للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الرابع عشر
بسم الله الرحمنِ الرحيم
أحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، تخرج الحي
من الميت، وتخرج الميت من الحي، وتخلق الضعف من القوة وتخلق القوة من
الضعف، وتجعل العلم من الجهل، وتجعل الجهل من العلم، وتنصر الحق على
الباطل ولا تنصر الباطل على الحق، فللحق السلطان الأعلى ما وجد من يقوم به،
وإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، وقد قلت وقولك الحق {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: ٤٩) {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} (هود: ٤٥) .
أحمدك اللهم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، النبي
الأمي الذي بعثته في الأميين، فزكّاهم بالتأديب والتربية الفضلى وعلّمهم الكتاب
والحكمة العليا، فكانوا بتربيته سادة العالمين، وبتعليمه أئمة العالمين، فاستجبت
فيه دعوة أبيه إبراهيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) .
أحمدك اللهم وأسألك الرحمة والرضوان، والبركة والإحسان، لآل نبيك
الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، الذين ابتلوا في سبيلك فثبتوا وصدقوا
وأوذوا لاتباع دينك فصابروا وصبروا، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فهاجروا
وهجروا، الذين عاهدوا فوفوا وآووا ونصروا، ولمن اتبعهم بإحسان، على هداية
السنة والقرآن، أولئك هم الصالحون المصلحون، والعاملون المخلصون (٩:
١٠١) {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ
رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم} (التوبة: ١٠٠) .
أحمدُك اللهم وأسألك أن تهدينا صراطهم المستقيم، وتقينا كما وقيتهم من كيد
الشيطان الرجيم، وتعيذنا كما أعذتهم من شر الوسواس، الذي يوسوس في صدور
الناس، من الجنة والناس، من شياطين الجن المستترين، وشياطين الإنس
الظاهرين، الذين يقعدون بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن
ويبتغونها عوجًا، الذين قطعوا حبل الرابطة التي آخيت بها بين المسلمين، ففرقوا
بينهم في الجنس والوطن ومذاهب الدين، فقالوا عربي وتركي، ومصري وغير
مصري، وسني وشيعي، وأنت قلت وقولك الحق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناَ} (آل عمران: ١٠٣) إلي قولك الحكيم: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
١٠٥) .
اللهم، إنهم قد تفرقوا عن حقك، وفرقوا بين من جمعتهم بالتوحيد من خلقك،
واتبعوا سنن من قبلهم، في أيام فسادهم وجهلهم، وقد عادوا أولئك المتفرقون إلي
الاتحاد ولم يعودوا، وتابوا عن التعادي والخصام ولم يتوبوا، فغيرت ما بهم، لما
غيروا ما بأنفسهم، تصديقًا لكتابك، وإنفاذًا لسنتك، غيرت تلك النعمة التي أنعمت
بها على سلفهم من الملك الواسع، والعز السابغ والمال الوافر، وأدلت الدولة
لسواهم، وجعلتهم في حكمهم ورزقهم عالة عليهم، ولا تزال بلادهم تنتقص من
أطرافها، ويتغلغل نفوذ الأجانب في أحشائها، وقد أتى عليهم حين من الدهر
يسمعون نذر الزوال من كتاب الوحي ولا يزدجرون، ويشاهدون عبر النكال في
كتاب الكون ولا يعتبرون، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: ٤٩) ،
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: ٦٨) .
اللهم، إنك تعلم أن ما حل بالمسلمين بتركهم الاعتصام بكتابك، وإعراضهم
عن سنتك في خلقك، قد جعله الناس شبهة على كتابك الحكيم، ووسيلة للطعن في
دينك القويم، وما ظلمتهم ولكن كانوا هم الظالمين، والقرآن هو حجتك عليهم
أجمعين، أمرهم بالاتحاد والاعتصام فتفرقوا، ونهاهم عن الاختلاف فيه فاختلفوا، ولا
يزالون مختلفين، إلا من رحمتهم من المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ
الآخِرِينَ} (الواقعة: ١٣-١٤)) ومن أصحاب اليمين، {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ *
وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: ٣٩-٤٠) .
