(إعلان استقلال سورية) كان جل اشتغالنا في دمشق وأهمه في الأسبوع الأول من جمادى الآخرة، أو الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) سنة ١٩٢٠ محصورًا في الاستعداد لإعلان استقلال سورية المتحدة، فلم يدر بيني وبين فيصل أحاديث خاصة في غير هذا، فأكتبها بعد إرسال وفده إلى مصر فالحجاز. ولقد كنت على ما أعلم أول من اقترح على الإخوان في دمشق، ثم على المرحوم يوسف بك العظمة في بيروت أن تعلن سورية استقلالها التام المطلق، وتجعل دول الحلفاء معها أمام أمر واقع - كما يقال - ولما عاد الأمير فيصل من أوربة ليقيم أسبوعًا واحدًا يأخذ فيه تفويض البلاد إياه أو توكيلها له في المسألة السورية، وأبى عليه الزعماء وجمهور الإخوان هذا التوكيل رأوا أن خير ما يشغله أو يصرفه عن العودة إلى أوربة للاتفاق مع فرنسة وإنكلترة على شكل الانتداب الذي رضيه أن يقنعوه بإعلان الاستقلال، ونصبه ملكًا على البلاد، فاقتنع ظانًّا أن ما يرون أنه هو الصارف له عن ذلك هو أقوى ما يمكنه منه، وهو يرى أنه لا مندوحة عنه. وكان أول عمل لحزب الاستقلال بالاتفاق مع الأمير دعوة أعضاء المؤتمر العام إلى دمشق، ثم وضع الأساس الذي يبنى عليه الاستقلال، فعقدوا لهذا جلسات في دار علي رضا باشا الركابي، ودار رفيق بك التميمي وغيرها كنت أحضرها إلى أن قرروا بموافقة الأمير أن أذهب إلى بيروت لإقناع زعمائها، والمجيء بهم إلى دمشق؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن إجابة الدعوة، فسافرت إلى بيروت في أول مارس، ولم أتمكن من جمع كلمتهم المتفرقة إلا في مدة أسبوع كامل، كانت آخر ليلة منه آخر جلسة لنا معهم في دار الاعتماد التي يشغلها باسم حكومة الشام يوسف بك العظمة، وقد كتبت عنها في مذكرتي ما يلي: يوم الأحد ٧ مارس (١٦ جمادى الآخرة) اجتمع مندوبو بيروت البارحة بدار الاعتماد، وتذاكروا في مسألة السفر فاختلفوا، وكان رأي الأكثرين عدم السفر حتى يجيء من الشام نبأ رسمي بتحديد جلسة المؤتمر المنتظرة، ورأي أبي علي سلام السفر، فوافقته، وأصررنا فاقتنعوا وسافرنا صباح اليوم. وصلنا إلى الشام الساعة ٤ و٣٥ ق مساء، فوجدنا المؤتمر مجتمعًا، فصليت الظهر والعصر جمع تأخير، وحضرت الجلسة فوجدت البحث دائرًا على خطاب المؤتمر إلى الأمير فيصل، فطلبت أن يقرأ علينا كتابه إلى المؤتمر - وكان قد قرئ - فأعيدت قراءته، واقترحت شيئًا من التعديل والإصلاح في جواب المؤتمر له فقبل. ثم قرئ في الجلسة قرار المؤتمر (ونوقش فيه) وعُهِدَ إليّ أخيرًا تصحيح عبارته. اهـ ما كتبته بعد الجلسة من تلك الليلة لأجل الذكرى، وهذا القرار حُرر في أثناء غيبتي في بيروت بعد تلك الجلسات التي عُقِدَت للبحث في موضوعه، وأشرت إليها آنفًا. وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك. وإنني بهذه المناسبة أذكر ما كتبته في مذكرتي عن الجلسات الأخيرة التي حضرتها قبل سفري إلى بيروت، لما فيها من تفصيل هذه المسألة، والعبرة بل العبر الكثيرة فيما يسمونه الحالة الروحية في ذلك المؤتمر، بل في سورية كلها، وهذا نصها: (يوم السبت ٨ جمادى الآخرة ٢٨ فبراير) دعاني الإخوان إلى جلسة بدار رفيق التميمي للمذاكرة فيما يبنى عليه إعلان الاستقلال فقرأ عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر شيئًا كتبه في معنى ما كنا بيناه في جلسة عند توفيق بك الناطور؛ ولكنه ترك فيها أهم ما اقترحته عليهم في تلك الجلسة، وهو بناء التقرير على قاعدة كون الاستقلال السياسي حقًّا طبيعيًّا للشعوب، كما أن الحرية الشخصية حق طبيعي للأفراد، وقاعدة قيام العرب من السوريين وغيرهم بثورة على حكومتهم التركية ونجاحهم فيها، وذكر النص المؤيد لذلك من القانون الدولي، وقاعدة اعتراف مؤتمر الصلح العام لبلادنا بالاستقلال، وإيداعه في المادة ٢٢ من عهد عصبة الأمم ... إلخ، نعم إنه ذكر فيما كتبه اسم الثورة، ولكن بغير هذه الصورة والقوة، فقال رفيق التميمي: إن هذه الصورة حسنة؛ ولكنها تشبه المقالة. (قلت: المراد الموضوع لا الأسلوب) وسألت عوني بك عبد الهادي عما كلفته إياه وأمره الأمير به بناء على اقتراحي من استخراج الشهادات الرسمية (من قبل الدولة البريطانية) للجيش العربي، فإذا هو لم يأت إلا بعبارة اللورد كرزون منها. يوم الأحد ٩ جمادى الآخرة ٢٩ فبراير (شباط) اجتمعنا البارحة بالإخوان في دار الركابي باشا، وتناقشنا في عدة مسائل مما يتعلق بقرار إعلان الاستقلال، وتأليف حكومة جديدة ملكها فيصل، ودينها الإسلام، منها مسألة العلم السوري، ومن يعلن الاستقلال؟ الأمير أم المؤتمر؟ وغير ذلك مما سبق البحث في جلستين سابقتين، وكان ترجح أن يكون لسورية علم مستقل غير علم الحجاز المرفوع الآن في الشام وملحقاتها، وتقرر هذا ولكن لم يتقرر شكل العلم، ثم إن بعضهم قال في هذه الجلسة: إن الأمير فيصلاً لم يقل ذلك بحال، وقال: إنه يسوء والده الملك جدًّا؛ ولكنه يقبل أن يوضع في العلم الحجازي علامة إجبارية كصورة نجم في المثلث الأحمر، أو في غيره، واختلف الرأي في تبديله، أو إبقائه مع علامة فيه. فتقرر الثاني بأغلبية ضعيفة هي واحد أو اثنين. اهـ. (يوم الإثنين أول مارس قبل سفري إلى بيروت) اجتمعنا بالإخوان ليلة الإثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضًا، وكان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون للحكومة (شيخ إسلام) أو وزير للأمور الشرعية أم لا؟ وعلى الأول؛ هل يكون من أعضاء مجلس الوكلاء أو الوزراء أم لا؟ فقال بعضهم بالسلب (أي: لا حاجة إلى وزير ديني أو إسلامي) ! وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني بيان رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه: (١) مكان العرب من الإسلام، وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين. (٢) كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا لا يمكننا الاستفادة منه إلا إذا كان لحكومتنا صفة إسلامية. (٣) ما استفاده الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم الإسلام من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار عليهم، وانتصارهم لهم إلى الآن، وكون هذا من أسباب بقاء ملكهم على اختلاله إلى اليوم [*] . (٤) كون العرب في الجزيرة لا يمكن جمع كلمتهم، وتكوين وحدتهم إلا بدعوة دينية - كما حققه ابن خلدون من قبل - ولا يمكن لسورية أن تبقى مملكة مستقلة، إلا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها. (٥) كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام اعتقادًا وإيمانًا، فإذا جعلنا حكومة سورية مجردة من الصفة الإسلامية يوشك أن يقلبوها بدعوة دينية في أول فرصة. (٦) ما تقرر في علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحًا للأمة، إلا إذا كان مراعى فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها، وعلى هذا يجب أن تكون الشريعة هي المستمد الأعظم للقوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين حكومتنا بالإسلام، وعدها أئمة الفقه كعلماء القوانين، فإذن لا بد لنا من وزير شرعي، ومن رجال آخرين من علماء الشرع لهذه الحكومة. (٧) كون شريعتنا صالحة لهذه الزمان كغيره، وليس فيها ما ينافي المدنية إذا لم تتقيد بمذهب الحنفية أو غيره، وذكرت أمثلة في ذلك وقواعد شرعية، فاعتمدوا رأيي وقرروه. اهـ. هذا ما كتبته من خلاصة تلك الجلسة الطويلة في ذلك الوقت القصير، وقت السفر، ولكن ما تقرر بعد سفري لم يُبن عليه، ولم يمنع أن يقترح بعضهم أن يكتب في نص قرار الاستقلال جعل الحكومة السورية لا دينية. وقد ظهر بعد ذلك من العبر في المؤتمر نفسه ما قد نبينه عند سنوح الفرصة له، وأغربه ما نجم من رؤوس الإلحاد والإباحة في أثناء المناقشة في القانون الأساسي للدولة السورية. هذا وإن ما كان من الجلسات الخاصة بيني وبين الملك فيصل بعد إعلان الاستقلال قد انحصر في صباح يومي الجمعة والأحد؛ إذ لا تُعْقَد فيهما جلسات المؤتمر، وقد نفذ ما كنا قررناه من إرسال وفد إلى ابن السعود بكتاب منه، وكتاب مني، ثم تجددت أمور اختلف فيها رأيي مع رأيه، وسألخص ما أراه مفيدًا من ذلك. ((يتبع بمقال تالٍ))