بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وسيد أنبيائه ورسله وعلى آله، وصحبه أجمعين. لَمْ أكن منذ تصديت لاكتساب المعارف، والنظر في علوم الدين أرغب في الاطلاع على جريدة، أو صرف مدة في إمعان النظر في مجلة لما انغرس في فكري من قلة الفائدة بذلك، وتضييع الوقت حتى ملأت مسمعي ضوضاء المجلات وتعرضها للدين. كل على حسب أغراضه ودواعيه فتاقت نفسي لمطالعة بعضها وتفريغ وقت لتسريح النظر فيها، وأولها وقع في يدي كراريس وصحف متفرقة من مجلة الإسلام في عصر العلم فأعجبني من منشئها الفاضل الحمية للإسلام، وعلو همته، وتعلقه بأمور عالية يعم نفعها، وتكثر حاجة الوقت إلى بسطها ونشرها، ونسأله تعالى أن يمده بسعة الباع، وكثرة الأعوان، وعوز الاطلاع، وقد رأيته يدور حول مركز لا يعدوه، ويقرع بابًا ربما يفتح له إن أدمن، وإلا فحسبه ثواب حسن النية، ولكل امرئ ما نوى، وقد انقطع صوته عني منذ برهة. وعسى أن تفتح له أبواب مقاصده، ويتسع عليه مجاله، وتزول العوائق عن سير مجلته، وينفع الخاصة والعامة بما يهتدي إليه ويهديه للأمة من دواء دائها العضال. ومنذ أيام أتحفت بالمجلد الخامس من مجلتكم الغراء حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل النور الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته وزكت جرثومته , فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب عن طيب أصله أقواله وسجاياه. مما استعذبته - وكلها عذب سائغ - تأليفكم بين فرق الإسلام، ورفع الوحشة التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر، وفشت بين العامة والخاصة حتى فتت في عضد الاجتماع، وحلت عرى الارتباط , وخيل للسواد أن لا جامع ولا رابط، وأن البون بعيد المسافة، والقرن مبتول ومنفصم، وجعلوا لكل فرقة نبزًا تمتاز به، ونسبة تنحاز إليها، وما هي إلا فتنة ألقحها من الماضين حب تشتت الرأي في ذوي الآراء، وإلجائهم للمناظرة واستحكام شبهة للبعض، حتى أصر كل على رأيه، ولم يكن في شيء من دعائم الدين، ولا في الضروريات من أصوله، ولا في أمهات فروعه، أترى فيهم حاشاهم من يشك في التوحيد، أو ينازع في النبوة أو يخالف في المعاد، أو يتأمل في وجوب الصلاة , أو ينتظر في افتراض الزكاة , أو يناقش في الحج، أو يثبط عن حفظ بيضة الإسلام وحوزته؟ كلا، وإنما ذاك في أمور، وربما يعذر المخطئ بها بل يؤجر بعد الاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في النظر بالمقدمات التي يتوقف عليها البرهان، وإتقانها وأحكامها حسب الجهد والإمكان {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) وما هو إلا كاختلاف الأئمة - رضوان الله عليهم - (الذي هو رحمة للأمة) في فروع لم تعلم من نص الكتاب ولا من السنة المتواترة، ولا من إجماع الأمة والأصحاب. على أن ذلك في الكثير يسير، وفي الباقي لفظي يئول إلى الوفاق في المقصد، والاتحاد في المراد، وإن اختلف التعبير. وحسبك في ذلك ما يقتبس من رسالة التوحيد لأستاذ الكل ووحيد هذا العصر أو من نظيره قل , عليم العلوم الذي عم مده، الشيخ محمد عبده كثر الله في الأمة أمثاله، وزاد بين الورى إعظامه وإجلاله، فكم له فيها من حز أصاب المفصل ورمية لم يخط بها الغرض، وإن خفي على المتأمل، وتحقيق كشف به الحُجَّاب لأولي البصائر والألباب، ولم يدع بعده عذرًا لمنكرٍ ولا مرتاب , وحاشا أن تخلو الأرض من عامل يعمل فيها بخير وهدى، وداع يدعو فيها إلى طريق نجاة ورشاد للورى، فكم دافع عن الإيمان بلسان أمضى من السنان، وعن الإسلام بأقلام أمض وقعًا في الكفر من مريشات السهام، وعن الحنيفية البيضاء بمسود مداد أقطع من البيض الحداد، أوضح مع الإيجاز أدلة التوحيد بعد إثبات الواجب بما لا يطلب المتأمل بعده من مزيد , وجال جولة في بيان ما يمكن الوصول إليه من الصفات - أغنى بها المنصف عن اللجاج والتعرض للهلكات - وأوجز في صفتي الكلام والبصر ما فيه البلاغ والعبر، وتكلم في أفعاله تعالى بما يسبق إلى القلوب اعتقاده، وألف بين الفريقين كما هو حري أن يتبع، وقرب ما توهم استبعاده، وسلك في الجبر والاختيار جادة الاعتدال، ومال في مبحث حسن الأفعال إلى أحسن الأقوال، وبسط القول في النبوة والرسالة حتى أوضح الحق وقمع الجهالة , وألف في مبحث الرؤية بين الفريقين، ورفع الوحشة، وأزال النزاع من البين , وذلك الفضل من الله يؤتيه من عبادة من يشاء , ويمنحه من سبقت له العناية فيه منذ فطر الأشياء؛ فجدير بمصر أن تفتخر بمن فيها من أفاضل العصر , وحقيق بحملة العلم في كل قطر أن ترفع أيدي الابتهال لعزة ذي الجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد , والتوفيق لنصرة الدين، وإيضاح الحق، ودحض الباطل، وإرشاد الضال , وجمع الكلمة وإحكام الألفة بين المسلمين. إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير آمين آمين. (لها بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز) ((يتبع بمقال تالٍ))