مؤتمر الصلح بين الترك وأوروبا في لوزان عرف الترك كيف يعاملون أوروبا في هذا المؤتمر معاملة الأمثال، ويدلون إدلال المنتصر في القتال، وعرف مَن لم يكن يعرف من العالم أن أوروبا المادية لا تحترم إلا القوة، ولا تذل إلا للقوة، ولا تعترف بحق غير القوة، وقد جلبت الدول الكبرى إلى لوزان أممًا كثيرة من الشرق والغرب جعلتها عونًا لها على الترك، فالأرمن طلبوا وطنًا قوميًّا في بلاد الأناضول، كالوطن الذي تؤسسه إنجلترا لليهود في فلسطين من بلاد العرب، وشرذمة من بقايا الآشوريين والكلدانيين يطلبون وطنًا قوميًّا في العراق، وأوروبا هي التي تؤيد هؤلاء وأولئك - لأنهم نصارى - بالمساومة بينهم، ونصارى الشرق مازالوا شر آلة في يد دول الاستعمار المادية تستعملها للتفريق بين سكان البلاد التي تطمع فيها، تُلقي بينهم وبين الأكثرين من أبناء وطنهم العداوة والبغضاء باسم المسيحية التي تأمر بمحبة الأعداء (! !) وتُمَنِّيهم بالسعادة والملك إذا خانوا أوطانهم في خدمتها، وهم أهون عليها من نعالها، ودماؤهم أرخص لديها من غُسَالة أرجلها، وإلا فليؤسسوا الوطن القومي الذي وعدوا الأرمن ومَنُّوهم به حتى حملوهم بالتغرير والتضليل على خيانة دولتهم العثمانية التي كانوا أنعم وأعز فيها من جميع شعوبها حتى اضطرت إلى البطش بهم، عرف العالم كله كُنْه مسيحية دول الاستعمار وغيرتها على المسيحيين بعد تبرؤهم من الأرمن كما تبرأ الشيطان ممن أغراه بالكفر. وكان القبط أعقل نصارى الشرق فاتفقوا مع المسلمين ولم يقعوا في الفخ الذي كان يُرَاد به تضحيتهم- فمتى يعقل من يَدَّعُونَ أنهم أذكى البشر وأحذقهم وأدهاهم ويفيقون من سكر تعصبهم؟ كان الوفد التركي في لوزان أدهى الوفود وأحزمها، فما زال يخضخض وفود الدول العظمى ويمخضها حتى لم يترك لاتحادها عليه مع البلقان قيمة واضطرها إلى تساهل لم يسبق له نظير في معاملتها للترك في المؤتمرات السابقة منذ عُدُّوا دولة أوروبية، وداس في لوزان كل ما كان من عظمة هذه الدول وجبروتها وكبريائها في فرسايل، وسيفر، وسان ريمو ثم إنه لم يقبل المعاهدة التي حررت، وقيل: إنها منتهى ما يمكن من التساهل والسخاء الحاتمي مع الترك، بل حملها إلى المجلس الوطني في أنقرة ليرى رأيه فيها، وقد غلب الدهاء البريطاني الذكاء الفرنسي في هذا المؤتمر فتحول الترك بعده عن فرنسا وتقربوا من بريطانيا، وطفقت جرائدهم- وقد سكتت عن الطعن في الإنجليز- تطعن في فرنسا وتعدها أكبر خصومهم فجعلت تبجح فرنسا بصداقة الإسلام مدة سنتين هباء منثورًا. الوفود العربية في المؤتمر كان للجنة المؤتمر السوري الفلسطيني وفد في جنيف عند اجتماع جمعية الأمم فيها ثم انتقل إلى جنوى عند انعقاد المؤتمر الاقتصادي فيها- فكان هذا الوفد أسبق الوفود القومية غير الدولية إلى لوزان عند الشروع في عقد مؤتمر الصلح فيه، وكان رئيس هذا الوفد الأمير شكيب أرسلان وهو لحسن الحظ صديق للترك قديم يعرفه كبراؤهم وخواصهم، ثم ذهب وفد من فلسطين واتحد بهذا الوفد، وذهب وفدان من مصر واتحدا هنالك أيضًا. واجتهد السوريون والمصريون في استمالة الترك ومطالبة وفدهم بالاعتراف باستقلال القطرين وسائر البلاد العربية عملاً بالميثاق الوطني التركي. وكان الغرض أن يقترح جعل ذلك في معاهدة الصلح، وبأن يتوسل إلى مؤتمر الصلح بقبول عرض مطالبهما له رسميًّا فلم ينجحا في هذا ولا ذاك. وكل ما كان أن عصمت باشا رئيس الوفد التركي صرَّح بالاعتراف بأن الترك قد تركوا لمصر والولايات العربية العثمانية أمر تقرير مصيرها واستقلالها وكانت فائدة ذلك أمام الدولتين المختلفتين لهذه البلاد أنهما تحولتا عن طمعهما بأن ينص في معاهدة الصلح على تقرير الحالة الحاضرة في مصر والانتداب في سوريا وفلسطين وقنعتا بأن تحدد بلاد الدولة التركية تحديدًا يخرج منها سوريا والعراق، بله إفريقيا العثمانية، وفائدة هذا سلبية محضة. وهاهنا وقع الخلاف في ولاية الموصل فالترك يعدونها من بلادهم التي حددوها في الميثاق الوطني، وقد ناقشهم الوفد البريطاني في ذلك باسم دولته الوصية (المنتدبة) على العراق وأقرَّها على ذلك الملك فيصل ووالده الملك حسين وإنما جعلتهما ملكين لمثل هذا التأييد الذي هو لازم الحماية التابعية. هذا وإن كلاًّ منهما قد أرسل مندوبًا إلى لندن ولوزان، فكانا في لوزان تحت تصرف لورد كرزون قولاً وعملاً، ولما اعترف عصمت باشا باستقلال البلاد العربية، وذكر منها الحجاز بسعي الأمير شكيب أرسلان، بادر مندوب الملك حسين بتطيير النبأ إلى مولاه بالبرق ليوهمه أن هذا كان بعض ثمرات سعيه. ثم بلغ شركة روتر أن عصمت باشا ذكر في ضمن اعترافه أن الملك حسينًا رئيسُ الأمة العربية وأكبر زعمائها الممثل لها، فطيرت هذه الفرية في الأقطار؛ لتكون توطئة وتمهيدًا لتنفيذ المشروع الذي تعده وزارة المستعمرات البريطانية للبلاد العربية. وإن عقل عصمت باشا ليربأ به أن يفتات على الأمة العربية بالصدق فكيف يفْتَات بالكذب. كيد السياسة البريطانية للبلاد العربية لم تنجح وزارة المستعمرات البريطانية النجاح التام بإقناع دافعي الضرائب من البريطانيين وممثليهم في مجلس النواب بأن نَصْبَهم الأمير فيصلاً ملكًا على العراق والأمير عبد الله على شرق الأردن - يضمن للدولة البريطانية استعمار فلسطين والعراق بدون نفقة كثيرة ترهق دافعي الضرائب عسرًا، ويؤسس لدولتهم إمبراطورية عربية جديدة تفيض على الخزينة تبرًا، وعلى المستعمر السكسوني عسلاً وخمرًا، ورأت هذه الوزارة في عهد المحافظين- الذين هم أشد قومهم جشعًا وحرصًا على الاستعمار، وضراوة باستعباد الأحرار- أن الترك مُصِرُّونَ على انتزاع الموصل من ملك العراق، وأن استيلائهم على الموصل يُمَكِّنُهم من الاستيلاء على بغداد في كل وقت بكل سهولة، وأن عرب العراق كغيرهم يفضلو الترك على البريطانيين بعد أن بلوهم وعرفوا إفكهم وخداعهم، وذاقوا مرارة جبروتهم وظلمهم، فلا يمكن أن يحاربوا الترك معهم أو تحت قيادتهم لأجل أن تكون العراق مستعمرة هندية لهم. ومن البديهي أن بريطانيا لا تستطيع قتال الترك في العراق وحدها، وضلع العرب معهم عليها، ولو تصدت لذلك لقامت عليها الأحزاب البريطانية بأسرها، وخشي أن يمتنعوا من بذل مئات الملايين من الذهب والرجال، في هذه المقامرة التي تجر وراءها الخزي والنكال، وشدة وطأة المقاطعة في الهند، وشبوب نيران الثورة في فلسطين ومصر، ورأت هذه الوزارة أيضًا أن بعض الجرائد والأحزاب وكبار الساسة من الإنجليز يطالبون الحكومة بالجلاء عن العراق وفلسطين من قبل الاستهداف لهذه الأخطار، ورأت أن جعل فلسطين مملكة يهودية فاصلة بين مصر وسائر بلاد العرب ليست من الهنات والهينات، وأنها قد صارت من المسائل الإسلامية العامة. فالهند قد وضعت استقلال فلسطين وسائر البلاد العربية في برنامجها، وإمام اليمن على عزلته قد احتج بها عليها، وكاد أهل اليمن يُجْلُونَ اليهود من بلادهم لأجلها، حتى إن حكومة عدن البريطانية أجابت اليمن بأن مسألة احتلال فلسطين عرضية مؤقتة وأنهم سيتركونها لأهلها بعد بضع سنين ريثما تستقر الأحوال! وهذا الجواب من أسلوب الحكيم فإنهم إنما يعنون باستقرار الأحوال حل مشكلات الكون الكبرى وتوطيد سلطانهم حيث وضعوا أقدامهم. رأت وزارة المستعمرات كل هذا وأكثر منه مما نعلم ومما لا نعلم فرجَّحت إحداث تغيير جديد في شكل إدارة البلاد العربية وتجديد الضغائن والبغضاء بين العرب والترك قطعًا لطريق الجامعة الإسلامية، قبل أن يستيقظ جمهور الشعب العربي من رقاده، ويثوب الجمهور المخدوع منه إلى رشاده، ويدوس الزعماء المتجرين به وببلاده، وهي مراقبة لما حدث من تحول العراق عن فيصل وعدم انخداعه بالمعاهدة، وفلسطين عن عبد الله، وأنه لما عاد من زيارتهم في أوروبا لم يزره ولا هنأه من أهلها أحد، على ما بثه - ويبثه - أُجَرَاؤُهُ من الدعاية (البوربغندة) في شأن رحلته وفوائدها المنتظرة (؟) كما أنها عالمة بما كان من فشل حسين في محاولة استمالة الإمامين يحيى والإدريسي، وليس لهم أحد يعتمدون عليه من كبراء الأمة العربية غير أهل هذا البيت الذي هو رئيسه - لا رئيس العرب- يطالبها باسم العرب - لا باسمه - بإنجاز ما وعدته من تأليف مملكة عربية بقوتها وتحت وصايتها وحمايتها، بشرط أن يكون هو رئيسها، تمتد من البحر الأحمر إلى حدود الأناضول تحتل هي ولاية البصرة منها لسائر الولايات المستشارين والموظفين الذين يديرون شؤونها. * * * مشروع الشكل الجديد لاستعمار البلاد العربية فالمشروع الذي تدرسه وزارة المستعمرات مبنيٌّ على التوفيق بين مقاصد معاهدة سايكس بيكو ووعود (السر هنري مكماهون) للملك حسين في أثناء ما دار بينهما من المكاتبات التي عرفها قراء المنار في المجلد السابق منه (م ١٣) . ولما كان هذا التوفيق لا يتم إلا بتوقيف فرنسا عليه، وإقناعها بجعل داخلية سورية داخلة في المملكة العربية الشريفية، والقناعة المؤقتة بجعلها منطقة نفوذ فرنسية، وحصر الانتداب المباشر المؤيد بالاحتلال العسكري في المنطقة الساحلية كما تقنع إنجلترا بجعل العراق منطقة نفوذ بريطانية وحصر الحكم الاحتلالي المباشر في ولاية البصرة - لما كان الأمر كذلك كاشفت وزارة الخارجية البريطانية حكومة الجمهورية الفرنسية بعزمها معتمدة في إقناعها على التخويف من استيلاء الترك على سوريا والعراق والقيام بحركة الجامعة الإسلامية التي يمتد خطرها إلى شمال أفريقيا الفرنسي فيفسده على ولية أمره كما يفسد الهند ومصر على الدولة البريطانية - وكانوا قد مهدوا السبيل لذلك بتدريب الأمير عبد الله على استمالة فرنسا إلى شخصه قبل سفره إلى لندن وفي أثناء وجوده في أوروبا. ومن حججهم التي قويت بعد إعراض الترك عن فرنسا في أواخر العهد بمؤتمر لوزان أن أسرة الملك حسين هي الأسرة الوحيدة التي أشربت دون غيرها من البيوتات العربية بغض الترك والحقد عليهم. وكان الغرض من هذا السعي أن يجعل الأمير عبد الله ملكًا على شرقي الأردن وولاية دمشق وحلب ما عدا سواحل حلب وما ألحق من ولاية دمشق بلبنان الكبير، وبذلك يسهل حمل أهل هذه البلاد وأهل العراق على مبايعة الملك حسين بالخلافة، فينشق العالم الإسلامي فيها وتستحكم العداوة بين الترك والعرب ويتيسر للدولتين ضرب أحدهما بالآخر عند الحاجة إلى ذلك، وتدوم لهما السيطرة على البلاد العربية. وقد درست وزارة خارجية فرنسا هذا المشروع فترجح عندها عدم الثقة بهؤلاء الحجازيين صنائع الإنجليز الذين لا تأمن فرنسا إغراءهم بإخراجها من سوريا عند سنوح الفرصة وإرادة الإنجليز ذلك، وقيل: إنها كانت تدرس معه مشروعًا آخر مضادًّا له، وهو جعل هذه البلاد تحت سيادة الترك إذا رضوا بأن تكون مناطق نفوذ لهم وللإنجليز وبذلك يقضون على النهضة العربية ويكتفون أخطارها ولكنها لما تقرر هذا ولا ذاك. ولما شعر الناس في سوريا بهذه المفاوضات والمباحث، انبرى أصحاب الأطماع يتزلفون إلى حيث يتخذ كل منهم له يدًا يستغلها عند تنفيذ المشروع المنتظر ولهجت بذلك جرائد سوريا ومصر منذ بضعة أشهر فكانت شقشقة هدرت وتلتها أخرى ثم قرتا في سوريا وكذبتهما الحكومة المحتلة، وإن لم يصدق كل الناس تكذيبها في وقتها. وأما الدولة البريطانية فلا تزال تدرس المشروع وقد توسل أعوانها في العراق بطلب الترك للموصل إلى تنفير العراقيين منهم من حيث أظهرت هي الميل إلى إنجاز الوعد باستقلالهم والاستعداد للجلاء عن بغداد لولا أن قام الملك فيصل يستغيث بها أن لا تفعل وشهد وفده لديهم أو صنيعتهم عنده (جعفر باشا العسكري) بأن خروجهم من العراق نكبة ما بعدها نكبة (!) وهل هذه الشهادة إلا شهادة عليه وعلى مولاه الملك فيصل بما يفهمه كل أحد (؟) وهل يخفى على الأكمه أن هذه الدولة إذا لم تخرج في مثل هذه الفرصة من العراق فلن تخرج منه بعد ذهابها إلا بانقلاب جديد في العلم تزلزل به الأرض زلزالها، وتخرج أثقالها، ويتقوض صرح الإمبراطورية البريطانية كلها. ولن يكون هذا بعمل العراق بل لن يكون للعراق عمل في الوجود بعد استقرار السيطرة البريطانية عليه إلا زرع القطن للمعامل الإنجليزية واستخراج البترول لها وما أشبه ذلك، وماذا يهم فيصل وآل فيصل إذا شقي العراق واستعبد وهو متمتع فيه بلقب الملك وأبهته ونعمته وفخفخته؟ ألم يكن يسعى لمثل ذلك في سوريا وكان كل الخلاف بينه وبين الوطنيين عليه؟ بلى وقد ظهروا عليه حين أعلنوا الاستقلال واضطروا إلى اكتفاء شر سعيه للوصاية الأجنبية بجعله ملكًا عليهم حتى إذا ما ألح عليه الجنرال غورو بإعلان الوصاية الفرنسية أجاب بالقبول، قبل أن يوجه إليه الجنرال الإنذار المعلوم، وهذا أمر لم نعلمه إلا من عهد قريب. ولذلك لا نستبعد الآن أن يكون الإنذار عن تواطؤ بينهما؛ ليتخذه فيصل ذريعة إلى إقناع المؤتمر السوري العام وسائر زعماء البلاد بقبول الوصاية التي بذل جهده قبل ذلك في إقناعهم بها فأبوا- ويؤيد هذا انتظاره الاحتلال الفرنسي في ضواحي دمشق حتى إذا ما تم عاد إلى قصره؛ ليقوم بأمر الملك تحت وصايته وظله (؟ ؟) ولو رضي الفرنسيس أن يبقى فيصل في دمشق لرضي هو بمحاولة إسلاس للبلاد لهم بدون نفقة تذكر كما فعل أخوه للإنجليز في شرق الأردن، ولكان هذا شرًّا للبلاد لا خيرًا لها، ولو أن الإنجليز جعلوه هذا ملكًا على فلسطين كلها لكان تنفيذ الوصاية والوطن القومي لليهود أقرب مثالاً وأقل نفقة، ولكن الله نجَّى فلسطين من هذه النكبة؛ لأنه أراد أن ينفخ فيها روح القومية والوحدة الصحيحة، فلولا هذا الاتحاد بين عرب فلسطين المسلمين والمسيحيين لحكمنا على هذه البلاد حكمًا محزنًا مخزيًّا، وقد كان من فوائد هذا الاتحاد واليقظة أن علم الشعب الفلسطيني كله ما كان خفيًا إلا على أفراد منه وهو أن الأمير عبد الله الحجازي صنيعة الإنجليز كأبيه وأنهم موطنون أنفسهم على أن يكونوا ملوكًا في دائرة الإمبراطورية البريطانية المرنة كسلطان زنجبار ونظام حيدر آباد وراجا كشمير وأمثالهم، أما وقد عرفت حقيقتهم فقد صاروا عاجزين (عن تسليم البضاعة) . نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبأنه لا يمكن أن يتفق الإنجليز مع هؤلاء الملوك الحجازيين إلا على استعمار البلاد العربية واستعمار الشعب العربي، وأن كل تغيير يجددانه في البلاد العربية تجارب بريطانية كالتجارب التي نراها في مصر، فيجب على الأمة العربية أن لا تثق بشيء يجري بين الفريقين، عملاً بالحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .