للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

كنا نسمع ونقرأ منذ وعينا أن لكل دولة من الدول الأوربية مطمعًا في ولاية أو
قطر من المملكة العثمانية. سمعنا كثيرًا أن مملكة طرابلس الغرب ستكون لإيطاليا.
وقرأنا في تاريخ الأفغان للسيد جمال الدين أن إنكلترا لم تروها مياه النمس والكنج
ففغرت فاها لتجرع مياه النيل ونهر جيحون (يعني الاستيلاء على مصر وبلاد
الأفغان لأن نهر جيحون على التخم الشمالي الشرقي من تلك المملكة) كتب السيد
هذا بمصر في عهد إسماعيل باشا. وقد احتلت إنكلترة مصر وإيطالية طرابلس
فصدق ما كان يقال.
وكنّا لا نزال نسمع ونقرأ أن فرنسا ترى أن سوريا لها، وأن إنكلترة ترى أن
البصرة وبغداد وجميع سواحل جزيرة العرب لها - والداخلية تتبع السواحل بالطبع -
كما صرنا نسمع أن لألمانيا قلب الأناطول إلى العراق. ولروسية شمال الأناطول
إلى الآستانة؛ على الخلاف في الغاية؛ أتدخل في المغيا أم لا؟ فما يؤمننا أن يحل
بهذه البلاد ما حل بما قبلها؟ ولا سيما بعد أن رأينا ما حل بولايات مكدونية، ونحن
ننشد في أمثالنا:
من حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته
إن جميع من نعرف من عقلائنا في خوف ووجل من قرب تلك الساعة،
والعرب منهم موقنون بأن الدولة إن قدرت على إيجاد أسطول يحمي سواحل البلاد
التركية القريبة من الآستانة وجزائرها من اليونان أو البلقان، فلن تقدر به عن
حماية سواحل سورية من فرنسة ولا سواحل العراق أو اليمن والحجاز من إنكلترة،
فما حظ بلادهم من الأسطول الذي يبذلون لتأسيسه الإعانات الاختيارية وغير
الاختيارية؟
هذا الخوف على البلاد هو الذي حمل بعض أهل الغيرة على تأسيس الحزب
اللامركزية، وكان المحرك لهم على ذلك صوت رسمي سمعوه من باريس تذكر فيه
فرنسة حقها في سورية ... وكان أول سعيهم الفزع إلى صاحب الدولة رؤوف باشا
المعتمد (القومسير) العثماني بمصر، ومكاشفته بخوفهم على سورية أن تُغِير عليها
فرنسة كما أغارت إيطاليا على طرابلس، وبكونهم ألّفوا من أنفسهم لجنة للسعي إلى
الدفاع سورية، وطلبوا منه أن يكتب إلى الباب العالي بذلك وبما يطلبون من
المساعدة على الاستعداد للدفاع الوطني عن البلاد. ولكن المعتمد لم يجبهم إلى
طلبهم، ولا يزال القرار الذي كتبوه بذلك وما كتبوه في مسألة تنفيذه محفوظًا عندهم.
سمع بعد ذلك الصوت الفرنسي صوت ألماني من برلين معارض له، فاطمأن
القوم بعض الاطمئنان الموقوت، وقويت في نفوسهم فكرة وجوب الاستعداد للدفاع
الوطني - أو المِلي كما يسميه الترك - ووجوب قضاء شبان كل قطر خدمة
العسكرية في قطرهم لأجل ذلك، وعقدوا عدة اجتماعات للمذاكرة في ذلك استطردوا
فيها من مسألة الدفاع ومسألة المال الذي يتوقف عليه كل شيء إلى الجزم بوجوب
ترقية كل قطر بأهله، وتوقف ذلك على الإدارة اللامركزية؛ فوضعوا برنامج
حزب اللامركزية؛ رجاء أن يقنعوا به جميع الأمة العثمانية، لا العرب خاصة.
وفي أثناء ذلك قامت ضجة في بيروت كان من أثرها تأسيس الجمعية
الإصلاحية بإذن والي الولاية، وكان من غرضها أن اتفاق المسلمين والنصارى
على الإصلاح هو الذي يسد ذريعة الاعتداء الأجنبي على البلاد، ثم قامت ضجة
أخرى في العراق وتألفت جمعية إصلاحية عراقية في البصرة.
