للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دروس جمعية شمس الإسلام

(أمالى دينية - الدرس الثامن)
(٢٦) الوحدانية: قلنا فيما سبق أن أكثر البشر متقفون على أن لهذا العالم
إلهًا هو خالقه ومدبره، ونقول الآن: إنهم متفقون أيضًا على أن هذا الخالق واحد
لاشريك له في الخلق والإيجاد، ولا فرق في هذا الاعتقاد بين الفلاسفة الإلهيين
والمليين , كتابيين ووثنيين، وإنما شذت طائفة من قدماء الفرس زعمت أن للعالم
إلهين أحدهما خالق النور أو الخير، والثاني خالق الظلمة أو الشر، والإله الحقيقي
عندهم هو الأول، وقد انقرضت هذه الطائفة وأراح الله الوجود من جهلها. وسائر
من أشرك بالله تعالى من الوثنيين ومن تلا تلوهم من الكتابيين، فإنما أشركوا بعبادة
ربهم غيره لشبهة عنَّت لهم فاخترقت قلوبهم وامتزجت بعقائدهم منشؤها أن صانع
الكون وبارئه هو غيب مطلق، وأن النفوس لا تتوجه إلا إلى معروف مشهود،
فينبغي أن تكون وجهتها في عبادة الخالق العظيم بعض مظاهر قدرته الكبرى
كالشمس والكواكب أو النار أو بعض عباده المقربين عنده، القادرين على تقريب
من شاؤوا من جنابه، وإتحافهم بمرضاته، وقضاء حاجهم , أو تماثيلهم وصورهم
عند فقدهم (راجع المقالة الأولى من عدد ٢٦ من (منار) هذه السنة) وأكبر شبهة
تولدت من هذه الشبهة ما ذهب إليه بعضهم من أن المذنب العاصي لا يليق به أن
يرجع إلى الله تعالى وينيب إليه بنفسه طالبًا العفو والمغفرة من كرمه ورحمته؛
لأنه ملوث، فلا بد له من واسطة من المقربين المقدسين يقربه إلى الله زلفى،
ويشفع له عند الله سائلاً منه أن يعفو عنه ويمنحه ما يطلب ويريد، تشهد لها آيات
القرآن الكثيرة، اقرأ إن شئت قوله تعالى في مشركي العرب: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: ٩) وقوله
تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن
يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ
أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: ٣١) وفي هذا المعني آيات كثيرة، منها الآيات المتصلة
في سورة المؤمنين التي منها: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّه} (المؤمنون: ٨٨-٨٩) (وقرأ غير أبي
عمرو ويعقوب: لله) {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: ٨٩) ثم اقرأ مع هذه
الآيات قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ
هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: ٢-٣) فالشرك بالعبادة هو الذي كان فاشيًا في الأمم بألوان
مختلفة وأسماء متعددة وصور متنوعة، فجاء القرآن ينعي عليهم هذا، ويحاجهم فيه،
ويمحو شبههم عليه في آيات تعد بالمئات، وكان هذا أهم أصول الدين وأركانه،
ولذلك كانت علامة الدخول فيه كلمة (لا إله إلا الله) والإله هو المعبود، ولأجل هذا
سمي علم العقائد توحيدًا، وإن كانت الكتب التي بين أيدينا قلما تبحث في هذا النوع
من التوحيد وما أزاله من الشرك.
(٢٧) ما هي العبادة: القول المشهور في تفسير لفظ العبادة أنها أقصى غاية
الخضوع والتذلل، ولكن قال أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية لهذا العهد: إن من
تتبع استعمال العرب في كلامهم يجد أنهم لا ينطقون لفظ العبادة على الخضوع
والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما، ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن
يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو، وإنما يخصون لفظ العبادة بالتعظيم الناشئ عن
الشعور بأن للمعظَّم سلطة غيبية وأسرارًا معنوية وراء الأسباب الظاهرة، وخلاف
ما يُعهَد من سائر الخلق، وللعبادة صور كثيرة أشهرها وأعمها الدعاء وطلب قضاء
الحوائج التي تتعاصى على الأسباب المكتسبة، فيتعذر أو يتعسر الوصول إليها،
ولذلك اجتمع المفسرون على تفسير ألفاظ الدعاء بالعبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} (الأنعام: ٧١) وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ
فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) وفي الحديث المشهور الدعاء مخ العبادة
وأصل الدعاء النداء والطلب مطلقًا، أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب
منه، وإذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب
الظاهرة أو طلب منه ما لا يُنال بالكسب كان عبادة، سواء كان اعتقاد السلطه له
لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى، ولا يخرجه عن
معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع كما هو المتبادر من القرآن
الكريم واللغة، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء والاصطلاحات، ولا بالوساوس
والخيالات.
