هذا بحث جليل، ومطلب خطير، طالما جال في النفس التفرغ لكتابة شيء فيه يكون لباب اللباب في هذا الباب الذي اختلف فيه الناس، لما غلب التعصب على النفوس ونبذوا مشرب كبار المحدثين رواة السنة، وهداة الأمة، حتى سنحت لي فرصة كتبت فيها ترجمة حافلة للإمام البخاري جعلتها مفصلة بتراجم منوعة كان منها (تخريج البخاري عمن رُمي بالابتداع) وهم الذين أسميهم (المبدّعين) [١] . ذكرت ثمة ما يناسب تأليف الترجمة، ثم رأيت أن المقام يستدعي زيادة بسط وإسهاب، ودرأ شبه واحتمالات أوردها بعض الفقهاء خالف فيها الحقيقة، فخشيت أن يطول بإيرادها - في ترجمة البخاري - الكلام، ويشبه الخروج عن الموضوع فأفردت تتمة هذا البحث في مقالة خاصة تحيط به من أطرافه، وترده على أنحائه وهذا البحث من جملة المباحث العلمية التي نسيها الخلف أو أضاعوها، ولا غرو أن يذهل عن الغايات من يقصر في البدايات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. *** منشأ النبز بالابتداع من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها، لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى وأعظم استجابة؛ لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل، فحاولت الاستئثار بالذكرى، والتفرد بالدعوى، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها، والإيقاع بسواها، حسب ما تسنح لها الفرص، وتساعدها الأقدار، إن كان بالسنان، أو اللسان. وأول من فتح هذا الباب - باب الغلو في إطالة اللسان بالمخالفين - الخوارج فأتى قادتهم عامَّتهم من باب التكفير؛ لتستحكم النفرة من غيرهم، وتقوى رابطة عامتهم بهم، ثم سَرى هذا الداء إلى غيرهم، وأصبحت غلاة كل فرقة تكفِّر غيرها وتفسقه أو تبدعه أو تضلله لذاك المعنى نفسه، حتى قيض الله تعالى من الأئمة من قام في وجه أولئك الغلاة، وزيَّف رأيهم، وعرف لخيار كل فرقة قدرهم، وأقام لكل منهم ميزان أمثالهم. *** من شهر الرواية عن المبدعين وقاعدة المحققين في ذلك كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري رضي الله عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، فخرَّج عن كل عالم صدوق ثبت من أي فرقة كان، حتى ولو كان داعية، كعمران بن حطان وداود بن الحصين. وملأ مسلم صحيحه من الرواة الشيعة [٢] فكان الشيخان عليهما الرحمة والرضوان بعملهما هذا قدوة الإنصاف وأسوة الحق الذي يجب الجري عليه؛ لأن مجتهدي كل فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أو أخطأوا بنص الحديث النبوي. ثم تبع الشيخين على هذا المحققون من بعدهما حتى قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: التحقيق أن لا يرد كل مكفَّر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدَّعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف (قال) : والمعتمد أن الذي تُردّ روايته من أنكر أمرًا متواترًا من الشريعة معلومًا من الدين بالضرورة، واعتقد عكسه. وأما من لم يكن كذلك، أو ينضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله اهـ. *** آفات الجرح إلا بقاطع قال الإمام ابن دقيق العيد: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام. وقال الإمام النووي في التقريب، وشارحه السيوطي: أخطأ غير واحد من الأئمة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح، كما جرح النسائي أحمد بن صالح المصري بقوله: غير ثقة ولا مأمون. وهو ثقة إمام حافظ احتج به البخاري ووثقه الأكثرون، قال ابن الصلاح: وذلك لأن عين السخط تبدي مساوئ، لها في الباطن مخارج صحيحة، تُعمي عنها بحجاب السخط، لا أن ذلك يقع منهم تعمدًا للقدح مع العلم ببطلانه اهـ. وقال الإمام ابن دقيق العيد: والوجوه التي تدخل الآفة منها خمسة: (أحدها) الهوى والغرض وهو شرها، وهو في تاريخ المتأخرين كثير. (الثاني) المخالفة في العقائد. (الثالث) الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر. (الرابع) الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم وأكثر ذلك في المتأخرين؛ لاشتغالهم بعلوم الأوائل، وفيها الحق والباطل. (الخامس) الأخذ بالتوهم مع عدم الورع. وقد عقد ابن عبد الرؤوف بابًا لكلام الأقران المعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أن أهل العلم لا يقبل جرحهم إلا ببيان واضح [٣] . *** الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي قال السيوطي: قال في الاقتراح: [٤] تُعرف ثقة الراوي بالتنصيص عليه من راويه، أو ذكره في تاريخ الثقات، أو تخريج أحد الشيخين له في الصحيح، وإن تُكُلِّم في بعض من خرج له فلا يلتفت إليه، أو تخريج من اشترط الصحة له، أو من خرج على كتب الشيخين اهـ، فتمت النعمة بتعديل رجال الصحيحين ونبذ كل وهم سواه، وبذلك عرف للرجال فضلهم، ولأولي العلم قدرهم، وسن للناس طرح التعصب والتحزب، والتصافح على الأخوة الإيمانية، وتبادل الآراء والأفكار، واستماع الحكم ومدارك الاستنباط والاجتهاد من ذويها، على هذا جرى أئمة الحديث، وقادة الروايات، الذين جمعوا ما جمعوا لدلالة الأمة على هدي نبيها وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، حتى أصبحت مرجع الفروع والأحكام، ومعوَّل الأئمة الأعلام. *** زيادة إيضاح في حكمة التخريج عن المبدّعين وفوائد ذلك إن تخريج أئمة السنة وحفاظ الهدي النبوي -حديث من نُبذوا بالابتداع على طبقاتهم- فيه حكمة بليغة، وفائدة عظيمة، ألا وهي النهم بالعلم، والسعي وراءه والجد في طلبه، والتنبه لحفظه من الضياع، وسن نبذ التعصب، والتشيع والتحزب، والتقاط الحكمة من أي قائل. قال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر في كتاب جامع العلم وفضله في (باب جامع في الحال التي تنال بها العلم) ما مثاله: وروينا عن علي رحمه الله أنه قال في كلام له: العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه أيضًا أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط اهـ، فأئمة الحديث رأوا أن السنة من الحكمة بل هي الحكمة - في تفسير الإمام الشافعي كما أوضح ذلك في رسالته الشهيرة [٥] في (باب بيان ما فرض الله من اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم) فلذا عمدوا إلى تلقيها من كل ذي علم، واشترطوا للعناية بها أن تكون من مسلم عدل صدوق، ثبْت في روايته، ولم يبالوا بما غُمز أو نُبز أو رُمي به، علمًا بأن المسائل النظرية، أو التي دخل على أصولها تأويل بنظر المأول هي من المجتَهد فيها، والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ، فعلام يُترك الأخذ عن المأجور، وقد يكون رأيه هو الحق، ومذهبه هو الأدق -ما دام الأمر فيه احتمال ولا قاطع، أو اعترض النص ما رجعه ظاهرًا- كما يعلمه من أعار نظر الإنصاف مآخذ الأئمة ومداركهم- وقد أوضح جملاً من ذلك الإمام تقي الدين ابن تيمية في كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام [٦] ) فكان أئمة الحديث بهذا -أعني التلقي عن كل عالم ثبت- مثال الإنصاف وكبر العقل، وقدوة كل من يلتمس الحكمة، ويتطلب العلم، فجزاهم الله أحسن الجزاء. *** عقوق الخلف بهجر مذهب السلف سبق أني قلت في هذا المعنى كلمة في كتابي (نقد النصائح الكافية [٧] ) بعد أن سبرت رجال من خرَّج لهم الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما - ممن نبز بالابتداع - وهي قولي: فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم- أمثال البخاري ومسلم والإمام أحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار، وقطعوا به رحم الأخوة الإيمانية الذي عقده تعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله، ولم يفرق بين أحد من رسله، فإذن كل من ذهب إلى رأي محتجًّا عليه، ومبرهنًا بما غلب على ظنه، بعد بذل قصارى جهده وصلاح نيته في توخي الحق فلا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه، واتضحت له المحجة في غيره، أن يجادله بالتي هي أحسن ويهديه إلى سبيل الرشاد، مع حفظ الأخوة، والتضافر على المودة والفتوة، هذا ما قلته ثمة مما يبين أنه لو كانت الفِرق التي رُميت بالابتداع تهجر