للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعليم الذي ترتقي به الأمة

أكثر الناس في بلاد الشرق - بلاد البطالة والكسل - يفنون أزمنتهم بالعبث
واللغو من القول، فلا تسمع منهم في أنديتهم وسمّارهم إلا الخوض بفلان والإزراء
بعلاّن ومما أشبه ذلك مما هنا وهنالك، ورب فئة قليلة تحب الجد وتختار للبحث
والحوار المسائل النافعة، وقد كتبنا مقالة في الجزء الرابع والعشرين من السنة
الماضية في موضوع حديثهم في سامر من سمارهم وهو إصلاح الدولة العلية،
ونذكر ههنا أنهم رأوا أن يقترحوا على كل واحد منهم كلما ضمهم نادٍ أو سامرٌ أن
يتكلم في مسألة من المسائل النافعة، وابتدؤوا بالاقتراح على كاتب هذه السطور أن
يتكلم في التعليم النافع للمسلمين فأجاب، وإنني أذكر بعض ما قلته هناك ملخصًا وقد
ابتدأت بذكر عيوب التعليم عندنا وهي:
العيب الأول:
عدم اللغة: إحياء العلم لا يكون إلا بلغة حية، ولغة الإسلام والمسلمين العربية
ولكنهم أهملوا تعلمها وتعليمها حتى إنني أقول ما قلته من قبل: إنني لا أعرف مدرسة
في الدنيا تعلّم فيها اللغة العربية الصحيحة، ومن عنده حظ من هذه اللغة فإنما تعلّمه
بنفسه؛ لاهتدائه إلى طريقة التعلم بذكائه أو بإرشاد مرشد آخر، وستأتي الإشارة إلى
كيفية هذا التعلم، وإن كان المنار قد فصله من قبل تفصيلاً.
العيب الثاني:
في اختلاف منابع التعليم: التعليم النافع هو ما يكون فيه قوام الأمة وترقيها،
والترقي إنما يكون بالرجال المتعلمين العلم النافع لها؛ لأن زمامها يكون في أيديهم،
وقواد الأمة يجب أن يكونوا متفقين في مقاصدهم الإصلاحية، وإنما يكون هذا الاتفاق
والاتحاد إذا كانت تربية عقولهم وأفكارهم متحدة، ولن تكون متحدة إلا إذا كان
التعليم من منبع واحد.
والتعليم في بلادنا بعضه في مدارس الحكومة وبعضه في المدارس الأجنبية من
فرنسوية وأميركانية وإنكليزية وإسرائيلية، وليس منه شيء موافق لحاجة الأمة،
ومنطبق على مصلحتها فإن لكل صنف من هذه الأصناف مقصد من التعليم إما
سياسيّ وإما ديني غير إسلامي، والتعليم في المدارس الأهلية الإسلامية ناقص بحيث
يصح أن نقول: إنه دون كل تعليم، ولا أستثني المدرسة الدينية الإسلامية الكبرى
وهي الجامع الأزهر فكلنا نعرف أنها ليس فيها غناء وأنها مقصرة كل التقصير في
وظيفتها الأولى وهي إحياء اللغة العربية وعلوم الدين. على أن علم الدين لا يكاد يوجد في علم الأزهر وما يتبعه من المساجد فهو على نقصه خير من غيره من هذه الجهة (ومن للعُمْي بالعور) .
العيب ٣: عدم التربية.
التعليم لا يفيد النجاح المطلوب للأمة إلا إذا كان مقارنًا للتربية الملية القومية،
وهذه التربية مفقودة عندنا؛ لأن القائمين على أمر التعليم لا يهمهم أمرها بل هو
مباين لمقصدهم السياسي والديني. على أنهم لو حاولوها لما أحسنوها؛ لأنه لا
يحسن الشيء إلا من يتوجه إليه بباعث الشعور بحاجته وحاجة أمته إليه مع العلم
بطريقه الطبيعي.
وقد علمنا أن أكثر المسلمين المشتغلين بالتعليم جاهلون بطرقه وعادمو الإحساس
والشعور بالحاجة الملية القومية. وعلمنا حال مدارس الأجانب ولمدارس الحكومة في
مصر حكمها؛ لأن روح التعليم فيها إنكليزي استعماري لا إنكليزي سكسوني. ولا
يحسبنّ أحد أن مدارس الحكومة في بلاد الدولة العلية أمثل وأنفع من مدارس الحكومة
في مصر، بل الصواب أنها دونها في كل البلاد لا سيما العربية منها إلا مدارس دار
السلطنة فإنها أرقى من مدارس مصر؛ لأنها فيها روحًا وطنيًّا حقيقيًّا عجزت
السياسة عن إزهاقه.
هذه هي العيوب الأساسية للتعليم في البلاد الإسلامية، أما إزالة هذه العيوب
من مواطنها؛ فلا سبيل إليه ولا طاقة لنا به، ولكن من الممكن السعي في إيجاد تعليم
نافع وتربية قويمة، والطريق إليه واحد وهو إنشاء المدارس الكلية التي تربي
الناشئين وتعلمهم التعليم الابتدائي والتجهيزي والعالي، ولكنه طريق يعسر تطريقه
وإشراعه؛ لأننا فقراء في المال وفي العلوم والعقول، وهذا الفقر المعنوي أشد فينا
فتكًا، ولكنه لا يعوزنا ويعجزنا في طريقنا هذا كما يعجزنا ويعوزنا الفقر المادي، فإن
مَن أوتي نصيبًا من العلم والعقل والأدب يجود بما عنده مرتاحًا إليه إذا رجا الانتفاع به
ولكن الذين أوتوا المال منا قد أوتوا معه البخل والسفه معًا، فهم يبذلون المال في
طرق الفساد بغير حساب، ولا يخرج من أيديهم درهم في طريق الخير إلا نكدًا.
وليس المقام مقام بيان تطريق الطريق لإنشاء مدرسة كلية في مصر ولكنني أقول: إن هذه الفئة تحب خدمة أمتها إذا لم تجتهد في إنشاء هذه المدرسة فلنا أن
نحكم بأنها لم تعمل شيئًا يذكر، وإذا هي لم تعمل فلا ندري متى تلد أرض مصر
خيرًا منها ليعمل خيرًا من عملها.
أما التعليم والتربية في الكلية فلا نبحث فيهما؛ لأن الحاضرين يعرفون هذا
الفن (البيداجوجيا) ، وإنما ننبه على وجوب إحياء اللغة العربية بالعمل بأن يكون
الكلام العربي الصحيح هو اللسان الرسميّ فيها، ويعلم كما تعلم اللغات الأخرى في
المدارس لا كما يعلم هو فيها.
وأما تعليم الدين فيجب أن يكون أساسه القرآن والسنة الصحيحة ومعرفة
الإجماع وأن يعدّ كل ما وراء هذا من الخلاف بين أئمة المسلمين وعلمائهم
كالخلاف في المسائل العلمية، لا ينكث من فتل الأخوة الإسلامية، وكل ما هو من
أعمال الجوارح يكون تعليمه بالعمل كالصلاة مثلاً، وما عدا ذلك يعلم بالقول. وأما
التربية فمما يجب التنبيه عليه وتربية الإرادة والعزيمة التي هي منشأ
الاستقلال الشخصي، والنوعيّ تبع للشخصي، وتربية الأخلاق بملاحظة
السيرة والسلوك، وتربية الخيال التي تعد للخطابة والشعريات المؤثرة في النفوس،
هذا ما أراه نافعًا من التعليم الإسلامي، وفّق الله المسلمين لتحقيقه، والسير طريقه، آمينَ.