هذا النوع من الشرك لا يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى، فقوله تعالى: {وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونُ} (يوسف: ١٠٦) قيل: إن الآية نزلت في
أهل الكتاب، وقيل: في غيرهم، ولا شك أن أهل الكتاب قد دبت إليهم هذه العقيدة
من الوثنيين الذين مازجوهم وخالطوهم، ولكنهم أولوها وطبقوها على
ظواهر دينهم، ولن يُعدموا من الكتاب آية أو أكثر من المتشابهات يستدلون بها على صحة ما ذهبوا إليه. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة:
٣١) بمعني أنهم اعتقدوا أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى يقربونهم إليه،
يستمطرون لهم رحمته وفضله على ما فيهم من عوج، وأنه تعالى يدفع عنهم النقم
ويغدق عليهم النعم، وإن لم يأخذوا بأسبابها الشرعية إن كانت دينية، وأسبابها
الطبيعية إن كانت معاشية، وليس المعني أنهم سموهم أربابًا وآلهة، أو أنهم
كانوا يُصَلُّون لهم أو يعتقدون أنهم يخلقون ويرزقون، كلا، إن هذا ما كان يُعهَد في
تاريخهم إلى الآن، وكيف يسمون هذا النوع من تعظيم لرؤساء الروحانيين،
واعتقاد الامتياز لهم عبادة، وهم يقولون: لا يعبد إلا الله؟ أم كيف يسمونهم أربابًا
وآلهة، وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ خصوصًا اليهود منهم، ولكن العبرة
بالعمل والاعتقاد، لا بالقول والتسمية كما علمتم آنفًا، ولذلك قال الله (اتخذوا)
ولم يقل (قالوا) بل كانوا يتنصلون من الأقوال التي تخالف نصوص الكتاب أشد
التنصل ويطبقون ما هم فيه عليها، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه وحمله على غير
المراد منه، وقد جاء في حديث البخاري وغيره: لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وقد
صدقت أعلام النبوة، وفشا في أمتنا هذا النوع من الشرك والوثنية الذي كان فيهم حتى
إن بعض الفرق منا زادت على ما كان منهم، بل ومن بعض الوثنيين أيضًا، اتخذوا
من دون الله أولياء وبنوا لهم هياكل في مساجدهم يدعونهم مع التعظيم
والتذلل والخشوع الذي لا يلاحظون مثله في الصلاة ويزعمون أنهم يقربونهم إلى الله
زلفى، ويقولون: إنهم شفعاؤهم عند الله يقضون لهم الحوائج بإذنه، أو يقضيها هو
بواسطتهم، ويقولون: إننا لا نقصد بذلك العبادة، يعنون أنهم لا يسمونه
عبادة، بل انتحل له المؤولون أسماء أخرى كالتوسل والاستشفاع، وهذه جناية على
اللغة تُضَم إلى الجناية على الدين، وسنتكلم على التوسل الآن ونرجي بحث الشفاعة
إلى الكلام في الآخرة؛ لأنه ورد أنها إنما تكون فيها.
التسمية لا تقلب الحقائق {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان} (النجم: ٢٣) ولوكانت التسمية تغير حقيقة المسمى لأمكن
للفقير أن يكون غنيًّا، وللضعيف أن يصير قويًّا، وللصعلوك أن يرقى إلى مصاف
الملوك بكلمة يرمي بها اللسان ويكيفها الصوت.
حدثني رجل من ظرفاء النصارى في لبنان أن مسلمًا اسمه محمد تنصر ودخل
في رهبان دير قزحيا وسمي حنا ففاجأه صوم التنحس أي الذي لا يأكلون فيه من
اللحوم غير السمك، ولا سمك هناك، فشق عليه أكل العدس في كل يوم، فأخذ ذات
ليلة دجاجة من دجاج الدير، ولما جن عليه الليل جعل يطبخها فأحس به من كان
يمر عليه من الرهبان، فكانوا يسألونه وهو يوارب في الجواب فتقدم واحد منهم
وكشف الغطاء عن القدر وقال: وما هذا يا أخ حنا؟ فقال: سمكة، فقال الراهب:
إنها دجاجة، فقال حنا: كلا، إنها سمكة، وبعد تكرار المراجعة قال حنا للراهب:
وماذا يضرك لو سميتها سمكة، وإن كان اسمها في الأصل دجاجة، فقال الراهب:
هذا لا يصح أبدًا. عند هذا قال له حنا: ما هو اسمي الآن؟ فقال: اسمك حنا،
فقال: وماذا كان اسمي من قبل؟ قال: محمد، قال: إذن تغيير الاسم لا يغير
الحقيقة، وأنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأكل
الدجاجة وانصرف من الدير في صبيحة تلك الليلة.
(٢٨) بطلان هذا الشرك: يُعرَف بطلانه بالعقل والنقل، أما العقل فإنه لما
نظر في هذه الأكوان البديعة النظام، ولم ير منها شيئًا يمكن أن يضاف إليه الإيجاد
والإحكام، ولا يمكن أن يكون من قذفات المصادفة والاتفاق - علم أن مصدرالإبداع
والإتقان قوة غيبية، فمن ذلك المصدر كل شيء: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: ٧٨) {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} (النمل: ٨٨) وهو المنفرد
بالإيجاد والإمداد، وأنه هو: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:
٥٠) ثم حكم بأنه حيث كانت القوة الغيبية التي هي وراء الأسباب الظاهرية له
وحده، والسنن الطبيعية والقوى الكسبية منه، فلا يتأتى وجود شيء من غير سببه إلا
منه، ولا يجوز أن يخضع أحد لأحد خضوعًا عن شعور بسلطة غيبية (وهو العبادة
إلا له وحده، فيجب أن يُخص بهذه العبادة وأن يُشكر على نعم الإيجاد والإمداد
بعبادات أخرى، هذا ما يحكم به العقل السليم، وقد نطق به بعض الحكماء، وغفل
عنه أكثر البشر، ولذلك احتيج في بيانه إلى الدين، وأما النقل فقد أوضح هذا أكمل
الإيضاح، فإن القرآن ينادي بلسان عربي مبين بأن هذا دين جميع النبيين {وَمَا
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (البينة: ٥) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا
إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣١)
وهذا تتمة آية:] اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ [المتقدمة، والآيات في هذا المعنى كثيرة،
وهي مصرحة بأن جميع الذين كانوا يدعون، وتطلب منهم الحوائج - ومنهم
الأنبياء والملائكة - لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فضلاً عن غيرهم، اقرأ:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) ] وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ [قد أمر سيد الأنبياء بهذا البيان:] قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا
إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [١ {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨) فحصر الله وظيفته بالإنذار
والتبشير، ومثل هذه الآية قوله تعالى:] قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا [٢] *
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [٣ {* إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: ٢١ - ٢٣) وإذا كان لا يملك للناس الرشد والهداية التي
هي أثر وظيفته - التبليغ - فكيف يملك لهم الضر والنفع والعطاء والمنع؟
] إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [[٤] (القصص:٥٦)
وكما أنزل عليه هذا، وما في معناه كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: ١٠٥) {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) ، أنزل عليه في شأن
المرسلين عامة: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام:
٤٨) قال البيضاوي في تفسيرها: وما نرسلهم ليُقترح عليهم ويُتلهًّى بهم:
{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام: ٤٨) .
فهذه الآيات المحكمة التي جاءت بصيغة الحصر نصوص قاطعة على أن
وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التبليغ عن الله تعالى فقط، ولم ترد آية واحدة
تصرح بأنهم وسطاء بين الله تعالى وبين خلقه فيما عدا هذا , كدفع الضر وجلب النفع
وتوسيع الرزق والتأثير في قلوب الخلق , ونحو هذا مما يطلبه المنحرفون ممن دونهم
كالأولياء، بل الآيات نفت هذا صريحًا كما ذكرنا آنفًا , وعليه كان الصحابة والسلف
الصالح، لا سيما بالنسبة للأموات الذين ينقطع كسبهم بالموت , ولو فرضنا أنه ورد
في الكتاب أو السنة شيء ينافي ظاهرُه هذه النصوص القطعية التي هي روح الدين -
لكان يجب علينا أن نعده من المتشابه، وقد علمتم حكم المتشابه في الدرس الماضي
على أننا - مع عدم ورود هذا - قد بلينا بقوم يحرفون الكلم ويفسرون القرآن برأيهم
فروَّجوا على الناس هذا الشرك بتسميته توسلاً، وتسمية الأولياء وسيلةً، والوسيلة
مطلوبة بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: ٣٥) وإنما فسر أئمة الدين
الوسيلة بالإيمان والعمل الصالح وهو تفسير يشهد له القرآن كله، وهذه الوسيلة
مطلوبة من الأولياء والأنبياء كغيرهم، وأنا أتلو عليكم في هذا آيتين كريمتين
مع تفسير البيضاوي لهما وهما: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} (الإسراء: ٥٦)
أنهم آلهة، {مِن دُونِهِ} (الإسراء: ٥٦) كالملائكة، والمسيح، وعزير {فَلاَ
يَمْلِكُونَ} (الإسراء: ٥٦) فلا يستطيعون {كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ} (الإسراء:
٥٦) كالمرض والفقر والقحط {وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: ٥٦) ، ولا تحويل
ذلك منكم إلى غيركم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} (الإسراء
: ٥٧) هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء:
٥٧) بدل من (واو) يبتغون؛ أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة
فكيف بغير الأقرب؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: ٥٧)
كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء:٥٧) حقيقًا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة. اهـ
حدد الله وظيفة رسله، فليس لنا أن نعطيهم زيادة عما أعطاهم الله، وقد
أخبرونا عنه بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، فليس لنا أن نجعل بيننا وبينه واسطة
في غير تعليم دينه، فلا ندعو غيره؛ لأنه قال: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) ولا نستعين إلا به لأننا نناجيه كل يوم بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) .
أما تعظيم أولئك المرشدين من الأنبياء ووُرَّاثِهم فإنما يكون بما أذن الله تعالى به من الاقتداء بهم والصلاة عليهم والدعاء لهم، وأما زيارة القبور فإنما أذن بها
النبي صلى الله عليه وسلم بعد المنع منها للاعتبار بالموت وتذكر الآخرة كما هو
مصرح به في الحديث الشريف، هذا هو دين الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: ١١٠) .
((يتبع بمقال تالٍ))