لمذاهبها وتُعادى لأجلها لَمَا أخرج البخاري ومسلم وأمثالهما لأمثالهم. نعم إن هؤلاء المبدعين وأمثالهم لم يكونوا معصومين من الخطأ حتى يعدوهم الانتقاد، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إنهم تعمدوا الانحراف عن الحق، ومكافحة الصواب عن سوء نية، وفساد طوية، وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم: إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا، وبهذا كان ينتقد على كثير من الأعلام سلفًا وخلفًا لأن الخطأ من شأن غير المعصوم، وقد قالوا: المجتهد يخطئ ويصيب، فلا غضاضة ولا عار على المجتهد إن أخطأ في قول أو رأي، وإنما الملام على مَن ينحرف عن الجادة عامدًا متعمدًا، ولا يتصور ذلك في مجتهد ظهر فضله وزخر علمه. *** رد القول بمعاداة المبدّعين قدمنا أن رواية الشيخين وغيرهما عن المبدعين تنادي بواجب التآلف والتعارف، ونبذ التناكر والتخالف، وطرح الشنآن والمحادّة، والمعاداة والمضارة؛ لأن ذلك إنما يكون في المحاربين المحادّين، لا في طوائف تجمعها كلمة الدين، ومن الأسف أن يغفل عن هذا الحق من غفل، ويدهش لسماعه المتعصبون والجامدون، ويحق لهم أن يذعروا لهذا الحق الذي فجأهم لأنه مات منذ قضى عصر الرواية والرواة، وانقضى زمن المحدثين والحفاظ، ودال الأمر بعد الأخبار النبوية للآراء والأقوال، وصار الحق -بعد أن كانت الرجال تعرف به- يعرف بالرجال، وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نسيًا منسيًّا، ونُشر لواء التعادي والتباغض في الأمة وكان مطويًّا، وسبّب على الأمة من التفرق والانقسام، ما أورثها الضعف والانفصام، فبعد أن كان التسامح في التلقي عن الحكماء والفضلاء من أي طبقة ركنًا ركينًا في حضارة الإسلام، خلفه التخاذل والتدابر والتعصب والملام، ولم يكف ذاك حتى ادُّعي أنه من الدين، مع أن الدين يأمر بالتآخي ونبذ التفرق في محكم كتابه المبين. (ومن العجب) أن يقول قائل: لا يلزم من الرواية عنهم عدم معاداتهم، أي يجوز أن نروي عن راوٍ، مع التدين بمعاداتنا له، وبغضنا إياه! (فنجيب عنه) بأنَّا لا نعرف من قال ذلك من السلف، ولا من ذهب إليه من الأئمة، والرواية يراد بها هنا تلقي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه وتشريعه وأقضيته، وفتاويه وشمائله، لتتخذ دينًا يُدان الله به، وشريعة يُقضى بها في التنازع، ومرجعًا تُحل به المشكلات، فهل يُتلقى ذلك عمن يجب علينا معاداته في الدين؟ وكيف يتصور أن نأخذ الدين عمن نرى أنه عدو للدين؟ سبحان الله ما هذا التناقض، إن من يأمرك الدين بأن تعاديه لا يبيح لك أن تأخذ دينك وشريعتك وعقيدتك عنه، ومن المسلَّم بأن هذا الراوي أدَّاه اجتهاده إلى ما رأى، ومن أدَّاه اجتهاده إلى ما رأى كيف يُعادى، وقد بذل قصارى جهده، وليس قصده إلا الحق، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكيف يُعادى من أثبت له الشارع الأجر ولو كان مخطئًا؟ وإنما يعادى الآثم لا المأجور. *** رد القول بتفسيق المبدّعين أغرب من ذلك قول البعض بتفسيق من يبدّعه، وإن بلغ ذروة الاجتهاد، وأصبح معذورًا لا ملام عليه عند الله والملائكة والنبيين، لا بل قد تفضل عليه الشارع بالأجر. ومتى عهد تفسيق مجتهد إذا أخطأ في المسائل الاجتهادية؟ وهل يمكن لمثل البخاري -وهو ما هو في نقد الرجال- أن يضم إلى صحيحه من مجتهدي الفرق من كان فاسقًا ليصبح جانب من كتابه مرويًّا للفسقة وقد جمعه ليجعله حجة بينه وبين ربه؟ وهل يُعقل أن يجعل رواية الفاسق حجة عند المولى؟ هذا ما يلزم من تفسيق من يفسق من الرواة فليحكم المتعصب النظر، وليتدبر في المآل، قبل أن يأخذ في المقال. نعم: ذهبت طائفة إلى تفسيق من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد - كما نقله الإمام ابن حزم في كتابه الفصل [٨] إلا أنه قول مردود؛ ولذا قال الإمام ابن حزم رضي الله عنه: وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فُتيا، وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال: إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد. قال: وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم، لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلاً. اهـ كلامه. فأين هذا من التسرع في التفسيق، وتقليد من قاله من المتأخرين المقلدين، الذين ليسوا بأئمة متبوعين، ولا قولهم حجة في الدين، ولا استندوا إلى دليل أو برهان {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) . *** خطر النبز بالفسق ومعنى الفسق إن النبز بالفسق ليس بالأمر السهل، لأن الفسق كثيرًا ما جاء في القرآن الكريم مقابلاً للإيمان - كآية: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} (السجدة: ١٨) وأمثالها، ولذا قيل بأن عطف قوله تعالى (والفسوق) على قوله (والكفر) عطف تفسير - في آية: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} (الحجرات: ٧) وإن احتمل أن يكون غيره إشارة إلى نوع آخر، إلا أن النظائر والأشباه في موارده في التنزيل تدل على أنه عطف تفسير، وهب أنه كان غير الكفر فهو شيء قريب منه، ونوع أنزل منه بدرجة، وناهيك به. وإليك ما قاله فيه أئمة اللغة وفلاسفتها. ققال الجوهري في (الصحاح) : فسق الرجل فجر، وفسق عن أمر ربه أي: خرج وفي المصباح: فسق فسوقًا: خرج عن الطاعة، والاسم الفسق، ويقال: أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها وفي القاموس: الفسق: الترك لأمر الله، والعصيان، والخروج عن طريق الحق، أو هو الفجور - كالفسوق (وقال الإمام الراغب الأصفهاني في مفرداته) : فسق فلان: خرج عن حجر الشرع، وذلك من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره. وهو أعم من الكفر (قال) : والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيرًا، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرَّ به، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه. وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق - فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة (إلى أن قال) : فالفاسق أعم من الكافر اهـ. وقال الإمام محمد بن مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق) في (فصل في الفسق) ما نصه: وأما العرف المتأخر: فالفسق يختص بالكبيرة من المعاصي مما ليس بكفر، والفاسق يختص بمرتكبها اهـ. فأنت ترى من هذا كله أن الفسق مدلوله الكبائر والمعاصي العظائم؛ لأنه دائر بين الكفر وما يقرب منه، وإذا كان هذا مدلوله الشرعي، ومعناه العرفي، فكيف يجوز أن يوصف به عالم ثبت ثقة من ذوي الألباب وأولي الاجتهاد لمجرد أنه أداه اجتهاده إلى رأي يخالف غيره مع أنه لم يقصد إلا الحق، ولم يتوخَّ إلا ما رآه إلا وفق، إذ لم يأل جهدًا في اهتمامه بما يراه الصواب، وإن كان في نظر غيره على خلاف ذلك، إذ هذا من لوازم المسائل النظرية، ومتى عُهد أن يُفسق المخالف فيها أو يُضلل، لا جرم أنه بدعة قبيحة، وجناية في الدين كبيرة. وقد قال كثير من أئمة التفسير في قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: ١١) هو قول الرجل للرجل: يا فاسق رواه ابن جرير عن مجاهد وعكرمة. وقال قتادة: يقول تعالى: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق، ذاك منافق نهى الله المسلم عن ذلك وقدم فيه. وقال ابن زيد: هو تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام، زان فاسق (ثم قال ابن جرير) والتنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها (ثم قال) : وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: ١١) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه. ولما لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلا الظن جاء النهي عن سوء الظن إثر تلك الآية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: ١٢) ولما كان الرمي بالفسق مدعاة لتفرق القلوب، وإثارة الشحناء على عكس حكمة الله تعالى في خلقه الخلق للتعارف والتآلف، جاء ذلك على إثر ما تقدم بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣) فليتدبر المتقي هذه الآيات