تلا ذلك صوت عربي من باريس يدعو إلى عقد مؤتمر سوري عربي يكون
أهم مقاصده مقاومة الاحتلال الأجنبي للبلاد. وكان من أمر انعقاده ما هو معروف،
ولم يكن المؤتمر ولا الجمعية الإصلاحية والبيروتية ولا العراقية ولا حزب
اللامركزية سببًا لمداخلة أجنبية قولية ولا فعلية؛ لأن غرض أربابها دفع التدخل
الأجنبي، والمقدمات السلبية لا تنتج نتيجة موجبة.
قام المنافقون للحكومة طلاب الدراهم والوظائف والمناصب يلعنون طلاب
الإصلاح؛ زاعمين أن طلبهم له في تلك الأوقات يحرج الحكومة ويكون ذريعة
لافتئات الأجانب عليها، ولم نر أحدًا منهم شتم الأرمَن ولا لعنهم على استغاثتهم
بأعدى أعداء الدولة من الأجانب ونيلهم ما طلبوا بسعيها! ! وقد كذبهم الحق الواقع
ولا يزالون يهذون بزعمهم أن طلب الإصلاح على قاعدة اللامركزية يفضي إلى
إضاعة البلاد واستيلاء الدول عليها. ومنهم من يخص حزب اللامركزية بهذا
الطعن لاعتقاد أن جمعيتي بيروت والبصرة قد انحلتا. والمنافق الذي يكتب ما لا
يعتقد لأجله إرضاء من ينتفع منهم لا يستحي أن يحول الشيء إلى ضده بالسفسطة
والتمويه.
نرى طلاب اللامركزية موقنين بأنهم لا يعرفون طريقة لبقاء الدولة وحفظ
البلاد ثُم عمرانها إلا ما يطلبونه، ونرى حجتهم ناهضة يذعن لها المنصفون من
غيرهم، وهم يطلبون من كل ذي رأي أن يقنعهم بطريقة يمكن بها حفظ البلاد
العربية من استيلاء الدول الطامعة فيها عليها، ولما يجدوا مقنعًا.
كنت مرة في دار المعتمد العثماني (القومسيرية) بمصر أتكلم في شؤون
الدولة مع إسماعيل حقي بك القائم بأعمال المعتمد الآن، فجاءنا فؤاد بك سليم
(قنصل الدولة الجنرال في سلانيك الآن) ودخل معنا في الحديث، فانتقد فؤاد بك ما
كان من عقد المؤتمر العربي بباريس والمطالبة بالإصلاح في وقت الحرب بمثل ما
كان ينتقده به المعارضون المعتدلون.
فقلت له: كان هذا يقال ويعد محل نظر وبحث في الوقت الذي انعقد فيه
المؤتمر إذا كان سيئو الظن وسيئو القصد يقولون إنه يمكن أن يفضي إلى إتعاب
الدولة أو إيقاعها في مشكلة سياسية، وكان القائمون بالعلم يدفعون هذا ليقينهم بحسن
نيتهم واحتياطهم في عملهم، ثم أيدهم الحق الواقع فانقضت الحرب وانقضى
المؤتمر ولم يكن شيء من عمل طلاب الإصلاح متعبًا للدولة في شيء، وقد قبلوا
كل ما عرضه على المؤتمر مندوب جمعية الاتحاد والترقي، فدل ذلك على حسن
نيتهم، وبراءتهم من المشاغبة ومن المطالب البعيدة عن المعقول حتى عند
الاتحاديين. وانتقدت أنا بعض أعمال الاتحاديين بما عز الجواب المقنع عنه. ثم
انتقلنا إلى المسألة الكبرى.
قال فؤاد بك: إن ما مضى فات خطأً كان أو صوابًا، فما الرأي الآن لسلامة
الدولة وإعلاء شأنها الذي يجب على الجميع السعي له؟
قلت: إن لي في ذلك آراء أشرت إليها في المنار غير مرة ولو علمت أن رجال
الدولة يقبلونها وينفذونها لفصلتها لهم تفصيلاً، وأهمها مسألة سلامة الدولة، فأنا أرى
أن ما توجهت إليه الدولة من اقتراض عشرات الملايين من أوربا لأجل سد عجز
ميزانيتها والقيام بمشروعاتها سيفضي إلى أكبر الأخطار، وأن نظارتي الحربية
والبحرية مهما عملنا لا تستطيع الدولة أن تحمي بها سواحل سورية والحجاز واليمن
والعراق، ولا أن تحول دون احتلال كل دولة من الدول لما تطمع فيه.
قال: إنا نوافقك على هذا فما المخرج منه؟
قلت: لم يبق لنا وسيلة فما أرى إلا مسألة الدفاع الملي؛ لأن الدولة الكبرى
التي نخافها لا تحارب بلادًا لأجل البطش والانتقام والتخريب كما كان يفعل الملوك
في التاريخ القديم، ولا كما يفعل وحوش البلقان، وإنما تفعل هذه الدول كل ما تفعله
لأجل الكسب، فمتى كان أهل البلاد مسلحين مستعدين للدفاع عن بلادهم إذا احتلها
الأجنبي تمتنع الدول عن الاعتداء عليهم؛ وإن كانت ترى أنها لا تعجز عنهم؛ لأن
معاداة الأهالي وتخريب بلادهم يحول دون الانتفاع منها ومنهم ... إلخ. فوافقني
فؤاد بك وكذا إسماعيل بك على ما قلت في هذه المسألة وفي غيرها مما لا حاجة إلى
ذكره.
وجملة القول أن طلاب الإدارة اللامركزية إنما يطلبونها لأنهم يعتقدون أنها
هي المنجية لدولتهم ولبلادهم من الخطر الأجنبي، وأن البلاد لا تعمر إلا بها،
وليس في مطالبهم شيء يمنع أن تكون مقاليد القوة البرية والبحرية والسياسية للدولة
وأن تكون في يد العاصمة.
ولمّا وعدتهم جمعية الاتحاد المتصرفة في الدولة بإجابتهم إلى بعض مطالبهم
رضوا وصبروا وانتظروا. وقد مرّت السنة على انتظارهم ولم يحدثوا شغبًا داخليًّا،
ولا توسطوا الأجانب في شيء من مطالبهم، وهذه جرائد الشرق والغرب تصخّ
مسامعهم بخبر اتفاق الدولة مع الدول الكبرى على جميع سواحل البلاد العربية،
وبإعطائهن الامتيازات فيها، وبإرهاق الولايات كلها بالديون الفاحشة - وتلك طرق
الدول وسلاحها في الفتح السلمي - فيزدادون خوفًا ورعبًا من سوء العاقبة وخطر
المستقبل. أفليس من سنة الله في غرائز البشر وفطرهم وممّا توجبه عليهم أديانهم
وشرائعهم، وما تطالبهم به حقوق أمتهم وبلادهم، أن يبحثوا عن المأمن من الخوف
والموئل من الفزع، والمنجاة من الخطر؟ ؟ أَوَليس من مقتضى الفطرة والشريعة
أن يطالب الإنسان لنفسه - فوق تجنب الهلكة - عيشةً راضية، وحالة حسنة
عزيزة؟
عقدت جمعية الاتحاد الاتفاق بين مندوبها (مدحت بك شكري) ومندوب
حزب اللامركزية في المؤتمر العربي (السيد الزهراوي) وصدقت حكومتها على
بعض ما وقع عليه الاتفاق وصدرت به الإرادة السلطانية. ثُم عينت الحكومة
السيد الزهروي عضوًا في مجلس الأعيان فقبل ذلك ليكون مطلعًا ومساعدًا على
تنفيذ الإصلاح الموعود به قولاً وكتابةً. فلم يستفد حزب اللامركزية من ذلك إلا لوم
كثير من الأصدقاء وذم كثير من غير الأصدقاء واتهامه بأنه يسعى للمناصب
والوظائف خلافًا للعهود والوعود. وقد احتمل الحزب كل هذا لتكون له الحجة على
الأمة إذا نفذت الحكومة الإصلاح، والحجة على الحكومة إذا لم تنفذه، وهو لا
حجة عليه مطلقًا.
الحزب لم يقل إنه لا يقبل الوظائف ولكنه فعل، فلم يدخل أحد من أعضائه
في خدمة الحكومة. وقد بينا قضية السيد الزهراوي من قبل، ونزيده بيانًا.
