ٨١) .
وعلى هذا إذا وجدنا بني أمية معادلين لنبي العباس في جميع أعمالهم سواء
بسواء كان اختصاصهم بالذم دون بني العباس جورًا فاحشًا وميلاً عظيمًا. ثم إن
هناك أمرًا آخر وهو أن المؤرخين بأسرهم كانوا في عصر بني العباس ومن المعلوم
أنه لم يكن يستطيع أحد أن يذكر محاسن بني أمية في دولة العباسيين، فإذا صدر
من أحد شيء من ذلك فلتة كان يقاسي قائلها أنواعًا من الهتك والإيذاء ووخامة
العاقبة، وكم لنا من أمثال هذه في أسفار التاريخ. ومع أننا نفخر بأن مؤلفي الإسلام
كانوا أصدق الناس رواية وأجرأهم على إظهار الحق ما كان يمنعهم عن بيان
الحقيقة سلطة ملك ولا مهابة جائر، ولكن مع ذلك فرق بين تعمد الكذب والسكوت
عن الحق، ولذلك نعتقد أنهم ما قالوا شيئًا افتراء على بني أمية ولكن إن قلنا:
إنهم كثيرًا ما سكتوا عن محاسنهم فذلك شيء لا يدفع وليس فيه غض منهم.
أما بنو العباس فكانوا في عصرهم ولاة البلاد، وملاك رقاب الناس، رضاهم
الحياة، وسخطهم الموت، فالوقيعة فيهم والأخذ عليهم ما كان يمكن إلا بعد
مخاطرة النفس والاقتحام في الهلاك ونصب النفس للموت.
رجعنا إلى قول المؤلف: إن معاوية أمر بقتل النساء والصبيان اعلم أن هذه
الواقعة أي إرسال (بسر بن أرطاة) إلى شيعة علي من أشهر الوقائع المذكورة في
سائر كتب التواريخ، وليس في أحد منها قتل النساء والصبيان بل فيها ما يخالف
هذه الرواية قال المؤرخ اليعقوبي: (ووجه معاوية بسر بن أرطاة وقيل: ابن أبي
أرطأة العامري من بني عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل فقال له: سر حتى تمر
بالمدينة فاطرد أهلهم وأَخِفْ من مررت بها وانهب مال من أصبت له مالاً ممن لم
يكن دخل في طاعتنا وأوهمْ أهل المدينة أنك تريد أنفسهم وأنه لا براءة لهم عندك ...
حتى تدخل مكة ولا تعرض فيهما لأحد وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ثم
امض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم. فخرج بسر فجعل لا
يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية (اليعقوبي طبع أوربا صفحة
٢٣١ من الجزء الثاني) .
فترى في هذه العبارة أنه لم يكن هناك إلا تخويف وتهديد وإيهام. ولما رأى
المؤلف أن المصادر التاريخية الموثوق بها لا يوجد فيها ما يوافق هواه جنح إلى
الأغاني ونقل أمر معاوية بقتل النساء والصبيان ثم اعتذر عن معاوية بأن المظنون
خلاف ذلك لحلمه ودهائه، والظن أن معاوية أطلق يد بسر ولم يعين له حدودًا وكان
بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.
قد قلنا: إن الأغاني من كتب المحاضرات، فإذا كان الأمر هينًا والحديث
فكاهة أو تسللاً من كد العمل إلى استراحة فلا بأس به وبأمثاله أما إذا كان الأمر ذا
بال وكانت الواقعة معترك الاختلاف ومتعفر الأهواء رافعًا لشأن أو هادمًا لأساس
فأمثال هذه الكتب لا يؤذن لها ولا يلتفت إليها مطلقًا.
ثم إن الرجل (أي صاحب الأغاني) شيعي إذا جاءه شيء مما يشين معاوية
ويدنسه وجد في نفسه ارتياحًا إلى قبوله، ولو كان من أوهن الأحاديث وأكذبها.
نعم إن بسر بن أرطاة قتل طفلين ولكن القتل لم يتجاوز الاثنين [١] فأين هذا
من قول المؤلف:
وكان بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.
قال المؤلف (فإذا كان هذا حال العمال في أيام معاوية مع حلمه وطول أناته
فكيف في أيام عبد الملك مع شدته وفتكه فهل يستغرب ما يقال عن فتك الحجاج
وكثرة من قتلهم صبرًا، ولو كانوا ١٢٠٠٠٠ (الجزء الرابع صفحة ٨٣) .
نعم قتل الحجاج مئة ألف أو مائتين ولكن أين هذا من صنيعة أبي مسلم
الخراساني القائم بدعوة بني العباس المؤسس لدولتهم فإنه قتل صبرًا بدون حرب ما
يبلغ ستمائة ألف، وقد اعترف به المؤلف في هذا التأليف نفسه (الجزء الثاني
صفحة ١١٢) والمؤلف ينتحل لذلك عذرًا ويحسبه من طبيعة السياسة. فالحجاج
أحق بالعذر وأجدر بالعفو، فإن الحجاج عربي قح طبعه الجفاء والقسوة. أما أبو
مسلم فعجمي تربى في حجر التمدن، وغذي بلُبان الظرف ودَماثة الأخلاق (! !) .
أما قوله إن عبد الملك كان أشد وطأة منه (أي من الحجاج) فلم يأت عليه
بشاهد غير غدره بعمر بن سعيد، وأين هذا من غدر المنصور العباسي بأبي مسلم
الذي هو رب الدولة العباسية، ولولاه لما قامت للعباسيين قائمة، ولا كان لهم ذكر،
وكذلك غدر المنصور بابن هبيرة.
وغاية ما يقضي منه العجب أن المؤلف بعدما ذكر فتك بني أمية بقوله: (وقد
نفعتهم هذه السياسة (أي سياسة الفتك) في تأييد سلطانهم (قال) : صارت سُنَّة
من مَلَك بعدهم من بني العباس وغيرهم وأنت تعلم أن المؤلف يبرئ ساحة العباسية
من الجور والظلم فضلاً عن الفتك، فهل هذا تناقض في القول أو أراد بهم نفعًا
فضرهم من حيث لا يعلم؟ لا والله لا هذا ولا ذاك، بل هي من مكايد المؤلف التي
لا يهتدي إليها إلا فطن خبير لطوية الرجل وكامن ضغنه.
((يتبع بمقال تالٍ))