للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة كتاب الحكمة الشرعية
في محاكمة القادرية والرفاعية [*]

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٣-١٠٥) .
تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا ينكب عن
نهجها ويرغب عن هديها إلا القوم الضالون.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ *
وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا
فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثية: ٦-٨) .
هذا خطاب الله تعالى لنا في كتابه المعصوم، وهو الإمام الحق الهادي إلى
سواء السبيل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد،
أمرنا بالاعتصام بحبله المتين، ونهانا عن تفرق الكلمة واختلاف الوجهة، وامتن
علينا بتأليف القلوب والاتحاد في سبيل الحق حتى أصبحت رابطتنا الملية
كالعصبية الجنسية، وأفراد أبناء الملة باجتماعهم واتحادهم الديني كالإخوة في القرابة
النسبية، الذين يرجعون إلى أصل واحد يعرفونه ولا ينكره منهم أحد. وأنذرنا بأن
المتفرقين عن الحق والمختلفين فيه بعد مجيء البينات وتبيين الآيات، هم الذين
يمسهم العذاب العظيم، وأكد لنا النهي بتكريره لكيلا نكون كالفريق المتفرق فيجري
علينا حكم سنته العادلة وحكمته البالغة، هذا بعد ما نبهنا على أنه ما بين لنا ذلك إلا
رجاء اهتدائنا بالتمسك بهديه والاعتصام بحبله، وفرض علينا القيام بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، لئلا يجهل أحد منا ما أمر الله به ونهى عنه، فينبذ
الطاعة ويشذ عن الجماعة، فيسقط في مهاوي الهلكة، وتفترسه الذئاب العادية،
ويكون عبرة للمعتبرين.
لقد صدقنا الله تعالى وعده ووعيده، وظهر فينا تأويل كتابه، ونفذ في أبناء
ملتنا حكم سنته في أهل الشقاق والافتراق، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون.
كانوا من عهد نبيهم (عليه الصلاة والسلام) والخلفاء الراشدين المهديين من
بعده متمسكين بكتاب الله المبين، ومعتصمين بحبله المتين، كلمتهم واحدة،
ووجهتهم متفقة، فافتتحوا الفتوحات، ونشروا لواء العدل، واتسع سلطان ملكهم بما
أزالوا من سلطة الفرس والرومان وغيرهما، حتى كان في أواخر مدة الخلافة
الراشدة ما كان من الاختلاف والافتراق، أثار ما أثار مما لا يخفى على أولي
الأبصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم لما سكنت الزعازع، وسكت المنازَع للمنازِع، وخضع المسلمون لأمير
واحد، انشعب صدعهم واندمل جرحهم وتنبهوا لمصالحهم وتيقظوا للقيام بشؤونهم،
فاندفعوا كالسيل يتسابقون لاكتساب الكمال وإدراك المجد المؤثل، فتغلبوا على
الممالك، وتوسعوا في مجال الفنون من العلوم والصنائع، وأظهر الله تعالى دينهم على
الدين كله، حتى دخل فيه في أقل من قرن واحد أكثر من مائة ألف نفس من غير
حرب ولا كفاح، وافتتحوا في نحو ثمانين سنة زيادة عما افتتحه الرومانيون في
ثمانمائة سنة، فامتد ملكهم من القاموس الأتلاتنيك من جهة المغرب، إلى تونكين
الصينية في أطراف المشرق، ودام لهم هذا السلطان باتفاقهم وتضافرهم إلى أمد
ليس بقريب، وهم في خفض من العيش ورغد من الحياة، لا يضارعهم في ذلك
مضارع، ولا ينازعهم فيه منازع، ثم لما تعددت فيهم الأمراء، وانقسم ملكهم إلى عدة
ممالك، كل مملكة تستقل تحت رياسة سلطان، وذهلوا عن مخالفة ذلك لأصول دينهم
الراسخة جذورها في تربة الحكمة الطيبة، الضاربة فروعها في سماء المجد والعزة،
وإنما بمراعاتها جنوا ما جنوه من ثمرات السعادة - انظر ماذا آل إليه أمرهم، لم يلبثوا
إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم، حتى تناكرت الوجوه، وتقلبت القلوب، واختلفت
رغائب الأمراء، وعكف كل على شأن نفسه يعمل لها لا للأمة، فصار نهارهم ليلاً
ووزنهم كيلاً، فنزلت بهم المصائب، وانتابتهم النوائب، فمزقت بمخالبها أديمهم،
ومضغت بأنيابها لحومهم، وصاروا سلفًا ومثلاً للآخرين. فلو راجعت تاريخهم
واستقريت أنباءهم ورأيت كيف عاث في بلادهم جنكيز خان التتاري وأحفاده، وكيف
فتك بهم تيمور لنك وأضرابه، ثم كيف فاض عليهم طوفان أوروبا في الحروب
الصليبية، وسمعت صدى أصوات نسائهم منعكسًا عن صفحات الكتب تدعو بالويل
والثبور لهتك الستور وعظائم الأمور - لفاضت عيناك حزنًا، وتمزق فؤادك أسى
وشجنًا.
ثم ارجع البصر كرتين نحو غربي بلادهم وشرقيها، وتأمل ما حل بهم في
الأندلس، واسحب أشعة نظرك على ما نزل بغيرها من بلادهم، حتى تنتهي إلى
البلاد الهندية والمماليك التيمورية، التى تغلبت عليها الأمة البريطانية، ولعلك قد
شاهدت أو حدثك من شاهد ما رزءوا به بعد ذلك من جور المتغلبين، وطمع
الطامعين، ولا تزال الفتنة ترمي في بلادهم بشرر كالقصر، وكادت تعم كل بادية
ومصر. ولا أرى عاقلاً يرتاب في أن كل ذلك نتيجة تفرقهم واختلافهم وتشتت
أهوائهم، وهو ما حذرهم الله غايته، وأنذرهم مغبته، فتماروا بالنذر، فأخذهم الله
بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق، وما ربك بظلام للعبيد. ولا رجاء في الأمن
على ما بقي لهم - فضلاً عن استرجاع ما سلب منهم - إلا أن يتحدوا جميعاً تحت لواء
الخلافة، ويكونوا كجسم واحد: إذا تألم له عضو تداعى له سائر الجسد، وكالبنيان
يشد بعضه بعضًا، كما جاء في هدي صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله
وسلم.
إن الدين الإسلامي كان أول ظهوره في الأمه العربية، وهى أشد الأمم تعصبًا
للجنس وتحزبًا له، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وانتزع من
قلوبهم حمية الجاهلية، وامتلخ من نفوسهم التعصب للجنس والمشرب، ومن كلام
صاحب النبوة عليه السلام (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على
عصبية) حتى لم يبق للآخذين بهذا الدين عصبية في غير دينهم، وسواء في ذلك
العربي والعجمي، ألم تر أن الوالد كان يقتل ولده لأجل الدين ولا تصده عن الفتك به
رحمة الأبوة، والولد يقتل أباه ولا تمنعه من سفك دمه حرمة الوالدية، نعم، إنهم
كانوا يقفون في تعصبهم موقف الاعتدال ولا يتعدون - ولا سيما في حال السلم -
حدود الفضيلة والكمال، كما ترشد إليه آداب الشريعة. ولم يرسخ في نفوس
المسلمين في أوائل نشأتهم خلق إلا ما كان مستنداً إلى أمر ديني، ولم تجتمع كلمتهم
للقيام بشأن من الشؤون إلا أن يكون عن باعث الدين. ثم لما افترق المسلمون شيعًا،
وانقسموا في الأصول إلى عدة مذاهب، وكان كل يدعو إلى مذهبه عن وازع الدين،
كان لهذا الاختلاف اليد الطائلة في تفرق الكلمة وفساد بعض الملوك والأمراء، وكان
لذلك من سوء العاقبة ما لا يجهله من نظر في دواوين المؤرخين وأسفار
الأخبار، وهذا من أوضح الشواهد وأبين الآيات على أن الحق في الأصول لا يتعدد،
وأن المصيب واحد، ومن عداه كافر أو مبتدع، وأن اختلاف المذاهب تفرق في
الدين، والله تعالى يقول {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣)
فالدين يدعو إلى الاجتماع والتوحيد، والتمذهب يدعو إلى الفرقة والتبديد، فهو ضد
الدين وأثره مناقض لأثره. ومن مقومات سعادة هذه الأمة أن يجتمع علماء
المذاهب والفرق، لا سيما الفرقتان العظيمتان: أهل السنة والشيعة، ويفرغوا
وسعهم لإدالة الحلاف من الخلاف، واستبدال الوفاق بالشقاق، ومتى جعلوا غرضهم
الحق، ورائدهم الإنصاف اهتدوا إلى الصراط المستقيم.
إن الخلاف في الأصول زعزع أركان الإسلام، بخلاف اختلاف الأئمة
المجتهدين في الفروع، ولا سيما في المعاملات والأحكام القضائية التي يحكم فيها
العرف وتختلف باختلاف الزمان، فإنه قد يتعدد الحق فيها، ويمكن أن يكون القولان
المختلفان ولو في النفي والإثبات مشروعين، وكل منهما حق في الواقع، وإنما
اختلافهما لاختلاف الأزمنة أو الأمكنة أو الأشخاص، ذهب إلى ذلك بعض
الأصوليين، وكاد يطبق عليه أهل الكشف والشهود، وفيه ألف العارف الشعراني
كتاب (الميزان) الشهير، الذي تلقته علماء الأمة بالقبول، وقد نسب الإمام
النووي القول بأن كل مجتهد مصيب، إلى جمهور المحققين (كما في شرح مسلم) .
ألم تر أن اختلاف أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد لم يثر في الملة نزاعًا
يذكر، ولم يضرم نارًا بوقود الفتن تتسعر، ولم يكن من أثره إلا منافسات شخصية
بين بعض أرباب الظهور من علماء الرسوم والقشور، عندما بعد عهد الأئمة وطال
الأمد على أتباعهم، ففسق الكثير عن هديهم وانحرف بهم السبيل عن سيرتهم، أما
اختلاف الخوارج والمعتزلة والشيعة وأهل السنة بعضهم مع بعض، فقد كان من
أهواله وسوء مآله ما أشاب النواصي، وانقضت له شوامخ الصياصي.
إن أولى الاختلاف بعدم إثارة النزاع وإضرام نار الفساد: اختلاف مناهج
شيوخ الطرق والمسلكين في كيفية الدلالة على رب العالمين، بل لا يجدر بنا أن
نسمي التفنن في وسائل الهداية اختلافًا، إذ لا اختلاف في الحقيقة كما أشار
إليه قائلهم:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك المقام يشير
وقال سيدي عمر بن الفارض مشيراً إلى ذلك:
فكم بين حذاق الجدال تنازع ... وما بين عشاق الجمال تنازع
أولئك القوم لا مثار في طريقهم للبغضاء، ولا مبعث للشحناء، ولا مهب
لرياح الأهواء، أولئك القوم لا مواقد في منهاجهم تضرم فيها نيران الفتن، ولا
مجال تتراكض فيه خيول الإحن والمحن، أولئك القوم لا سعة في سبيلهم للتقاذف
والتنابز، ولا فسحة للتقاطع والتدابر، قوم قاموا بخدمة مولاهم، وأخلصوا له في
سرهم ونجواهم، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم
مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٢٣) {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: ٥٩) اغتروا
بآداب الناس مع القوم وتسليم أحوالهم إليهم، وإن أشكل ظاهرها وساء مشهدها،
فخلطوا في الطريق ما ليس منه، وهم مخالفون في السيرة والسريرة لمن يدعون
اتباعهم، ويزعمون انتحال نحلتهم، وانتحاء مناحيهم، ويحتجون على ناصحهم
بألفاظ يقولونها وكلمات يلوكونها، يشبهون فيها الظُلمة بالضياء، ويشتبه عليهم
الغرور بالرجاء، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ
مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا
فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الأعراف: ١٦٩) دب إليهم
داء الأمم قبلهم، ففسدت أخلاقهم، وخبثت أعمالهم، تحاسدوا على الأعراض البالية
وتنافسوا فيها، وتباغضوا في الأغراض الخسيسة وتهالكوا عليها، تلامزوا وتنابزوا
بالألقاب، وتباروا وتفاخروا بالأنساب، وقلد الصادقين الدعي الكذاب، في جملة من
الوسائل والأسباب، فتعسر التمييز بين البريء والمرتاب، إلا على الأفراد من أولى
الالباب، وما كفاهم هذا الهبوط والسقوط، ولم يقنعوا بهذا الاعتداء والاستعلاء،
حتى تسلقوا صرح الغلو علوًّا وفسادًا في الأرض، فظن بعضهم بدين بعض،
وغض من طريقته أي غض، ابتغاء الفتنة وسفك الدماء، وطلبًا للبأساء والضراء،
فتبت يدا الجاهل، وزلت قدما العامل، فتدهور في هاوية الخسران، وانهار به
الجدار في جحيم الخذلان، وما للظالمين من أنصار.
تلك قصة القادرية مع الرفاعية - أستغفر الله من ظلم أهل الطريق - بل بعض
المنتسبين إليهم قولاً، المتخلفين عنهم تخلقاً وعملاً، طبع للقادرية بعض كتب في
مناقب الإمام الجليل سيدي عبد القادر الجيلي (قدس سره) لم يذكر في بعضها نسبة
الولي الشهير سيدي أحمد الكبير الرفاعي (قدس سره) لأهل البيت النبوي عند
ترجمته اتباعًا لجماهير المؤرخين، وذكر في بعضها إثبات تلك النسبة بعد نقل
القول بنفيها، فطبع الرفاعية رسائل وكتبًا عرضوا في بعضها بنسب الإمام الجيلي،
وصرحوا في بعضها بالقطع بإنكاره، وبنسبة الشطح والإدلال له استدلالاً بهما على
عدم تمكنه في الولاية، وأنكروا منقبة القدم، وأكثروا من الطعن في المؤلفين في
مناقبه، لا سيما العلامة الشطنوفي صاحب كتاب (بهجة الأسرار) فألف أهل هذا
العصر من علماء القادرية كتابصا سماه: (الفتح المبين فيما يتعلق بترياق المحبين)
وهو كتاب للرفاعية صرحوا فيه بما أشرنا إليه من المطاعن. أثبت هذا
القادري في كتابه نسب السيد الجيلي بالنقول الكثيرة عن العلماء والمؤرخين، وتكلم
في منقبة القدم وإثباتها، ونقل بعض ثناء العلماء على الإمام الشطنوفي، كل ذلك
على سيبل الرد على ما في كتاب ترياق المحبين، وزاد على ذلك بعض فوائد
ومواعظ مأثورة عن الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه، وانتقد بعض رسائل
للرفاعية واعترض على أكَلة الأفاعي واللاعبين بالنار منهم.
لم يمض على طبع هذا الكتاب زمن قصير حتى قام بعض الرفاعية بتلفيق
كتاب أتى فيه بالعجب العجاب. أغرق بالطعن في طائفة القادرية وغلا غلوًّا كبيرًا،
فحكم بأن جميعهم من أهل البدعة، بل تهور فقال بكفرهم، والعياذ بالله تعالى، وزعم
أنهم يتسترون بالدين، ويتظاهرون باتباع الطريقة القادرية غشًّا وخديعة للمسلمين،
ليتمكنوا من إفساد عقائدهم، وأنهم دائبون في السير إلى هذه الغاية، متفننون في
التلاعب بالدين، وأذية سيد المرسلين، وأرباب الطرق كافة، والرفاعية خاصة.
ورتب على هذه المزاعم الباطلة أنه يجب على المسلمين كافة والرفاعية خاصة أن
يفرغوا الوسع باستئصالهم ومحوهم من وجه البسيطة نصرة لله ولرسوله وحفظًا
للدين القويم!!
هذه أول سيئة لذلك الكتاب، سودت بها صحائف مقدمته، ووراءها في قلبه
فتن كقطع الليل المظلم، منها أنه أناط ما نسبه من العظائم إلى السادة القادرية بسيد
منهم عليّ المكانة، رفيع المنزلة، قوى العصبية، معروف القدر عند عامة
المسلمين وخاصتهم، وقد أكثر بعد ذلك من الحط عليه، وشنأه بصراح المنكر من
القول، بعد ما غالى في الطعن بجده إمام العارفين الشيخ عبد القادر برأه الله تعالى
بما لم يسبقه على الجرأة بمثله سابق، وأفرط في الجرح والإيذاء لذريته المباركة،
حتى تعدى لمن أثنى على حضرته النزيهة، وألف في مناقبه من أكابر العلماء - كل
ذلك ليحض ذلك السيد وأتباعه، ويحرض أنصاره وأشياعه، على الخوض في تيار
الفتنة وغشيان سوقها التي نصبها بالكلام السيئ الذي يحرك الجماد، ويلقي في
أرض الدعة والسكون بذور الفساد، هذا بعد ما صرح في المقدمة بأنه ألف كتابه
مرضاة لجماعته الرفاعية، وأنهم أجمعوا على طبعه ونشره، وذكر من كثرة عددهم
وقوة حزبهم ما أراد به إظهار استضعاف القادرية دونهم، ليثبت بذلك تحقق العداوة
والتضاد بين الفريقين، ويبرزهما في صورة الخصمين المتنازعين، فيسري سم
دسيسته في أرواحهم، وينفذ سهم فتنته من قلوبهم، وتشب نيران الضغينة التي
أوقدها في أفئدتهم، فتنشب لها حروب داخلية، يهي لها بناء الأمة، وينصدع شمل
هيئتها المنشعب بحكمة المستوي على منصة الخلافة مولانا السلطان الغازي عبد
الحميد خان، الذي فاض معين سياسته وفضله فاستقى منه العمران البشري وروي
نوع الإنسان.
وليته وقف عند هذا الحد الذي لم يدن نحوه قبله أحد، فإنه تعداه إلى الكذب
على الله ورسوله بالخبط والخلط في أصول الشريعة وفروعها، وعلى الأولياء
والعلماء بنقله عنهم ما نقطع ببراءة ساحتهم منه، وإلحاقه بهم مَن ما نجزم بطهارة
أردانهم من التلوث به، وتفضيله ابن الرفاعي عن جمعيهم، ولم يستثنِ إلا أئمة
الشيعة الاثني عشر دون الأئمة المجتهدين، بل نقل عن كتب فئته ما يقتضي
مساواته للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الشؤون! ومشاركته له في
بعض خصائصه، إلى غير ذلك من التلاعب في فنون العلم، من غير روية ولا فهم
فما كان إلا تبديل أحكام وزعزعة نظام.
أتيح لي النظر في ذلك الكتاب في هذا العام عام ١٣٠٨ ثمانية وثلاثمائة وألف،
فكنت كلما تصفحت من صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته، تنتابني من الغيرة
على الدين لوافح الانفعال، وتتناوبني من الحيرة في جرأة مصنفه لوائح الامتعاض،
فما أتيت على آخره إلا وقد نفث في روعي روح الحق وهتف بي هاتف الأمانة
الدينية والصدق: أن انهض ممتثلاً لقوله جل علاه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
أَنصَارَ اللَّهِ} (الصف: ١٤) وأنشئ كتابًا يكون فرقانًا بين الحق والباطل،
وبرزخًا بين حلم الحليم وجهل الجاهل، يسلك في حسم النزاع بتحرير منازعه مهيع
الصواب، ويتحرى بحسب الاستطاعة مواقع الحكمة بفصل الخطاب، يُتْهِم مع
الحقيقة ويُنْجِد، ويصوب النظر حيث الصواب ويصعد، لا يميل مع أحد الريحين
ولا يتطرف إلى أحد الطرفين، فاستعنته - تعالى - على القيام بهذا العبء،
واستهديته إلى إخراج هذا الخَبء، فوجدته مجيبًا يلبي من ناداه، قريبًا يجيب دعوة
الداعي إذا دعاه، ورتبت الكتاب على ستة مقاصد وخاتمة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))