الكريمة وليقف عند أوامرها وزواجرها، وليعتبر وليستعبر. قال السيد الطباطبائي في المفاتيح [٩] : الفسق أن يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أما مع عدمه، بل مع اعتقاد أنه طاعة، بل من أمهات الطاعات فلا. والأمر في المخالف للحق كذلك؛ لأنه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات سواء كان اعتقاده صادرًا عن نظر أو تقليد، ومع ذلك لا يتحقق الفسق، وإنما يتفق ذلك ممن يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يكاد يتفق، وإن توهمه من لا علم له اهـ. فترى من العجب بعد ما ذكرناه أن يوسَم بالفسق من لا يحل وَسمه به؛ لأن معناه لا ينطبق عليه بوجه ما، على أنه ورد تسمية رواة الحديث خلفاء فيما رواه الطبراني والخطيب وابن النجار وغيرهم عن علي مرفوعًا (اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس) . إذا علمت هذا فماذا يقال في هؤلاء المفسقين؟ أجهلوا المعنى العرفي للفسق، أم تجاهلوا؟ أم اجتهدوا فأداهم اجتهادهم أم قلدوا؟ لا غرو أنهم جهلوا وقلدوا، ويا ليتهم قلدوا إمامًا متبوعًا، بل قلدوا أواخر المقلدة الجامدة المتعصبة. ولو نظروا في تراجم الرجال، وتدبروا سيرة كثير من أولئك المبدعين الأبطال، لعلموا أن رميهم بالفسق يكاد أن يهتز له العرش. خذ لك مثلاً من شيوخ المعتزلة عمرو بن عبيد، وانظر في ترجمته إلى زهده وتقواه. قال الذهبي في الميزان: وقد كان المنصور الخليفة العباسي الشهير يخضع لزهد عمرو وعبادته يقول شعرًا: كلكم يطلب صيد ... غير عمرو بن عبيد وذكر ابن قتيبة في (المعارف) أن المنصور رثى عمرو بن عبيد فقال شعرًا: صلى الإله عليك من متوسد ... قبرًا مررت به على مران قبرًا تضمَّن مؤمنًا متحنفًا ... صدق الإلهَ ودان بالقرآن لو أن هذا الدهر أبقى صالحًا ... أبقى لنا حقًّا أبا عثمان
هذا هو التوثيق - أعني توثيق الملوك - لأن كلام الملوك ملوك الكلام. وما غمز به فكله -إن أنصفت- من عصبية التمذهب، والجمود في التعصب. نحن لا نقول هذا تحزبًا للمعتزلة أو لغيرهم معاذ الله فإنا في الرأي مستقلون، ولسنا بمقلدين ولا متحزبين، ولكن هو الحق والإنصاف، وما قولك في قوم يرون مرتكب الكبيرة كافرًا أو مخلدًا في النار؟ أليس في هذا نهاية التعظيم للدين، وغاية الابتعاد عن المعاصي، والإشعار بامتلاء القلب من خشية الله بما يزع عن الكذب والافتراء؟ بلى! وألف بلى! فأنى يستجيز عاقل بعد ذلك تفسيقهم وهم على ما رأيت من التمسك بدين الله، والتصلب في المحافظة على حدوده؟ فتدبر وأنصف، على أن خبر الفاسق مرغوب عنه في نظر العقل، ساقط الاحتجاج به في أصول الشرع، ولذا أمرنا بأن نتبينه ولا نلوي عليه بادئ بدء، فكيف يحكم صاحبه في السنة والأحكام؟ قال الإمام الحجة مسلم في مقدمة صحيحه في باب وجوب الرواية عن الثقات، وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مثاله: اعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين - أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يبقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع [١٠] (قال) : والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: ٦) وقال: {َأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: ٢) قال: فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر إن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيها - إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. ثم روي عن سلام قال بلغ أيوب أني آتي عمرًا [١١] ، فأقبل عليَّ يومًا فقال: أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه، فكيف تأمنه على الحديث. فدل ذلك على أن من ائتمنه الشيخان على الحديث، فقد ائتمنوه على الدين، ومن ائتمن على الدين فليس فاسقًا ولا مبتدعًا. (ثم قال الإمام مسلم) وإنما ألزموا -يعني العلماء- أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث. وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا - لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثمًا بفعله ذلك، غاشًّا لعوامّ المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع اهـ. فهل بعد هذا يجوز غمز بعض من روى لهم الشيخان من أولئك الأعلام المبدّعين؟ لا جرم أنه لأمر ما عُني البخاري ومسلم بالتخريج عنهم، وأخذ السنة منهم، وتبليغها للأمة، وجعلها حجة بينه وبين ربه، وما ذاك إلا إجلالاً لفضلهم، وإنصافًا لقدرهم. انظر كيف يتحمل مثل البخاري عن أعلام الشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج، ويجعل حديثهم حجة، ومرويهم سنة، ويفخر بذكر أسمائهم في أسانيده ويخلد لهم أجمل الذكر، في أشرف مصنف. انظر هذا وقابل بينه وبين جمود المتأخرين، ورميهم علماء الفرق بالفسق والابتداع والضلال، وهجرهم لعلومهم، وصد الناس عنهم، حتى فات الناس - وا أسفا - علم جمّ، وخير كثير، ولئن دون ما دون من معارفهم، فما بقي من فوائدهم في خزائن صدورهم مما كان يستثار بالأخذ عنهم، وينال بمجالسهم - أوسع وأوفر، أفليس في جمود هؤلاء على ما ذكر عقوق لسلفهم الصالح؟ بلى! وما يضرون إلا أنفسهم لو كانوا يشعرون. بما ذكرناه استبان لك الخطأ في نبز رواة الصحيح بالفسق والابتداع، وأنه تعصب يجب التنبيه له والحذر منه. نحن إنما نصدع بهذا - تفقهًا ممن شرب البخاري ومذهبه، وموافقة له في رأيه الذي لا شك في أنه الصواب الذي تدعو إليه الأخوة الإيمانية، والإنصاف مع كل راوٍ مجتهد من هذه الأمة لا يروم إلا الحق، ولا يسعى إلا إليه، ولا يتحمل الأذى والاضطهاد إلا لأجله - إذ لم يصب من رأيه وما دعا إليه لا دنيا، ولا جاهًا، ولا مُلكًا، فأي دليل أدل على حسن نيته من هذا؟ وبالجملة فتسمية المتفقهة بعض الرواة فسقة جهل بما قاله الأصوليون من أن الفاسق مردود الشهادة والرواية [١٢] ومن قبل الشيخان وغيرهما خبره وحكموه في السنة، وأخذوا عنه، فهل يكون فاسقًا؟ على أن إجماعهم على تلقي الصحيحين بالقبول موجب لتعديل رواتهما جميعًا؛ لأن التلقي بالقبول فرع صحة الحديث، وهو إنما يكون من صحة سنده، وهو من عدالة رجاله وتوثيقهم. ولذا قالوا فيمن خرَّج له الشيخان: جاز القنطرة. بمعنى أنه لا يلتفت إلى ما غمز فيه. وبالجملة فمشرب المحدثين في التسامح ونبذ التعصب هو الذي تقتضيه الأصول، وتقبله العقول، وما أحدث من النبز بالفسوق للبعض فلا سند له - لأن دعوى فسق الإنسان إنما يكون بإتيانه ما فسقه الشارع به، ونص عليه كتاب أو سنة نصًّا قاطعًا لا يحتمل التأويل وأما مسائل الاجتهاد فلا يصح ذلك فيها بوجه من الوجوه. والحاصل أن لا تفسيق ولا تضليل، مع الاجتهاد والتأويل، وإن كان ليس كل اجتهاد صوابًا، ولا كل تأويل مقبولاً، ولكن كلامنا في ذات المجتهد والمأول. فمن لم يألُ جهدًا فلا ملام عليه ولا كلام، لا بل يُتحمل منه الدين، ويُتلقى عنه الهدي النبوي، ويحكم في السنة، على هذا جرى البخاري ومسلم وغيرهما من أقطاب الحديث والأثر، وهو الصواب، بلا ارتياب. وقد نقل الغزالي في المستصفي [١٣] عن الشافعي أنه قال: تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب (ثم قال) ويدل على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة، وكانوا فسقة متأولين، وعلى قبول ذلك درج التابعون - لأنهم متورعون عن الكذب، جاهلون بالفسق اهـ. فترى من هذا أن الصحابة قبلوا خبرهم، وما ضرهم تسمية الفقهاء لهم بالفسقة، لأنه فسق بمعنى مخالفة غيرهم، وهذا الإطلاق اصطلاحي للفقهاء، وربما رجع الخلاف - في تسمية أولئك فساقًا - لفظيًا، وإلا فيستحيل إرادة الفسق الحقيقي المانع للشهادة والرواية - كما قدمنا - ومعلوم أنه لا يكون مذهب حجة على مذهب، ولا عرف برهانًا على عرف، وإنما الحجة والبرهان قواطع الكتاب والسنة. ولما كان البحث المذكور في غاية من الدقة، ترى الكلام في مطولات الأصول مضطربًا متشعب الأقوال، حتى اختلفوا لذلك في ماهية العدالة، ويقرب لمذهب المحدثين فيها قول بعض أهل العراق: العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط - مع سلامته عن فسق ظاهره اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))