الرجل ثقة مقبول الرواية عند الحزب. وقد كتب إلى الحزب أنه آنس من الحكومة
عزمًا على الإصلاح المطلوب وأنها تريد أن تعتمد على الثقات المخلصين من
العرب وتستعين بهم على إصلاح بلادهم، وأنها تكن معذورة في قبول المنافقين إذا
تجنبتها فئة المصلحين الصادقين. ولما تكررت هذه الكتابة منه رغب إليه رئيس
الحزب وغيره من أصدقائه بأن يزور مصر قبل افتتاح المجلس ويوقف إخوانه على
حقيقة ما رآه، ويفسّر لهم ما أَشْكَل عليهم من أعمال الحكومة (كتقوية إمام اليمن
على السيد الإدريسي وتسليح ابن الرشيد أمام ابن سعود وغير ذلك مع قدرتها على
الإصلاح بين الجميع والاستفادة منهم) فأجاب الدعوة، وتكرم بالزيارة، وأكّد بلسانه
مضمون ما كان يكتبه بقلمه؛ مِن أن الدولة تريد إصلاح بلاد العرب ولكنها لا تقدر
على تنفيذ ذلك إلا بالتدريج، ووعد بأن يراجع أصحاب الشأن في المسائل التي لم
يقف على حقيقتها كمسألة جزيرة العرب وأمرائها، ويوقف إخوانه على ما يقف
عليه منها.
والخلاصة أن طلاب الإصلاح اللامركزي في مصر وغيرها من الأقطار لا
يزالون في خوف ووجل على بلادهم ودولتهم، ولم يسمعوا قولاً ولا رأوا فعلاً يفيد
الاطمئنان؛ فالأقوال مضطربة، والأفعال مشتبهة.
لا ننكر أن الوزارة الحاضرة قد هبت للعمل هبّةً شديدة، ووثبت في سياستها
وثبةً بعيدة، وأظهر أفرادها من الهمّة والذكاء والجرأة ما لا نعرف له نظيرًا في
تاريخ هذه الدولة، فأقدموا على اقتراض عشرات الملايين من أوربة، وإعطاء
حكوماتها وشركاتها الامتيازات الكثيرة، والمساعدة على إزالة التنازع والخلاف
الذي بين الدول على منافع بلادها، ونفوذهن الاقتصادي والسياسي فيها، وتمهيد
السبيل للصهيونيين لاستعمار مملكة فلسطين، والشروع في تقوية الأسطول،
وفتح المدارس الكثيرة في الآستانة والأناطول، وإيجاد مشروعات الصناعة
والزراعة الحديثة في البلاد التركية، وإجابة الأرمن إلى ما طلبوا لبلادهم، ووعد
العرب بالتفضل عليهم ببعض مطالبهم وإرضاء بعض الأذكياء الظاهرين منهم
بالوظائف، وتفننت في جمع الإعانات من الأمة بأسماء مختلفة، وأساليب متعددة؛
من وطنية ودينية جائزة وغير جائزة، كل ذلك من مظاهر الذكاء والهمة والإقدام،
ولكن طلاب الإصلاح ازدادوا به خوفًا على البلاد لِمَا تجدد من زيادة حقوق الأجانب
فيها وديونهم عليها. مع الجزم بأن كل ما شرع فيه من وسائل القوى، لا يجعل
الدولة كفؤًا لدولة من هذه الدول الطامعة، فكيف والدول لا تعمل إلا مجتمعة متفقة؟
ولا هو وسيلة لعمران المملكة، واتحاد عناصرها المختلفة.
وإنما الإصلاح الذي يعقلونه هو أن تكون قوة كل قطر فيه وعمرانه بأيدي
أهله، وأن نجتنب الديون الأجنبية قدر الطاقة، ويكون حظ البلاد التي تحمل هذا
الدين مقسومًا بينها بنسبة ما تحمله منه. وأن توجه العناية والهمة والذكاء والإقدام
إلى استثمار الأمة بمساعدة الدولة لخيرات البلاد. فهذه الينابيع الكثيرة لزيت
البترول في العراق وغيره (مثلاً) لا تحتاج إلى نفقات كثيرة، ولا إلى علوم
وفنون كثيرة، وهي ثروة ستضاعف على مرّ السنين لأنها ستحل محل الفحم
الحجري في السفن الحربية وغيرها؛ فلماذا تمنحها الدولة للأجانب دون الأهالي؟
ولماذا لا تخصص من هذه الملايين التي تقترضها جزءًا قليلاً لتعليم مئات من شبان
الأمة ما يلزم من الفنون لاستخراجها.
وقصارى القول: إن طلاب الإصلاح لا يرجعون عن شيء من مطالبهم
بشتم بعض السفهاء لهم، وإنما يرجعون عمّا تقوم الحجة على ضرره، ويساعدون
الدولة على كل ما يقوم عندهم الدليل على نفعه، وهكذا شأن المخلصين، والعاقبة
للمتقين.