اللهم، إنك لم تذر المؤمنين الأولين على ما كانوا عليه، ولا تدع المسلمين
على ما انتهوا إليه، بل مزت وتميز الخبيث من الطيب، وزيلت وتزيل بين المفسد والمصلح، ووفقت من شئت لنشر دعوة التوحيد والاعتصام، بين جميع
الشعوب والأقوام، اللهم، فانصرهم وهم حزبك على أحزاب الشيطان، المفرقين
بين المسلمين في المذاهب أو العناصر أو اللغات أو الأوطان، وقهم اللهم فتن السياسة
وشرور زعمائها محبي الرياسة، الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد
جاءهم من ربهم الهدى، ولكنهم آثروا عليه الشهوة والهوى، فيناضل فارسهم بسهام
البهتان، ولا بالدليل والبرهان، وينافح بالنميمة وقول الزور، ويدل بالمخيلة
والدعوى والعجب والغرور، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ
كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: ٨) ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: ٤٠) .
أحمدك اللهم عودًا على بدء؛ أن وفقتني لتأييد المصلحين، والدعوة إلي
الاتحاد والائتلاف بين المسلمين، فقد تم بفضلك وتوفيقك للمنار ثلاثة عشر عامًا،
يدعو إلي ذلك بدليلَيْ النقل والعقل، والأساليب المتنوعة من القول الفصل،
وأضرع إليك أن توفقني على رأس العام الرابع عشر في السعي إليه بالفعل، وأن
تظهر هذا الدين في الآخرين، كما أظهرته في الأولين، فقد بدا غريبًا، وعاد كما
بدا في غربته، فأتم اللهم التشبيه باستتباع ذلك لظهوره وقوته، وانصر دعاته
الصادقين، على عداته المنافقين، الذين يلبسون لباسه ويجهلون حقيقته، فيجنون
عليه ما لا يجني المنكرون له، حتى صدق عليهم ما قلته في المتفرقين قبلهم
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: ٢) {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (الحشر ١٤: ١٥) .
اللهم، إنك تعلم أن من هؤلاء المفرقين من أعماه الحسد وحب الظهور،
ومنهم من أصمه الكبر والغرور، ومنهم من أفسده الفسق والفجور، ومنهم من أبعده
الكفر بك، والصدود عن هداية رسلك، فهم أمشاج مختلفون في عقائدهم وأخلاقهم
الباطنة، مختلفون في عاداتهم وأعمالهم الظاهرة، لا يجمع بين قادتهم إلا حب المال
والجاه في الحياة، والطمع في نصب التماثيل والصور لهم بعد الممات، وتلك
عاقبة الذبذبة، فيما ابتليت به هذه الأمة من اختلاف التعليم والتربية، نال الأجانب
من نفوسهم ما يشتهون، وهم لا يشعرون، فهم لهم خادمون، ويحسبون أنهم هم
المقاومون، أولئك هم المفرقون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفرقون
بين أعضاء الأمة، ويحللون العناصر التي يتركب منها جسم الدولة، أولئك هم
الأخسرون أعمالاً، والرابحون أقوالاً وأموالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت
تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: ١٦) .
اللهم، قد ضاق ذرع المصلحين، بهؤلاء المفسدين المفرقين، كلما داووا
جرحًا سالت جروح، وكلما رتقوا فتقًا ظهرت لهم فتوق، وكثرت الدعوة بالباطل،
واختلط الحابل بالنابل، وظهر في جو السياسة العارض الممطر، واضطربت
القلوب من موعد الصبح المسفر، يومئذ تظهر عاقبة الذين يعملون في السر، ضد
ما يقولون ويدعون في الجهر، ويتبرأ أهل الجنوب من شياطينهم أهل الشمال؛ إذا
ظهر ما يضمرون لما بقي للإسلام من سلطان وشبه سلطان، بإغراء أولئك الذين
قضوا على سلطة غيره من الأديان، ويومئذ يعلم المغرورون من نوكى المسلمين،
أنهم كانوا فاتنين مفتونين، ( {إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ} (الصافات: ١٠٦) ،
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) .
تطلعت رءوس الفتن، واشتعلت نارها في ألبانية فحوران فاليمن، يخرب
المسلمون بيوتهم بأيدهم، ويقتلون أنفسهم بسيوفهم، ويمهدون السبل للطامعين فيهم،
فيكفونهم أمر الحرب، وبذل المال وسفك الدم، أهلك أهل الحضارة والترف منهم
حب الشهوات، وأهلك أهل الخشونة والتقشف الجهلُ بالفنون والصناعات، وقد
أفسد الرؤساء من الفريقين حب الرياسة، وما يتبعها من فتن السياسة (أعوذ بالله
من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من
كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها
السياسة، وكل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس
ويسوس، وسائس ومسوس) [١] فالسياسة مسار الفتن، ومصدر الإفك والكذب،
ومورد السعاية والمحل، وناهيك بسياسة أهل الضعف، في مثل هذا العصر،
الذين فقدوا كل شيء، ويدعي الواحد منهم كل شيء، ويجرد من لا يتبع أهواءهم
من كل شيء، يلبسون الحق بالباطل، وينصرون من يتبع أهواءهم من مظلوم أو
ظالم، يؤيدون المفسدين والمجرمين، ويتجرمون على البرآء الصالحين، {قُل لاَّ
تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: ٢٥) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا
ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ} (سبأ: ٢٦) .
يا أيها المفتون المغرور، المختال في ثوبين من الزور، اعلم أنه ليس في
طاقة أحد أن يتقن كل عمل، فيكون رئيسًا أو زعيمًا في السياسة، والعلم والدين
والأدب والكتابة والخطابة، والأمور الاجتماعية والمالية، وكل ما تحتاج إليه الأمة
لتكون من الأمم الحية، فعليك إن كنت من الصادقين أن تتقن عملاً ما، ثم تكون
عونًا وظهيرًا للعاملين، ويا أيها المفتون بالقوة، ادخر قوتك للقاء خصمك الأقوياء،
ولا تضعفها بالبغي على إخوانك الضعفاء، فرب جهاد في غير عدو، ورب
ضعة في حب العلو، ورب باغ على نفسه، وهو يحسب أنه ينتقم من خصمه،
والبغي مصرعه وخيم، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} (الشورى: ٤١-٤٢) .
يا أهل القرآن، أقيموا القرآن، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان،
قد غلبتم على ما فرطتم فيه من حقكم، فنزا على مصالحكم الملاحدة والفاسقون من
قومكم، وكانوا هم المنافذ والكوى لدخول سلطان الأجانب في أرضكم، تركتم لهم
دنياكم فطمعوا في دينكم، يريدون إطفاء نوره والإحاطة بوليه ونصيره، فأفيقوا من
نومكم، واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وانشروا دعوة الإسلام، واجعلوا أمامكم
القرآن، فهو حبل الله الممدود بين أهل الإيمان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦) .
هذا ما يذكِّر به المنار قراءه المصطفين الأخيار، على رأس عامه الرابع عشر،
كما هي سنته في فاتحة كل سنة، وإنها لتذكرة للخاصة، بحسب حالة الإصلاح
العامة، ويدعوهم كما يدعو جميع العلماء الذين يطلعون عليه، إلى الكتابة إليه بما
يرونه منتفدًا فيه، مؤيدًا بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، فإنما المنار
صحيفة جميع المسلمين، لا صحيفة طائفة واحدة من المقلدين، فهو يدعوهم إلى
الاجتماع على ما اتفقوا عليه، وأن لا يتعادوا فيما اختلفوا فيه، بل يردوه إلى الله
والرسول، فهو خير عمل وأحسن تأويل، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: ٩) .
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني